التواضع بين الزهد والعبادة والتحرر من الكِبْر
بلخيري محمد الناصر/
التواضع صفة محمودة وخلق كريم وطهارة نفس، تدعو إلى المودة والعدل والمساواة بين الناس ونشر الفضائل الحسنة، التي تساعد على تماسك المجتمع وبناء كيانه واستقرار أحواله سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا، كما يسهل التوافقية الفكرية الأخلاقية كتجنب الحسد والبغضاء والمشاحنة والكراهية، وخلق روح كينونة تكاتف وتعاضد روحي وفكري بأبعاد فلسفية أخلاقية، لها مفعولها في الترشيد الدعوي والعمل الخيري، والتحفيز على سلك كل سبيل يصب في خانة بناء الفرد والمجتمع والنهوض بالقطاعات التنموية، وقد يشمل التواضع الجانب السياسي كما عرف عن حكم الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه – والخليفة العادل عمر بن عبد العزيز الملقب بخامس الخلفاء الراشدين، فقد حيروا العدو قبل الصديق بعدلهم وتواضعهم، وقد قال الهرمزان، قائد جيوش الفرس عندما أتوا به أسيرا إلى عمر بن الخطاب، فرآه نائما على التراب متوسدا برنسه بلا حرس ولا حاشية، في منظر عجيب رهيب لم يعهده من قبل، ولم يقرأ عنه في كتب الأولين ولم يرد في أقوال المحدثين “حكمت فعدلت فأمنت فنمت”.
لذلك فكل عمل خيري نافع مهما كان نوعه ووجهته وما يرمي إليه وخاصة في المجال الدعوي والسياسي والمجتمعي، يخلو من التواضع، يكون ناقصا وغير فعال بدون طعم ولا مفعول، لأن التواضع هو لين الجانب وتجنب الغرور والاعتزاز بالنفس، فخفض الجناح والعمل بالحق من أهم الركائز المساعدة على الاستقرار، عن عائشة رضي الله عنها، قالت “إنَّكم لتغفلون أفضل العبادة: التَّواضُع” وقال يحيى بن الحكم بن أبي العاص لعبد الملك: “أيُّ الرِّجال أفضل؟ قال: مَن تواضع عن رفعة، وزهد على قُدْرَة، وترك النُّصرة على قومه”.
إن التواضع في عصرنا هذا يعتبر من الفكر السياسي، الذي لو تم تطبيقه من طرف التشكيلات السياسية لكان إيجابيا فعالا وخاصة فيما يتعلق ببناء العنصر البشري في مسيرته وسيرته، وبالتالي يكون معادلة مهمة في نجاح البرامج الحزبية وانتشارها وتبنيها من طرف الجميع، لأن فرز الأفكار وترويض الرؤى وعزل السلبيات يجب أن تتم بمعيار الفكر البناء والاستشارة الراقية والحوار الحضاري الخالي من الشوائب المنفرة، كالولاء للعشيرة والتعصب للرأي والطمع واصطياد المناصب، والبحث عن التموقع السياسي لأجل مصالح شخصية، قال إبراهيم بن شيبان: “الشَّرف في التَّواضُع، والعزُّ في التَّقوى، والحرّية في القناعة”.
الكثير من الأفكار الخاطئة التي تعتبر التواضع في عصرنا لا يتماشى والنظرية الجوهرية للحياة الاجتماعية، المشبعة بخليط الإيديولوجيات الوافدة والنازلة من الغرب، كما يعتبرونه ذلا ينزل صاحبه منازل الاحتقار، لأن عصرنا عصر القوة والصلابة والشدة، حسب قولهم، سئل الحسن البصري رحمه الله عن التواضع فقال “أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً” وهذا هو الخلق المحفز على نشر السلام وتآلف القلوب ونزول البركة والرحمة بين الناس، قال تعالى في سورة آل عمران الآية 159 مخاطبا رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}. وقال أيضا في سورة الشعراء الآية 215{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
كما أن التواضع من السنة فقد قال صلى الله عليه وسلم “ما نقصت صدقة مِن مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلَّا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلَّا رفعه الله” ومن هنا ندرك أن التواضع خلق جامع ممهد لكل الأعمال الخيرة والمشاريع الفكرية والسياسية الناجحة، بل هو منطلق حضاري لمواكبة الركب وتغيير الذهنيات البالية، وبناء جيل مستقبل يعمل لصالح الكل ويفكر بمفهوم اليد الواحدة لا تصفق.