مغالطات
عبد العزيز كحيل/
من المفروض أن أي علم يأخذه الطلبة من مظانه، من العلماء بالدرجة الأولى ومن الكتب بعد ذلك، وينطبق هذا على العلوم الشرعية ربما أكثر من غيرها لمكانتها ولخطورتها على دين الناس ودنياهم وآخرتهم، لكن هناك ظاهرة متنامية في المجتمعات الإسلامية، طارئة عليها، جعلت شبابا ومراهقين يصفون أنفسهم بطلبة العلم لا يتورعون عن الإفتاء ومخالفة العلماء واقتحام حمى الشريعة بمجرد أن سمعوا أشرطة لبعض شيوخ الحجاز أو قرؤوا لهم رسائل صغيرة، وقد عمّ بلاؤهم بحيث اتبعهم ذوو المستوى العلمي الضعيف والمتسربون من المدارس و وصفوهم بالشيوخ!!! فبرزوا في المساجد المهجورة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، فكان فسادهم عميما وضررهم واضحا، وقد انتشرت عن طريقهم ثقافة دينية جديدة تخوض في أصعب المسائل بغير وسائل منهجية مناسبة، ثقافة كلها حرفية وجمود وترديد رتيب ليس خلفه أي بضاعة علمية، من ذلك هذه العبارات التي انتشرت كالنار في الهشيم وتلقاها كثير من الناس بالقبول حتى كادت تغدو مسلمات لا تناقَش:
– «إذا صح الحديث فهو مذهبي»: كثيرا ما نسمع شبابا أغرارا يقولون «إذا صح الحديث فهو مذهبي»، ويختزلون مسائل علمية ألفت فيها آلاف الكتب في فهم سطحي حرفي منغلق بزعم أن الحديث النبوي الواحد يحسم القضية كلها ولا يحتاج إلى فقه الفقهاء ولا تأصيل الأصوليين ولا اختلاف المحدّثين… وهذه مغالطة كبرى لأن هذه العبارة كلام صادر من مجتهدين وموجه لمجتهدين متخصصين في الحديث والفقه وعلوم الشريعة، وصحة الحديث عندهم لا تقتصر على سنده بل تمتد إلى متنه من عدة وجوه، أما طالب العلم فعليه أن يرجع إلى هؤلاء ليتعلم، ومذهبُه هو مذهب من يفتيه.
– «هم رجال ونحن رجال»: يقولون كذلك عن العلماء: «هم رجال ونحن رجال»: وهذه ـ أيضا – عبارة قالها مجتهدون عن مجتهدين، ولا يليق أن تصدر من متعلمين ما زالوا في بداية طريق طلب العلم، لا يفهمون في أكثر الأحيان كلام العلماء فضل عن أن يضاهوهم أو يناقشوهم أو يكونوا مثلهم، وما أجدرهم ان يعملوا بالحكمة العطائية «ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن فلا نتاج له».
– «القرآن والسنة بفهم سلف الأمة»: هذه عبارة ترددها الألسن ترديدا ببغائيا خاليا من الفهم، أشاعها المنتسبون للمذهب الوهابي، وقفزوا على حقائق العلم والتاريخ والواقع، فمن حق المخالف أن يسأل: من هم – بالضبط والتحديد – السلف؟ إذا كان المقصود علماء القرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية نسأل: ألم يقع بينهم اختلاف في مسائل العلم؟ فأيهم يمثل «فهم سلف الأمة»؟ أليس الأئمة الأربعة من السلف؟ أليسوا كلهم من تابعي التابعين، أي من القرون الثلاثة الأولى؟ فما هو هذا الفهم إذًا؟ المدارس الفقهية الإسلامية كلها تنتسب زمنيا للسلف، فأيها يمثل وحده الفهم الصحيح؟ الحقيقة أن الخلاف ملازم للعلماء، وكل هؤلاء يتحركون في دائرة «فهم سلف الأمة» إلا من شذّ مثل أصحاب التفسير الباطني والعلمانيين لأن فهمهم خارج عن دائرة فهم الأمة كلها بل وعن الإطار الإسلامي أصلا، وإنما نلتزم بقول السلف في حال الإجماع الثابت، وهذا نادر عزيز.
– «حديث رواه البخاري وصححه الألباني»: هذه من العبارات التي انتشرت في العقود الأخيرة بأقلام بعض الكتبة وأصوات بعض المتحدثين في أمور الدين، وهي –في تقديري – كلمة آثمة بسبب نبرة التعالي ومسحة الجهل، لأن كل من لدية صلة بعلوم الحديث يعرف أن العبرة بتصحيح البخاري ولا دخل للألباني في ذلك، أي أن الحديث الذي قطع البخاري بصحته هو في حد ذاته صحيح ولا يحتاج إلى تصحيح من خارجه، لذلك لم يجرؤ أحد منذ قرون على «تصحيح ما صححه البخاري»، حتى ظهر الشيخ الألباني فكان يورد الحديث من الجامع الصحيح ويذيّل بقوله: «صحيح رواه البخاري»، وقد راجعه علماء الحديث المعاصرون له (مثل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة) لكنه أصرّ على طريقته، وجاء أتباعه فتمادوا في الخطأ وعملوا على فرضه على الناس.
– «أعطني الدليل»: عبارة يواجه بها كثير ممن يسمون أنفسهم سلفيين الخطباء والمدرّسين في صلف وخيلاء، والمشكلة لا تكمن في طلب الدليل لكن في معناه، فهؤلاء قصروه على الآية القرآنية والحديث النبوي، وهذا ما لم يقل به عالم من القدامى ولا المحدثين لأن «الدليل» بالمعنى الأصولي يشمل القرآن والسنة والإجماع والقياس، إلى جانب أدلة ثانوية كالمصالح المرسلة وعمل أهل المدينة والاستحسان ونحوها، ومشكلة هؤلاء الشباب أنهم لا يفهمون شيئا في هذا، وهو أكبر من ثقافتهم ومداركهم، لكنهم تربوا على التسطيح الفكري فكادوا يضلون، وقد تذكرت في هذا السياق عبارة القاضي أبي بكر بن العربي وهو يشير إلى منهج الظاهرية، قال: «ثم جاء الحمير الذين يطلبون الدليل في كل مسألة»… هي عبارة قاسية لكن لك أن تتصوّر الظروف التي ألجأته إليها وهو عالم متبحر…فكيف لو عاش إلى زماننا؟
هذه عينة من التردي الذين أصاب العلوم الدينية حين خرجت من يد العلماء وتولاها من لا علم لهم ولا تقوى فأصبح الأمر فتنة تعصف بالمسلمين اختلافا وتمزقا وسوء أخلاق، ولن يعود الأمر إلى نصابه إلا بإشاعة العلم النافع من طرف الراسخين فيه، وبإشاعة أخلاق العالم والمتعلم وإحياء الربانية وحلقات العلم التي يشرف عليها من هم أهل لها لأن التسطيح يحسنه كل أحد.