في مقاهي «المحروسة بالله» التي كانت أكثر من مقاه…
فوزي سعد الله/
«….في مدينة سيدي عبد الرحمن الثعالبي، اشتهرت مجموعة من المقاهي بتميزها عن غيرها بخدماتها الموسيقية المنتظمة وروادها الذُّوَّاقِين للنغمة الأندلسية ومايدور في فلكها من فنون. ولعل أشهرها: «القَهْوَة الكْبِيرَة»، و«القَهْوَة الصّْغِيرَة» و»قَهْوَةْ بْجَايَة»، و»قهوة العْرِيشْ» المحاذية لِسًورِ المدينة الجنوبي الغربي الذي يعود بناؤه إلى العهد العثماني والمُطِل على «الخَرْبَة» و«دَارْ الغُولََة» كما يُقال محليًا. والتحقتْ بالدَّور الذي كانت تؤديه هذه الهياكلُ الترفيهية مقاه أخرى برزت خلال الفترة الاستعمارية مثلما هو شأن «قهوة بُوشَعْشُوعَة»، و«قهوة مَالاَكُوفْ»، و«قهوة السَّاسِي».
فأمّا «القهوة الكبيرة» فكانت أكبر وأهم مقاهي مدينة الجزائر خلال عهد الباشاوات ووُجدتْ في وسط البقعة التي تُسمى اليوم «ساحة الشهداء». وعلى مقربة منها وُجدتْ أيضا «القهوة الصغيرة» و»قهوة بجاية». وهي المقاهي التي أزالتها إدارة الاحتلال خلال ثلاثينيات القرن 19م لإعادة التهيأة العمرانية للقصبة السفلى بما يتناسب وحاجاتها وغاياتها. وظهر على أنقاض هذه الفضاءات «التقليدية» مقهى «مالاكوف» الذي بدأ إشعاعُه الموسيقِي يتأكد منذ ثمانينيات القرن 19م. وهو المقهى الذي سيصبح مِلْكًا للفنان الحاج مْحمَّد العنقاء لفترة طويلة وملتقى لكبار فناني «الشعبي» في مدينة الجزائر كعُمَر مَكْرَازَة وعْلِيلُو والحاج كَشْكُولْ وبُوجمعة العَنْقِيسْ وحْسَنْ السَّعيد وتلاميذ العَنْقَاء كعبد القادر شَرْشَامْ وكمال بُورْدِيبْ والمهدي طَامَاشْ وغيرهم.
كما وُجد عدد من المقاهي خارج أسوار المدينة على غرار «قَهْوَةْ بِئْرْ الخَادِمْ»، و»قَهْوَةْ بِئْرْ مُرَادْ الرَّايَسْ» وأيضا «قَهْوَةْ الحَامَّة» بمحاذاة الكهف الذي اختبأ به الكاتب الإسباني مِيغِيلْ دِي سِيرْفَانْتِيسْ عندما كان أسيرا في مدينة الجزائر نهاية القرن 16م. وهو المقهى الذي اشتهر في عهد الاحتلال بـ: Café du Platane (مقهى شجرة الدّلب) الذي استقطب اهتمام المستشرقين والمغرمين بشاعرية الثقافة الشرقية من الغربيين الذين تدفقوا على مدينة الجزائر للاكتشاف والاستكشاف منذ النصف الثاني من القرن 19م.
اشتهر أيضا مقهى حيدْرَة الذي قال عنه إِيرْنِيسْتْ فيدو Ernest Feydeau في 1862م إنه مقهى «كان يجتمع فيه العرب (Les Maures) الأكثر حزنا على وقوع البلاد تحت سيطرتنا» على حد تعبيره. وقد كان الحشيش، حسب إيرنيستْ فيدو، عزاءهم في كارثة الاحتلال التي حلتْ بالجزائر. ولا يُستبعد أن يكون انتشارُ هذا المخدِّر في مقاه عربية مرتبطًا عضويا بمصائب البلاد وأوضاع الناس الصعبة خصوصا وأن نهاية القرن 19م كانت مرحلة اعتنق فيها الكثير من المُحبَطين «ديانة» تدخين الحشيش عندما فشلتْ الأديانُ في دفعهم إلى برِّ الأمان.
إِيَزابِيلْ إِيبِرْهَارْدْتْ ذكرتْ هؤلاء البؤساء في مؤلفاتها ووصفتهم بـ: «الشعراء الهائمين وعازفي القُمْبْرِي الذين كانوا دون جذور ودون أهل» رغم أن العديد منهم ما كانوا من الفقراء ولا من الأُمِّيِّين. وتوافقَ هذا الانحدارُ الرّهيب إلى عالَم المخدرات الذي بدأ يتخذ أشكالا اجتماعية مَرَضية وليس «فنية» مع التدهور العام للمجتمع حيث تراجعتْ معه نوعية المقهى تدريجيا وطرأتْ تحولات على وظائفه. فاختفى المقهى الجميل والفخم ليترك مكانه شيئا فشيئا للمقهى البروليتاري بزرابيه البالية والوَسِخة وزبائنه المهلهلي الهندام…
عادة ما كانت هذه المقاهي تُبنى بقربها العيون ليرتوي منها المسافرون وعابرو السبيل على غرار المقهى الشهير بـ «Café du Platane» في الحامة منذ أواخر العهد العثماني و»قهوة زَنْقَةْ سِيدِي مْحَمَّدْ الشّْرِيفْ» و»قهوة مالالكوف» لاحقا… وكانت هذه المقاهي تُقدِّم خدمات متنوعة تتراوح ما بين الاستراحة والترفيه والتسلية و»قتل الوقت»، والعروض الفنية الغنائية والراقصة، وحتى عروض عرائس القراقوز أحيانا.
وإذا كانت المقاهي الأكثر عراقة في مدينة الجزائر، أي «القهوة الكبيرة» و»القهوة الصغيرة» و»قهوة بجاية»، قد مُحيتْ من الوجود منذ أكثر من قرن ونصف القرن، فإن «قهوة العرايش» تُعتبر الشاهد الوحيد تقريبا على ذلك الجيل من مقاهي «بهجة» سيدي عبد الرحمن الثعالبي العثمانية التي لا زالت حية تُرزق وإن تعطل نشاطها منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي تقريبا. وهي تقع في القصبة العليا بين الباب الجديد وحي السُّور والسّْطَارَة بمحاذاة السور الجنوبي للمدينة العتيقة الذي لم تبق منه سوى بعض الأطلال.
كما اشتهر مقهى آخر من المقاهي القديمة عُرف باسم مقهى «ستَِّاتي» الذي قال ألكسندر كريستيانوفيتش إنه كان يحتضن الحفلات التي كان يحييها الفنان حامد أو حميد ابن الحمَّارة.
خلال الحقبة الاستعمارية، ظهرت، إذن، مقاه جديدة في الأحياء التي بناها الاستعمار وأصبحت من بين أبرز المقاهي العربية التي كانت تتعايش فيها قهوة «الجزوة» التقليدية والشاي بالنَّعنع و»الشَّارْباتْ»مع أكثر المشروبات حداثةً التي أنتجتها الحضارة الغربية، بما فيها «قَازُوزْ» حَمُّودْ بُوعْلاَمْ الذي يعود ظهوره لأول مرة إلى سنوات 1870م. وكانت عطر الياسمين المُنعِش لا يفارقها، لأنه كان من عناصر هوية المدينة العتيقة الذي لا يَستغنَى عنه الناس كالخبز والماء .
ومن بين هذه المقاهي ذلك المقهى الواقع أسفل شارع بوزرينة (شارع لاَلِيرْ سابقا) بمحاذاة جامع كتشاوة والذي كان العديد من الناس يُسمونه «قهوة الساسي»، لأن المْعَلَّم اليهودي الفنان أَلْفِريدْ لَبْرَاطِي المعروف بـ: السَّاسِي كان يحيي السهرات هناك بانتظام في «قَعْدَة» محلية بكل الديكور الداخلي الذي تقتضيه مثل هذه السهرات في قصبة الجزائر . وكان الشيخ العربي بن صاري ونجله رضوان بن صاري من بين الذين غنوا في هذا المقهى عندما كان في قمة تألُّقِه .
كما غنى الحاج المْنَوَّرْ في مقهى «لاَ رِيجُونْصْ» (Café de la Régence) في ساحة الشهداء في مدينة الجزائر، والحاج مْحمَّد العنقاء في مقهى «إِيدِييَّالْ» (Café Idéal)، وصديقه الحاج المحفوظ محي الدين البُلَيْدِي في مقهى Le Café des Sports (مقهى الرياضات) الذي كان مِلْكا له وكان يقع بمحاذاة جامع كتشاوة وتحديدا في شارع الحاج عمر، أو شارع بْرُوسْ (La rue Bruce) سابقا. وفتح هذا المقهى الشعبي أحضانه لعدد من الفنانين الجزائريين خصوصا خلال السهرات الرمضانية خلال عهد الاحتلال، من بينهم فضيلة الجزائرية.
لكن مقهى مالاكوف يبقى أقوى هذه المقاهي العربية «العصرية» إشعاعا فنيا وهو الذي استقطب كبار رموز الفن الموسيقي لمدينة الجزائر من الشيخ محمد المْنَمَّشْ والمعلم بن فَرَاشُو إلى محمد بن علي سْفِنْجَة وابن التفاحي والشيخ السّْعِيدِي وإيدمون يافيل ومْخِيلَفْ بوشَعْرَة وغيرهم. واحتضن مالاكوف أيضا المستشرقين والباحثين الغربيين المهتمين بالغناء الحضري المحلي وبالموسيقى الجزائرية بشكل أوسع. ولعل من بين أشهرهم: فرانسيسكو سالفادور دانيال، آلكسندر كريستيانوفيتش، جُولْ رُوَّانِي، لِيُّو بَارْبِيسْ، وكَامِيلْ سَانْ سَانْسْ.
كما كانت شخصيات ثقافية كبيرة تتردد على هذه الهياكل الاجتماعية الثقافية لاكتشاف كنوز التراث الموسيقي المحلي وفهم الشخصية الجزائرية. وكان الفنان التشكيلي أُوجِينْ فْرُومُونْتَانْ من هواة هذه البقعة من القصبة السفلى بعد أن يقضي نهاره في مرتفعاتها في مقهى مفترق طرق حيّ سيدي مْحمَّد الشريف مع أصدقائه من الشيوخ والمثقفين الجزائريين مرتشفا فناجين القهوة والشاي ومحادثا إيّاهم حول تراث المدينة وأخبارها ليستلهم منها أعماله الفنية الكبيرة…».