من تراثنا

رسالة المعلم في التربية

أ.د. مولود عويمر/

يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب بالمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.

ولد أبو القاسم خمار في مدينة بسكرة في عام 1931. تلقى تعليمه بمسقط رأسه. انتقل خمار إلى معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة حيث تحصل على شهادة الأهلية. ونظرا لتفوقه العلمي أوفدته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لمواصلة دراسته في دار المعلمين الابتدائية بمدينة حلب، ثم التحق بكلية الآداب بجامعة دمشق حيث نال شهادة الليسانس في علم النفس.
كلفه الشيخ محمد الغسيري ممثل جبهة التحرير الوطني بدمشق بإدارة مكتبها الاعلامي، وكان يقدم برامج في «صوت الجزائر» بإذاعة دمشق. وكتب في الصحف والمجلات السورية. وبعد استعادة الاستقلال والسيادة الوطنية، عمل محمد بلقاسم خمار مستشاراً في وزارة الشباب، ثم في وزارة الإعلام والثقافة. ثم انتخب أمينا عاما لاتحاد الكتّاب الجزائريين.
نشر أبو القاسم خمار المقال الآتي في مجلة «القبس»، العدد 3 الصادر في يناير 1969. والقبس أصدرتها وزارة الأوقاف بين مارس 1963 وجوان 1970، وصدر منها 21 عدداً، وترأس هيئة تحريرها الأستاذ التلي بن الشيخ.
في هذا المقال اللطيف يلخّص الأستاذ أبو القاسم خمار خبرته في مجال علم النفس التربوي وحصيلة قراءاته في هذا المجال بالاسترشاد بأكبر الخبراء التربويين المعاصرين من أمثال العالم السويسري سان بياجي والعالم الأمريكي جون ديوي من أجل الارتقاء بمستوى المعلم وتبيان الشروط الملائمة لنجاح عملية التعليم والتربية التي تعتبر أصعب الأعمال أداءً وأعمق تأثيرا على مصير المجتمع. ومع ذلك، كان يلح دائما على الالتزام بقيم المجتمعات العربية والإسلامية، والتفتح على المناهج التطبيقية المعاصرة والاستفادة منها حتى لا يبقى المعلم مثاليا ولا ينشئ أجيالا بعيدة عن الواقع.
*** *** ***
«من المؤكد أن الانسانية منذ تاريخها البعيد وخلال تطوّرها الحضاري النامي، مهما أعطت للمعلم من حب، وتقدير، وإجلال لا يمكن أن تفيه ما يستحق من تعظيم، وتكريم، وتقديس. إنه مركز الحركة والرفع فى مجال التطوّر البشري السامي، وأنـه نقطة انطلاق الشعوب نحو حرية الفكر، وتحقيق التقدم، وهو مصباح الأجيال ودعامتهم، في عتمة العجز، يقودهم نحو آفاق المستقبل السعيد، وهو رسول الهداية، المؤتمن الأمين سلاح المجتمع، وسيد مصير الأمة …
إن المعلم كان نعم الجندي المكافح الشجاع الذي عبّد ومهّد بصبره وتجاربه وثباته كل العثرات، والعقبات التي اعترضت سبيل تقدم التربية، إنه هو الذي أوصلها إلى ما هي عليه الآن، بعد أن كانت في بداوتها تتخبط بين الأخطاء، والأوحال، والقيود …
لقد كانت التربية في أعلى درجات المثالية، تهدف إلى إعداد الفرد للحياة الاجتماعية … أي صنع الإنسان القادر على حماية نفسه، بقطع النظر عن حقيقة الآخرين. أما هدف التربية الحديثة، فهو يسعى إلى إيجاد التوافق بين حقوق الفرد، وواجباته الاجتماعية واحلال توازن بينهما أي بين النمو الذاتي المتكامل، والسعادة الاجتماعية. ويقول جون ديوي – عن التربية: أنها عملية تشكيل الخبرة، مدعمة بالقيم الاجتماعية .. وذلك بزيادة خبرة الفرد، مع استطاعة السيطرة على قواه … حتى يتحقق التلاؤم والانسجام بين كل أفراد المجتمع… لقد كانت التربية، تعمل على خلق الفرد الناجح، أما اليوم، وخاصة لدى شعوب العالم الثالث، فإن رسالتها تتركز في خلق المواطن الصالح.
إن الدول المتقدمة، صاحبة الشأو البعيد في ميادين العلم والصناعة، والتنظيم الاجتماعي … إن هذه الدول قد لا تحتاج أو تهتم لما نحتاجه نحن ونهتم به من تطبيقات لقواعد تربوية حديثة تساعدنا على حفظ كياننا، وصيانة مكتسباتنا، وبناء مجتمعنا، كما نريد له أن يكون. ومن هنا نلاحظ الفارق الكبير بين دور المعلم في الدول المتقدمة، ودوره فى الدول النامية.
إن المعلم الحق عندنا هو ذلك المناضل الطلائعي، الملتزم بمبادئيْ الثورة والشعب، والمتشبِّع بآمال وثقافة وتاريخ أمته، والمقتنع عن إيمان بأن واجباته أولى من حقوقه، وأتعابه أبجل من راحته، ورسالته التربوية ليست لها حدود. وهذا بالرغم من أن مهمة المعلم التربوية والتعليمية هي من بين أصعب وأخطر المهمات، ولا يقدر على تحمل مسؤولياتها إلا القوي الصبور.
ولا يفوتنا أن نسجل بأن واجب المعلم في المدرسة الابتدائية، يفوق بكثير واجب الأستاذ الثانوي أو الجامعي من ذوي الاختصاصات التي لا يترتب عنها من مشاكل وصعوبات مثلما يترتب عن تنوع المواد الدراسية، في المدرسة الابتدائية.
كما لا يفوتنا أن نراعي فى المرحلة الابتدائية أنها مرحلة الطفولة الأخيرة وبداية سن المراهقة، حيث تختلف مظاهر النمو، ويبدأ تأزم الانفعالات مع رغبة الأطفال في اكتشاف الحياة، مما يجعل أي أثر سواء كان نافعا أو ضارا له أبلغ التأثير فى تكوين شخصيتهم، ومستقبل حياتهم.
إن الطفل -كما يقول علم النفس-: هو مجموعة قدرات، تنزع للتعبير عن نفسها، وأن دور المعلم في تربية هذا الطفل، يتحقق عندما يستطيع ذلك المعلم، أن يثير اهتمام الطفل وأن يجعله هو محور النشاط الموجب، مع مراعاة الفروق الفردية، والجوانب النفسية لدى الطفل، ومع العمل على أساس أن المادة وسيلة لا غاية، وأن الهدف المنشود هو تحقيق النمو المتكامل، مع تكافؤ الفرص.
إن الفرق بين عمليتي التربية والتعليم فرق واضح، وأن المدرسة الناجحة هي التي تعرف كيف تلائم بين هذين العمليتين، وأن جيلا غنيا بمبادئه الوطنية، وبقوة إرادته في النصر، وصموده، وجديته، لخير ألف مرة من جيل غني بالشهادات العلمية ولا يعرف أين يضع أقدامه …
إن من حق المعلم أن يعد نفسه ويقوي شخصيته، وينمي معلوماته فى حقل عمله، وفي مجال نشاطه. أما أولئك الذين ينتمون إلى مهنة التربية والتعليم، بدون أن يتوفر فيهم أي ميل فطري أو مكتسب لها، وليس لهم من غاية سوى قضاء مآربهم الشخصية أو اتمام دراستهم الخاصة، أو لأنهم لم يجدوا عملا في مكان آخر …
أما هؤلاء فهم في الحقيقة عالة، وعرقلة في سير التربية والتعليم …
من المتفق عليه أن مشكلة عصرنا الأساسية هي مشكلة الحرية، وأن التربية هي صاحبة المسؤولية الكبرى في تحقيق الانسان الحر في المجتمع الحر، والمتحرر من كل آثار الماضي، وبقاياه، وأخطاء الحاضر، وعواقب المستقبل السيئة.
وإن المعلم وحده فقط، هو القادر على تنمية الشعور بالحرية لدى الفرد والجماعة … ولاشك أن تربية جيل من الأحرار تكلِّف أكثر وأكثر، من تربية جيل من العبيد التافهين. وهذا ما يلزم المعلم، أن يتفرغ لمهنته التربوية، وأن يعيش لأجلها ولو /جنديا مجهولا/ أو يفارقها إلى الأبد.
قد يكون المعلم عندنا محروما من كثير من الامتيازات والترفيهات وتكون مدارسنا ضعيفة الامكانيات المادية … وإلى جانب هذا لا ننسى أن أغلب معلمينا كوّنوا أنفسهم في ظروف بالغة القساوة والإرهاق، وأن أغلب تلاميذنا يتابعون دراستهم بصورة مستعجلة وغير متكاملة.. ومع ذلك فإن مثل هذه النقائص تحتم أن يكون دور التربية الصحيحة الحصانة الوحيدة وهو الغاية والنتيجة المرجوة التي يمكن أن ترفع من شأن هذا الوطن.
وفي اعتقادي أن نشر الوعي الوطني، وتربية الأطفال على أسس قومية واضحة سليمة بشكل أحسن ضمانة لمستقبل البلاد والنشء.
إن الذين ينصحوننا أن نتنازل عن شخصيتنا العربية، وأن ننفصل عن إرثنا المعنوي، وتراثنا القيّم، بحجة أن نواكب نهضة العلم الحديث ونساير روح التطوّر العصري هم في حقيقتهم دساسون متآمرون أو مخطئون. وهذا ما يجب على أجيالنا أن تعرفه.
إن ثقافتنا، وتاريخنا، ولغتنا العربية هم الثالوث المقدس الذى يكوِّن شخصيتنا، وثورتنا الاجتماعية وهَمّ المصير الذي ليس للجزائر غيره من مصير… وهذا ما يجب على أجيالنا أن تؤمن به …
إن من المسلم به أن التربية الحديثة لم تعد تنظر إلى الطفل على أساس أنه رجل صغير أو أنه شر كله … كما أنها أصبحت تحتقر تلك الفكرة القائلة: العصا لمن عصى، والعصا خرجت من الجنة بل وتعاقب على من يعمل بها … وأمام ما نشاهده واقعيا، وهو ليس في حاجة إلى شرح أمام كل مظاهر نقص التربية في مجتمعنا، يجب أن نطرح مشكلة التربية بكل دقة، وصراحة، وجدية، وهذي هي مشكلتها العظمى:
كيف نستطيع أن نلائم في مدارك النشء بين معطيات المواد العلمية، ومفاهيم العصر، وبين ما نهدف إليه نحن من قيم اجتماعية وعقائد ثورية، وأساليب سلوكية تعبّر عن شخصيتنا المستقلة، وأهدافنا في نشر ألوية الحرية والديمقراطية بين جميع المواطنين، ثم بين كل أفراد المجتمع الانساني الكبير.
إننا إذا استطعنا أن نلائم ونرسِّخ في مدارك أطفالنا مثل هذه المفاهيم نكون بحق قد عرفنا كيف نبلِّغ الأمانة، ونؤدي رسالة التربية، في ابداع المجتمع الراقي المنشود. ربما تبادر إلى الذهن أن هذه المشكلة لا تستدعي أية أهمية، نظرا لعدم وجود أي تنافر أو تعارض بين معطيات العصر الحديث، وما نهدف إليه نحن من قيم، وبعث للمبادئ الثورية الاشتراكية واحياء لتراثنا، وشخصيتنا، وكياننا الحضاري.
إلا أننا عندما نتعمق صميم القضية نجد أن ما يقدمه لنا هذا العصر، هو خليط من التناقضات الحادة، إن على مستوى المعلومات الثقافية، أو على مستوى العادات، والتقاليد.
إن أجيال الشعوب في هذه المرحلة تتلاقى داخل المدرسة وحول عملية التعليم، تتلاقى كلها في نقطة ثقافية واحدة إذ كلهم يتعلمون الحساب، والجغرافيا والتاريخ، وعلم التشريح… كما أنهم يتلاقون بصورة تكاد تكون شاملة أمام إنتاجات الدعاية للدول الكبرى من أفلام، ومجلات، وموسيقى، وأغان، وأزياء، وأنماط السلوك.
وإن كل هذه المواقف والمظاهر التي تبدو وكأنها تبشر بوحدة الانسانية نتيجة لتقدم العلم، وتطوّر المواصلات ونشاط الاختراعات هي في الحقيقة نذير تفكك، وانحلال، وضعف بالنسبة للشعوب الناشئة إذا لم تبادر بإيجاد الوسيلة الناجعة للحفاظ على وحداتها الداخلية وليس هناك من وسيلة كالتربية النابعة من صميم شعوبها.
إن أجيالنا معرضة لأن تكون مزيجا من الشباب الفرنسي، والشباب الأمريكي، والشباب السوفييتي، مزيجا من الاحتكاريين الانهزاميين ومن الناقمين المتطرفين، ومن الرجعيين المتزمتين إذا لم نفتح أبواب التربية أمام أبواب التعليم، ولم نوجِّه من طاقاتنا الداخلية تيارات أساسية تجابه بوعي واقتناع تيارات العواصف الخارجية.
إنه من غير المنطق أن نغمض أعيننا أو نسد آذاننا بالنسبة لما يقع خارج وطننا من خير أو شر … من آمال أو آلام … إن ذلك لا يتماشى مع اقتناعاتنا بضرورة توفير الحرية والديمقراطية في مجال التربية والتعليم. ومن غير المنطق أيضا أن نقف مستسلمين بدون سلاح، بدون أرضية، بدون تأثير في الأحداث، وأن الذي ينفعل بدون تفاعل، ويتأثر بدون تأثير، وينجرف مع كل هبة ريح، هو إنسان بلا شخصية وبلا أي وزن. وإننا نربأ بمعلمينا أن يكون جيلهم بلا وزن .. لأنهم هم مركز الثقل في وجودنا، وأخلاقنا، وهم المحور الذي تتمركز عليه كل قيمنا التربوية».

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com