أطلق (العتروس)!
يكتبه : د. محمــد قماري/
سكان النصف الجنوبي من الكرة الأرضية يكرهون الصيف، ولقد كتب عباس محمود العقاد في سيرته الذاتية هذا العنوان (أكره الصيف)، وقال: «من نقائض الصيف أن يمتد فيه وقت العمل، وتقصر فيه القدرة عليه عند معظم العاملين، فيبلغ النهار أربع عشر ساعة وتهبط الطاقة إلى بضع ساعات، فلا هو بالموسم العامل ولا هو بالموسم المريح!».
وإذا كان أهل شمال كوكبنا يجدون في الصيف موسما للهروب من طغيان البرد، واحتجاب الشمس أشهرا عديدة، فيتحللون فيه من ثقل ملابسهم ويعرضون جلودهم لأشعة الشمس، فإننا أهل جنوب الأرض إنما (أولعنا بتقليدهم)، حتى في طلب السمرة لجلودنا السمراء!
ومصداقًا لكلمات الأستاذ العقاد، فإن أغلب الناس قد اعتادوا على (العطل) في الصيف والانصراف عن العمل إلى الدعة والاستجمام، وعندما جمع طه حسين بعض مقالات كتبها في الصيف في كتاب جعل له عنوانًا (من لغو الصيف)!
وقد جلست اليوم لأكتب، فإذا بقطرات العرق تنساب كالسواقي على رقبتي، وكدت أن انصرف عن الكتابة، وتذكرت (لغو الصيف)، فلمَ لا أكتب شيئًا طريفًا، لا يرهق القارئ ولا يزيد من تصبب عرقي، وتذكرت قصة هشام مع (العتروس)، والعتروس اسم يطلق في الجزائر وتونس على (التيس) ذكر الماعز، وهي لفظة لم ترد في معاجم العربيّة بالواو بل جاءت لفظة (العتريس)، ونقرأ في لسان العرب: (العَتْرَسَةُ: الغَصْب والغَلَبَة والأَخذ بشدِّة وعُنْفٍ وجَفاء وغِلْظَةٍ، وقيل: الغَلَبَةُ والأَخْذُ غَصْباً. يقال: أَخَذَ مالَه عَتْرَسَةً… والعِتْريسُ والعَنْتَريسُ: الداهية. والعِتْريسُ: الذَّكَرُ من الغِيلانِ)، وربما قلبت العامة الياء في عتريس واوًا لتتناسب مع في (التيس) ذكر الماعز من غضب وغلبة وعنف وفحولة.
ومن ذكرياتي الطريفة مع المجاهد المثقف الكبير، الأستاذ محمّد العربي دماغ العتروس، رحمه الله، أنه كان يتحسس من نطقي للقبه (دماغ العتروس)، إذ كنت انطقه بالفصحى بكسر الدال، وكان يظن ذلك من باب التعريض بالسخرية، فتخرج كلماته قوية تؤكد أن (العتريس هو الفحل القائد)، وبعد ألفة ومحبة بيننا حدثني مرة عن قصة ترشحه للنيابة في االقسم الثاني من انتخابات 1948، وعن منع فرنسا مناضلي (حزب الشعب) من الحملة الانتخابيّة، فأهتدى بعض المناضلين إلى حيلة (الدعاية الصامتة)، فكانوا يشترون دماغ تيس، ويبرزونه في القفة، ويجوبون به الأسواق في (الحروش) وضواحي سكيكدة، ويشيرون إلى الناس أن انتخبوا (دماغ العتروس)، وهكذا فاز دماغ العتروس في الانتخابات!
أعود إلى قصة هشام والعتروس، إذ يحكى أن عائلة ريفية كانت مجتمعةً على مائدة العشاء، تحت ضوء قنديل تقليدي، وما راعها إلى صوت ركض التيس منطلقا من رسوته، فصاح رب الدار في ابنه هشام: أن انطلق واقبض العتروس! ففي الظلام لا تأمن الأسرة من انطلاقة ذلك الفحل، وربما ذهب إلى غير رجعة.
ولكن انطلاقة الشاب هشام كانت أنكى، فقد ضرب في طريقه القنديل فكسره، وركل برجله مائدة الطعام فكفتها، وداس في طريقه أخاه الرضيع النائم فأيقظه من نومه، وساد الهرج والصياح يشق صمت ذلك البيت الهادئ، وجعل رب الأسرة يستغيث: اقبضوا هشام! اقبضوا هشام! خلوا سبيل العتروس!
وتذكرت تلك الحكمة التي قذف بها عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في وجه قوم زعموا أنهم أشد تنسكًا من الصحابة، فأنكر عليهم فعلهم، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: (وكم من مريد للخير لن يصيبه)…وفي واقعنا كم من أقوام هي أشد من غضبة ورعونة (العتاريس)، فإذا حدثتهم قالوا: إنما نريد الخير والصلاح.
لقد أخطأ رب الأسرة حين انتخب من أبنائه أقلهم خبرة بإيقاف خطر محتمل، فإذا به يقع في خطر حقيقي، وكان يجب عليه أن يرشح من أفراد أسرته من يقدر الخطوة قبل الخطو، ويبصر مواقع رجله قبل القفز، ويفقه معنى تلك القاعدة الذهبية (العلم قبل القول والعمل).
إن الأمم الراشدة هي التي تراهن على عقولها الذكيّة، لأنها إن لم تجلب خيرا لن تحدث فسادا، وإذا قادت سفينة المجتمع فإن في قيادتها نجاة المجتمع كله، لأنها لا تندفع حيث يجب التراجع ولا تتردد حيث يجب الإقدام، وتعمل وتقول على ضوء هداية وبصيرة العقل، والحسن البصري يقول: (لِسَانُ الْعَاقِلِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ، فَإِذَا أَرَادَ الْكَلامَ؛ تَفَكَّرَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ قَالَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَمْسَكَ، وَقَلْبُ الْجَاهِلِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ، فَإِنْ هَمَّ بِالْكَلامِ ؛ تَكَلَّمَ، لَهُ وَعَلَيْهِ).