ذكرياتي مع الإمام ومفتي جامع باريس الشيخ بوزيدي جلول خلال 30 سنة
أ. سعدي بزيان/
لم يكن يخطر ببالي أبدا أنّني سوف أصبح في يوم من الأيام موظفا في جامع باريس وارتبط بعلاقاتٍ حميمة مع عميد المسجد وهو الشيخ عباس ابن الشيخ الحسين 1912-1989 وهو أول عميد يحمل الجنسية الجزائرية في حين كان كل الذين تعاقبوا على إدارة مسجد باريس من أصول جزائرية ذوي جنسية فرنسية وما كان يمكن لي أن أجد لنفسي مكانا في ظلّ حمزة بوبكر النائب السابق عن الواحات في البرلمان الفرنسي والذي تمّ تعينه عميدا لمسجد باريس وظلّ في منصبه إلى 1982 حيث خلفه الشيخ عباس وقد قضيت 5 سنوات كاملة موظفا إعلاميا، ثمّ أستاذا للغة العربية، وعند وفاة الشيخ عباس بن الحسين عام 1989 خلفه الدكتور بوزيدي جلول الإمام والمفتي في جامع باريس ليصبح إماما ومفتيا طيلة الفترة التي جاء فيها التيجاني هدام، وظلّ في منصبه حتى استلم فيها دليل بوبكر ابن حمزة بوبكر منصب العميد، في ظلّ ظروف بالغة الصعوبة وفي ظلّ تهديد مستمر ويوميّ من طرف عناصر متطرفة لها امتدادات مع الوضع في الجزائر حيث الإرهاب سيد الموقف وكان يتحرك بحذر شديد، ويخشى على عائلته التي تعيش معه داخل مسجد باريس وكنت طيلة هذه المدة مرافقا له خارج المسجد وفي سهرات يومية داخل مقصور المسجد أو في صحبة الشيخ عبد المجيد الشريف نائب العميد، وكانت هذه السهرات تتم في دار الضيافة التي يتمّ فيها استقبال وإيواء ضيوف مسجد باريس وأحيانا تمتد هذه السهرات إلى ساعة متأخرة من الليل ومن حين لآخر ينضم إلينا الأستاذ عبد الحميد طبال أستاذ اللغة العربية في المسجد والمتعاون مع مصلحة المحاسبة، وكانت هذه اللقاءات فرصة للتعرف على ما يجري في جامع باريس وفي الساحة الإسلامية في فرنسا عموما وكان مسجد باريس خلال هذه الفترة يعيش أجواء معادية من طرف أعوان المخزن المغاربة، وفي ظلّ هذه الأجواء ولد كتابي «الصراع حول قياد الإسلام في فرنسا» وقد وجد ترحيبا من طرف بعض أعضاء الإدارة في حين أحدث غضبا شديدا من طرف العميد دليل بوبكر الذي وإن لم يطلع على ما ورد في الكتاب؛ لأنّه لا يعرف اللغة العربية ولا الثقافة الإسلامية إلاّ أنّ أحد أعوانه ترجم له ما ورد عنه في هذا الكتاب حيث قلت عنه أنّه لا يعرف اللغة العربية ولا الثقافة الإسلامية وأبوه حمزة كان عميلاً للاستعمار الفرنسي وطالب بفصل الصحراء عن الجزائر خلال حرب التحرير، وفي يوم من الأيام دعاني مسؤول المالية في إدارة مسجد باريس وقال لي أنا أتعاطف معك كثيرا وأريد مساعدتك ماديا وأنا في هذا الوقت لم أكن أعمل في المسجد فقد انتهى عملي وتعاوني مع مسجد باريس قبل شهور من انتهاء د.هدام من عمله كعميد لمسجد باريس حيث عين في الجزائر كعضو في المجلس الأعلى للدولة وظلت علاقتي مع عميد مسجد باريس يسودها فتور وشبه مقاطعة في حين احتفظت بعلاقات طيبة مع إدارة المسجد وخاصة مدير مصلحة مفتشي الأئمة والذي أصبح فيما بعد مدير الإدارة العامة أما علاقتي بالإمام ومفتي جامع باريس فلم يزدها ذلك إلاّ متانة واستمرت حتى الأيام الأخيرة من نهاية عهدة دليل بوبكر وشهورا من عهدة شمس الدين الذي استلم مهام منصبه في 2020 خلفا لدليل بوبكر الذي طالت عهدته 28 سنة تماما مقابل 25 سنة بالنسبة لوالده الشيخ حمزة بوبكر الذي تولى عمادة المسجد من 1957 إلى صيف 1982، وها هو الشيخ بوزيدي جلول يغادر مسجد باريس بعد 30 سنة من العمل في هذا المسجد عرف فيها الحلو والمر، وصبر وصابر وخرج سالما محتفظا بعلاقات حميمة مع إدارة مسجد باريس الجديدة، وهو الآن بين فرنسا ومسقط رأسه مدينة جندل ولاية عين الدفلة، وأنا دخلت إلى الجزائر بصفة نهائية ولا تزال علاقاتنا مستمرة ولطالما جمعتنا لقاءات نستعيد فيها ذكريات باريس في مسجدها ولياليها.
وآمل أن يجمع فتاويه في كتاب ليستفيد منها الأئمة في الجزائر لأنّها فتاوى منبعها ظروف المهجر وفي دولة علمانية، وكان الشيخ جلول قد جمع بعضا من خطبه وأصدرها في كتاب في الجزائر، وأنا من كتب له المقدمة.
ثلاثون سنة من العمل في مسجد باريس عايش من خلالها ثلاثة من عمداء مسجد باريس؛ تجربة هامة تستحق التدوين ويمكن من خلالها الإفصاح عما عاشه، وما عاناه وكنت شاهدا على ذلك.
وأقولها بصراحة إنّ مسجد باريس بدون الشيخ بوزيدي جلول مبتدأ بلا خبر وهذا ما عبر لي عنه بعض المترددين على مسجد باريس بصورة منتظمة، فالشيخ بوزيدي جلول ولو أنه ليس متخرجا من جامعة ولا المعاهد العليا إلاّ أنّ السنوات الطويلة التي قضاها مفتيا في مسجد باريس، والتجربة الطويلة في دروس الوعظ والإرشاد في مسجد باينام والجامع الكبير في الجزائر العاصمة جعلت من دروسه نكهة خاصة بالنسبة للعامة فهو يخاطبهم بلغة سهلة في متناول الجميع، وفق الله إخواننا في مسجد باريس في أداء رسالتهم ويا لها من رسالة.
والحق إن 30 سنة من العيش مع مفتي وإمام جامع باريس لا تمحوها السنين فهي قبس وجزء من تاريخ إقامتي في الديار الباريسية أطال الله عمر صديقنا الشيخ بوزيدي جلول إمام ومفتي جامع باريس وهي سنوات لا تتكرر، هكذا الدنيا لقاء وافتراق ساعة تحلو وأخرى لا تطاق.