اللغة العربية وطلبة العلوم الاسلامية ببلادنا
أ.د. مولود عويمر/
يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب بالمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.
ولد الشيخ باعزيز بن عمر في 10 فبراير 1906 بقرية آيت حماد بدائرة أزفون ولاية تيزي وزو. درس على والده الشيخ عمر ثم التحق بزاوية عبد الرحمان اليلولي الشهيرة بمنطقة جرجرة. وسافر بعد ذلك إلى قسنطينة ليدرس أربع سنوات على الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي أحاطه برعايته وقربه إليه لما لمس فيه النجابة والنبوغ والأخلاق العالية.
وانتقل الشيخ باعزيز بعدها إلى تونس للدراسة بجامع الزيتونة، لكنه سرعان ما رجع إلى الجزائر ثائرا على المنهاج التعليمي الزيتوني الجامد على أمل السفر إلى مصر للدراسة في جامع الأزهر. لكن الظروف حالت دون تحقيق حلمه، فاستقر بالجزائر العاصمة وعمل معلما وكاتبا صحفيا.
بعد عودته من تونس عمل معلما بمدرسة الشبيبة الإسلامية التي كان يشرف عليها الشيخ محمد العيد آل خليفة، ويدرّس فيها كوكبة من العلماء: فرحات بن الدراجي، عبد الرحمان الجيلالي، محمد الهادي السنوسي، أحمد جلول البدوي.
وتقديرا لهذه الخبرة واستفادة من هذه التجربة اختارته جمعية العلماء كاتبا عاما للجنة التعليم المشرفة على المدارس العربية الحرة التابعة لها. واشتغل أيضا بالصحافة وكتب بانتظام في مجلة «الشهاب» وجريدة «البصائر»، وبلغت مقالاته في المجموع 500 مقالا كما أحصاها هو بنفسه. وقد بدأ الشيخ باعزيز كتاباته في الصحافة باسم مستعار وهو «الفتى الزواوي». وانضم الشيخ باعزيز إلى هيئة تحرير «البصائر». وكانت مهمته تتمثل في تصحيح المقالات وكتابة التقارير عن نشاطات جمعية العلماء بالإضافة إلى نشر المقالات في المجالات المختلفة أو ترجمة بعض النصوص من الفرنسية إلى العربية.
بعد الاستقلال، عيّن الشيخ باعزيز عضوا في اللجنة الوطنية الجزائرية لليونسكو، وعضوا في هيئة تحرير مجلتها «لمحات» التي كان يديرها آنذاك الأستاذ الشيخ أبو عمران. ويظهر أنه كان قليل النشاط والكتابة بعد الاستقلال على عكس ما دأب عليه في الفترة الاستعمارية.
توفيّ الشيخ باعزيز بن عمر في 6 ماي 1977 بالأبيار في أعالي مدينة الجزائر. أما أعماله فلم يطبع في حياته إلا كتاب «دروس في التربية» في ثلاثة أجزاء. ونشر مؤخرا الأستاذ إسماعيل بن محمد الزكري ثلاثة مخطوطات للشيخ باعزيز وهي: الجزائر الثائرة. مسرحية تاريخية، من ذكرياتي عن الإمامين الرئيسين: عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي.
نشر هذا المقال في العدد 3 من مجلة «التلميذ» الصادر في فبراير 1933 (ص 25-28 ). وهذه المجلة كان يصدرها بين 1931 و1933 الفرع الجزائري لجمعية الودادية للتلاميذ المسلمين بإفريقية الشمالية. وكان من كُتابها: رشيد مصطفاي، سعد الدين بن شنب، باعزيز بن عمر، جلول بدوي، وكربيع نبهاني…الخ.
دافع الشيخ باعزيز عن اللغة العربية الفصحى التي صارت غربية في بلدها فلا يتحدث بها إلا فئة قليلة بينما تتحدث العامة بالدارجة وتتحدث النخبة المفرنسة باللغة الفرنسية. وتساءل أين الخلل؟ ورأى أن السبب الأول يكمن في عقم طرق التدريس التي لم تواكب التطوّر الحاصل في مجال التعليم والبيداغوجية، في حين أن تعليم اللغة الفرنسية على سبيل المثال نجح وكسب جيلا من الجزائريين الذين تعلموها بسرعة وأتقنوها نطقا وكتابة والفضل في ذلك يعود إلى المناهج الجديدة التي يوظفها معلم اللغة الفرنسية. ويصحح الشيخ بعزيز كل المغالطات الملصقة باللغة العربية فإنها لغة العلم والعصر وليست لغة التخلف لذلك نادى إلى الاهتمام بها والعناية بها من طرف أبنائها في المقام الأول وتأسيس نظام تعليم راق يشرك الأستاذ والتلميذ في عملية التعليم، وتوفير كل الشروط العلمية والمادية من أجل ترقية تعليمها وتقدير المتخرجين بالعربية.
*** *** ***
«من المعلوم أن اللغة العامية أو العربية الدارجة كما يسمونها تضيق عن المعاني العالية والمباحث العلمية وتضعف كثيرا عواطف الإنسان ولا تكاد تبين عنها إلا بمساعدة لغة أخرى كما هو المشاهد في كثير من أبنائها الذين تعلموا اللغة الفرنسوية ولا أظن أحدا من طلبة العلوم الاسلامية ينازعني في هذا، ولكني أخشى على كل حال منازعتهم وخصوصا الفصحاء منهم لأنني ما رأيتهم يوما يعدلون عنها في محاوراتهم ومخاطباتهم أو مناقشاتهم الخاصة إلى اللغة العربية الفصحى التي أوصلت إليهم تلك العلوم التي كانوا يقرؤونها وسحرت الناس بجمالها وطلاوتها وسعة ألفاظها وغناها ولا أطيل في هذا المعنى وكفاها غنى وفخرا أن تكون لغة القرءان الكريم وتسعه لفظا وغاية ولله در شاعر النيل حافظ ابراهيم إذ قال على لسان حالها:
وسعت كتاب الله لفظا وغاية وما ضقت عين آي به وعظات
بل هجروها حتى في تلقي هذه العلوم الدينية التي اتصلت بها إتصالا مكينا فضلا عن التفاهم والتحاور بها في أغراضهم الخاصة بحجة أنهم خاصة وهذه غفلــة أو شيء آخر لا أدري كيف أسميه. فإذا سميته قصورا فهو غير خاص بالطلبة والتلاميذ فإن للأساتذة والمدرسين حظهم الوافر منه إلا قليلا منهم يعدون على الأصابع. أما الجمهور منهم فلا يلقون دروسهم إلا بلغة العامة الدارجة مع ضيقها المحقق وعدم لياقتها في مثل هذه المواضيع. كما مر وهذا هو مغزى قولي بل هجروها حتى في تلقي العلوم الدينية وإلقائها. فكيف يمكن إذا طلبة أولئك الجمهور أن يحرزوا على مقدرة تامة للتعبير. فالطلبة أو التلاميذ قد يعذرون بعض العذر من هذه الناحية لا كل العذر لأنهم يستطيعون أن يفتحوا أعينهم فيخرج الجمود والخمول ويتداركوا أمرهم كما شوهد ذلك في أفراد نجوا بأنفسهم. هذا الخطر الذي يفسد على الطالب حياته العلمية.
أما هؤلاء الشيوخ المدرّسون – ولهم الاحترام – فنكل أمرهم إلى أنفسهم حتى يظهر سوء عملهم ذلك فلعل لهم عذرا قد خفي علينا. ومن الممكن أن يرتكب عملهم هذا في دروس مخصوصة تلقى على صغار الطلبة والتلامذة وعامة الناس ولو رأيناهم وقفوا عند هذا الحد لقلنا حسنا فعلوا (حدثوا الناس بقدر ما يفهمون) وإن كان هذا مردودا أيضا بالنسبة لصغار التلامذة بما هو المشاهد في المدارس الابتدائية الفرنسية ذلك أن أبناء الأهالي يدخلونها وهم لا يعرفون شيئا من تلك اللغة لغة المعلم إذ قلَّ أن يكون المعلم أهليا وخصوصا في بدء الأمر فلا يمضي غير زمن قصير عليهم حتى تراهم قد أتقنوا لغة ذلك المعلم ولهجته الحارة وصاروا يعبرون بها عما في عواطفهم الرقيقة بأوضح عبارة وأسلوب خلاب يكتبون ويتحاورون بها في ظرف مدة قصيرة وهي لغة أجنبية منهم لم تتصل بأجدادهم ولا آبائهم فيشبون ويترعرعون على تلك الحالة.
ويكفي هذا دليلا على أن اللغة العربية نكبتها أساتذتها وطلبتها بسبب ما هناك من تقصير ولا أقول بعموم هذا في الأقطار الإسلامية كلها فإذا قالوا لنا حول هذا أن ما شاهدتموه من نجاح طلبة العربية نتيجة نظام حسن وتعليم صحيح قلنا لهم ما يمنعكم أن تؤسسوا نظاما مثله تسيرون عليه للحصول على مثل ذلك النجاح الباهر ولو بترككم معارضة الساعي في تأسيسه ألا تحبون أن يكون لأبنائكم – وهم فلذات أكبادكم – مستقبل زاهر ومستوى لائق بهـم والإسلام الذي هو دائرة واسعة لأعمال كثيرة فردية واجتماعية لا سعادة للمسلمين إلا إذا لم يخلوا بشيء منها وما انحطوا هذا الانحطاط إلا حين قام بينهم أن المسلم متى قام بالتكاليف الفردية بأن آمن بالعقائد وأدى العبادات فقد فرغ من التكاليف وصار من عباد الله الصالحين وإن أغفل سائر التكاليف الموجهة إلى المجموع وهكذا يجني الجهل على أصحابه فلا يؤدون حقا ولا يقومون بواجب.
وقبل أن أخرج عن الموضوع أرجع بك أيها القارئ الكريم إلى الكلام على العربية فأقول : إنها ليست كما يزعم من يريد القضاء عليها من أبنائها أو من غيرهم من أنها لغة أفلام وأسفار وشروح وأوراق فقط، فكأنهم يستبعدون أن تكون لغة كلام وتخاطب لغة علم ودين. كلا ولا يقول بهذا إلا من يريد إماتتها لو يطاع وإلا فالخاصة من الطلبة وسائر المتعلمين قد كان في مستطاعهم أن يجعلوها لغة كلام وتفاهم بينهم سيما عند البحث في المسائل العلمية.
أما عامة الناس فليسوا من هذا القبيل ولا نحمّلهم ما لا طاقة لهم به بل نحدثهم بلغتهم التي يفهمونها ولو في المجالس العلمية. وإنما الذي نوجِّه ونسوق إليهم الكلام في هذا الشأن هم من ذكرنا من الطلبة والأساتذة فإن الفريقين يستطيعون أن يقوموا بهذه المهمة التي تنتظرها منهم هذه اللغة الشريفة وهي إن يجعلوها لغة رسمية لهم لا في أوقات الدرس فحسب بل في جميع أوقات محاوراتهم ومخاطباتهم حتى يكونوا قد أظهروها بالمظهر اللائق بها ودفعوا عنها كل ما يحوم حولها من الأقوال الباطلة وهو أعظم وسيلة أراها للوصول إلى مستواهـا الحقيقي.
وهذا هو نفس عمل أساتذة اللغة الفرنسية مع التلاميذ الأهالي حتى وصلوا بهم إلى غاية بعيدة في أقرب وقت. أما نحن فقد يقضي أحدنا شطرا من عمره في زاوية أو في معهد ويخرج ولا يستطيع ينطق بجملة واحدة عربية متقنة ويقدر أن يكتبها كما شاء إذا خلا بنفسه ساعة أو أكثر.
ولمثل هذا أن يقول معتذرا في الجملة أن النظام الـذي قرأت عليه لم يساعدني أو أن أستاذي لم يقم بواجبه نحوي حتى أكون كأخي المتخرج في المدارس الغربية يكتب ويتكلم بلغة واحدة.
فالجواب له أن ذلك يتعلم لغة غير لغته فالأستاذ والنظام والحالة الراقية شيء قليل في حقه وأنت تعلم لغتك وقد عوّدوك على النطق بألفاظها ومفرداتها ذلك القرآن الحكيم الذي كنت تتغنى به وتعشقه للتلاوة بالأصوات الجميلة! أليس في مقدرتك بعد قراءته أن تتلقى دروسا نحوية وصرفية على الطريقة المفيدة وتكون أفصح الناس في لغتك أو لغة دينك وأقدرهم على تأدية مراد نفسك بها إن كتابة فكتابة وإن خطابا فخطاب وإن أعوزك ما هو أكبر من هذا فلنتنبه لكل ما يحي ديننا ولغتنا.
2هذا ما أقول الآن في هذا الموضوع، وهو قليل أمام من يعدون التفصح والتلفظ بلغة القرآن الجميلة عيبا أو لشيء آخر يسترون بذلك كله جهلهم المبين وما دروا أنهم يعملون على قتل لغة هي أعظم تراث لذا يضمن لنا السعادة والسيادة للمتمسكين به في كل زمان ومكان».