الخاطرة الخامسة: نظريات التغير الاجتماعي

أ. مرزوق خنشالي */
قال الله تعالى: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين» [سورة:البقرة، الآية: 251 ]
يُرمز للتغير الاجتماعي بأنه تغير الآليات والأساليب المتبعة داخل الهيكل الاجتماعي، ويشمل تغييرات في الرموز الثقافية، أو القواعد السلوكية، أو المنظمات الاجتماعية، أو أنظمة القيم…
ويُعرّف علماء علم الاجتماع التغير الاجتماعي بأنه تغيرات في التفاعلات والعلاقات البشرية التي تبدل المؤسسات الثقافية والاجتماعية، وتتحقق هذه التغيرات مع مرور الوقت، وينتج عنها عواقب وخيمة طويلة الأجل على المجتمع.
نظريات التغير الاجتماعي
يعد التغير الاجتماعي أمرًا حتمي الحصول في المجتمعات، ومن الطبيعي أن تمر المجتمعات بتغييرات قد تعرف أسبابها كما قد تكون غامضة، ولقد اهتم مجموعة من الفلاسفة، وعلماء الاجتماع بوضع نظريات تهتم بدراسة التغير الاجتماعي، وتأثيره على المجتمعات. «وتطورت أفكار التغيير الاجتماعي من أواخر القرن التاسع عشر، عندما بات التطور هو الأنموذج الشائع لفهم التغيير البيولوجي، وقد استمر التطور على هذا المبدأ وتأسس عليه على الرغم من وجود النماذج الأخرى التي دعمت المفاهيم الحديثة للتغييرات الاجتماعية».
وعلى مرّ التاريخ توصل علماء الاجتماع إلى ثلاث نظريات رئيسة للتغير الاجتماعي – يعتورها جدل طويل نقتصر هنا على ذكرها لضيق المجال – ، وهي:
النظرية التطورية
احتلت النظرية التطورية لظاهرة التغير الاجتماعي في القرن التاسع عشر مكانة بارزة، وقد تمسك علماء الاجتماع بنظرية «داروين» للتطور وطبقوها على المجتمع، وقد كان «أوغست كونت» يؤمن بالنموذج التطوري؛ ووفقًا لهذه النظرية فإن المجتمع يتطور دائمًا بمستويات عُليا، فمثلًا تتطور الكائنات الحيَّة من مرحلة بسيطة حتى تُصبح كائناتٍ أكثر تعقيدًا، وذات الأمر ينطبق على المجتمعات، ولذلك فإن المجتمعات الجامدة التي لا تتكيف بالسرعة المطلوبة تتعرض للتخلف والتأخر عن بقية المجتمعات المحيطة بها.
ويرى أوغست كونت بنظريته أن أي تغير يحدث داخل المجتمع يجب أن يمر بمجموعة من المراحل، والخطوات حتى يتم تحقيقه بشكل صحيح، وحتى يتحول من حالته الأولية، إلى الحالة العمومية، والمقبولة بين كافة الناس.
وقد أكد مؤيدو التطور الاجتماعي أن جميع المجتمعات يجب أن تمر بنفس سلسلة التقدم، في حين يعتقد المنظرون الحديثون للنظرية أن التغيير متعدد المسارات، فكل مجتمع يمكن أن يتطور بطرق واتجاهات مختلفة عن الآخر.
النظرية الوظيفية
بينما تتناول هذه النظرية المجتمع على أنه أشبه بجسم الإنسان، وكل جزء منه يشبه عضوا في الجسم، ولا يمكن للأجزاء الفردية في المجتمع أن تعيش بمفردها، حيث يرى «إميل دوركهايم» أن جميع أجزاء المجتمع يجب أن تكون متشاركة ومتناغمة مع بعضها البعض وإن لم تتوحد سوف تنهار، وعندما يعاني جزء واحد من المجتمع ستتأثر الأجزاء الأخرى منه كما يحصل في أعضاء الإنسان، ونستنتج من ذلك أنّ النظرية الوظيفية تسعى إلى بناء مجتمع يعمل باستمرار للوصول إلى الاستقرار، ومن الضروري الاهتمام بالأجزاء التي تقع بها المشاكل أكثر من الأخرى على الرغم من أنها ستكون مؤقتة، وهكذا يتحقق التغير الاجتماعي.
نظرية الصراع
في حين ينطلق كارل ماركس من افتراضٍ أساسٍ حول العلاقة بين الوجود والفكر، وأن أولوية الوجود سابقة على الوعي الذي هو نتاج الفعل الإنساني وما يترتب علية من واقع اجتماعي فإنتاج الإنسان للحياة المادية شرط ضروري ولازم لحياته واستمرار بقائه، فالحياة والبقاء يتطلبان تلبية الحاجات الضرورية للبقاء مما يجعل هذه العملية الإنتاجية أساسا للحياة والقاعدة التي تقوم عليها أوجه الحياة الأخرى، يتألف كل من التشكيلات الاجتماعية التاريخية من مستويين مترابطين في علاقات جدلية هما المستوى الفوقي أو البنية الفوقية والمستوى الآخر البنية التحتية. يتضمن المستوى الفوقي الأفكار الحقوقية والسياسية والفنون عامة وارتباط الوضع كله بمستوى من الوضع الاجتماعي.
أما المستوى التحتي الأساس فتمثله قوى الإنتاج وعلاقاته والتي تشكل القاعدة الاقتصادية .
أما عملية التغير فتعتمد على عملية التغيير في المستوى التحتي أساسا والذي يترتب على التغيير فيه تغير في المستوى الفوقي. بهذا تصبح القاعدة الاقتصادية أساس النمط الاجتماعي القائم كما يؤدي تغييرها إلى تغيير أوجه الحياة الاجتماعية الأخرى. تمثل المادية التاريخية نظرية شاملة للتغيير الاجتماعي حاول فيها ماركس تغيير ظهور النمط الرأسمالي وذلك بالاعتماد على البعد التاريخي والقول أن مصدر التغيير الأساس يكمن في التغيير في القاعدة الاقتصادية.
يرى مؤيدو هذه النظرية أن طبيعة المجتمع غير متكافئة وتنافسية، وقد ترأس هذه النظرية «كارل ماركس»، وقد كان يؤمن بالنظرية التطورية كذلك، ولكنه لم يَرَ أن كل مرحلة جديدة أحدثت تغييرًا أفضل عن المرحلة السابقة لها، ففي أغلب المجتمعات وفي أغلب الأوقات يتحكم الأغنياء والأقوياء ذوو السلطة في المجتمع عن طريق استغلال الفئات الضعيفة فيه، وهذا ما يولد الصراع ويدفع الأفراد للعمل، وبهذه الطريقة يحدث التغير الاجتماعي.
نظرية ابن خلدون: وقد رأى بنظريته أن أي تغير يحدث داخل المجتمع يدل على التقدم والرقي البشري، وأن التغييرات الاجتماعية تعتمد بشكل مباشر على مجموعة من الظواهر المستمرة، والتي تشمل كافة نواحي الحياة الإنسانية وقد أسس ابن خلدون نظريته في التغير الاجتماعي بتناول قيام المجتمع والظروف اللازمة لاستمراره بافتراضين أساسيين:
أ. نظرية العقد الاجتماعي: إن الاجتماع البشري ضروري لتلبية الضروري من حاجات الإنسان كالغذاء والحماية ثم لتلبية الكمالي من المراحل المتقدمة في حياة الإنسان.
ب. إن قيام المجتمع يستدعي بالضرورة مسألة تنظيم وضبط العلاقات (لكي يستقر)
بهذا يربط ابن خلدون تفسيره لقيام المجتمع المنظم بضرورة الاجتماع لتلبية حاجات الإنسان ولذلك فإن لطرق تلبية هذه الحاجات أهمية في تحول المجتمع إلى آخر، وقد جعل ابن خلدون من نحل العيش المصدر الأساس لعملية التغيير واختار تناول المجتمع الإنساني ومحاولة تفسير عملية التغيير في بعدها التاريخي.
يظهر ذلك بوضوح في تناوله التغيير في الحياة الاجتماعية إذ يقول: إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال.
فعمر الدول عنده كعمر الكائن البشري تبدأ بالولادة وتنمو إلى الشباب والنضج ثم تكبر وتهرم وتتلاشى إلى الزوال، فالتغيير إذا عملية مستمرة تشمل جميع أوجه الحياة من عمران وتنظيمات ودول وأشخاص كما تشمل البيئة الإنسانية العامة ويتم هذا بشكل تدريجي تطويري مرحلي، كما تناول قانون المراحل التي تمر بها الدولة ومدته مائة وعشرون (120) عامًا.
مبدأ التدافع: من الحكمة الإلهية في هذه الحياة أن يلتقي الحقُّ بالباطل وأن يقع بينهما التدافع قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا إن الله لقوي عزيز } [سورة: الحج، الآية: 40]
قال ابن كثير: «أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض ولأهلك القوي الضعيف… لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات أي كنائس اليهود، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا».
التدافع لغة من الدفع: الإزالة بالقوة، وتدافع القوم: دفع بعضهم بعضًا وإن كان التدافع يحمل معنى التزاحم والحركة لكنه لا يحمل معنى الصراع والتناحر والإفناء، ودفع فلان إلى فلان شيئًا ودفع عنه الشر على المثل.. ومنه دفع الله عنك المكروه دفعًا، ودافع الله عنك السوء دفاعًا.
والتدافع من المفاهيم المركزية التي تقوم عليها النظرية الاجتماعية الإسلامية، وهو مفهوم قرآني أصيل ففي القرآن: الدفع إذا عُدِّيَ بـ (إلى) اقتضى معنى الإنالة نحو قوله تعالى {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء/6] ، وإذا عُدِّيَ بـ (عن) اقتضي معنى الحماية، كما في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج/38]، وقال {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} [البقرة/251] [الحج/ 40] وقوله {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } [المعارج/2] أي: حام. إن الاستخدام القرآني – كما في آيتي [البقرة 251 / الحج 40]– يضع معنى “دفع” سواء كان فعلًا أو أسمًا في سياق متميز من الردع الهادف [الحماية من الشر بدفعه].
وكما هو الشأن في الطبيعة عند وقوع الزلازل بسبب النشاط الجوفي للأرض الذي تتدافع على إثره الحمم ثم تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي، فإن النزاع بين الإرادات الإنسانية ينجم عن اختلال واهتزاز في النظام الاجتماعي تتولد عنه حالة تدافع لإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي.
وفي ضوء ذلك فإن القرآن الكريم يقرر السنة لهذا التدافع بين الحق والباطل وهي امتلاك القوة لإعادة “التوازن” إلى الوجود حال وقوع خلل ما في هذا التوازن ومنع الفساد، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} [البقرة/251]. إنه تدافع يحمل معنى التنافس وحب الخير والأكثر خيرية، فهذا يفعل خيرا وآخر يفعل أفضل منه وثالث يضيف ورابع يطور…
فتدافع “الناس بعضهم ببعض” إنما هو حالة مؤقتة لا دائمة، طارئة لا ضرورة، حادثة لا أصيلة في الكون، فالكون يقوم على مبدئية أخرى تنفي أصالةً الصراع، وهي مبدئية “التسخير”. والباحث الاجتماعي سينظر إلى حالات الصراع والنزاع في المجتمع بوصفها اختلالات أو انقطاعات في النظام الاجتماعي تشكل موضوع البحث الاجتماعي لا منطلقه.
وإلى ذلك البعد أشار سيد قطب، حيث قال: «لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الناس بعضهم ببعض. ولولا أن طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع، فتنفض عنها الكسل والخمول لتستجيش ما فيها من مكونات مذخورة وتظل أبدا يقظة عاملة مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة… وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء…
إن النظر إلى “القوة” هو أحد مفاصل التمييز بين مفهومي “الصراع” في النظرية الغربية و”التدافع” في النظرية الإسلامية فالأولى ترى أن امتلاك القوة غاية في ذاتها، فضلاً عن وظيفتها أداةً في إطار الحياة الاجتماعية؛ وهنا تصبح القوة غاية للتحقيق وقيمة للامتلاك، ويصبح الصراع هو الآلية المساعدة على ذلك.
أما في سياق مفهوم “التدافع” فإن القوة ترتبط بالميدان للممارسة والنشاط ولا تكون موضوعًا للامتلاك. وهذا يستدعي التحقق من الغايات التي تُمارَس القوةُ من أجلها، كما يستدعي تعزيز المبادرة والردع الهادفين. وينعكس ذلك ثانية على طبيعة النظرية الاجتماعية ووظيفتها في كل من النمطين الثقافيين.
إن مفهوم “التدافع” في النموذج التوحيدي يرتبط بمقاومة ودفع الفساد والشرور التي تعتري الكون والحالة الإنسانية على وجه الخصوص من أجل صد وردع هذه الشرور والمفاسد عن الكون والإنسان وليتم التمهيد للفعل “الصالح” و”النافع” الذي يبقي في الأرض يفيد الإنسان كل الإنسان:
قال تعالى: «كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ» [الرعد/17].
إننا ونحن في مرحلة بناء النظرية الاجتماعية مدافَعة بينها وبين النظريات الغربية التي أتاح لها باحثوها كل ما من شأنه أن يغطي على مبادئ الحقيقة ويقلب الباطل على الحق مطالبون بإيضاح التباين بين ركائز النظرية الاجتماعية الغربية والنظرية الإسلامية في محيط المفاهيم المؤسِّسة لكلتي النظريتين وما ينبني عليهما من عناصر التصورات التي ترسم طبيعة وخارطة التفاعلات الاجتماعية التي تحددها كلتا النظريتين، وهي مرحلة ضرورية في بناء النظرية الاجتماعية المعاصرة من منظور إسلامي، ليميز الله الخبيث من الطيب والنافع من الضار في بناء النظرية الاجتماعية الإسلامية الناصعة ويتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود.