في سبيل الإصلاح
أ.د. مولود عويمر/
يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب بالمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.
الأستاذ مصطفی حافظ، واحد من أبرز رجال النهضة في مدينة الجزائر في العشرينية الأولى من القرن العشرين. ورغم كل جهوده في مجال التعليم والتنوير فإنه لم ينل بعد حقه من الدراسة والبحث من طرف المشتغلين في تاريخ الجزائر المعاصر، وظلت معلوماتهم عن شخصيته قليلة جدا.
درس مصطفى حافظ في مصر وتأثر بما شاهده من حركة أدبية وثقافية في القاهرة. وعند عودته إلى الجزائر اشتغل بالصحافة كاتبا ومحررا ومؤسسا لجريدة «لسان الدين» في 3 جانفي 1923 والتي أدار أعدادها السبعة الأولى باقتدار ثم ترك إدارتها لزميله الحسن بن عبد العزيز ليتفرغ تماما للتعليم والتربية.
وأسس الأستاذ مصطفى حافظ أول مدرسة قرآنية عصرية في القطر الجزائري وهي مدرسة الفلاح، التي كانت تضم أقساما للدراسة ودارا لإقامة التلاميذ، وكان يدرّس فيها القرآن واللغة العربية والعلوم الإسلامية بطرق التعليم الحديثة. وقد زارها المربي الكبير الشيخ محمد العابد الجلالي في سنة 1925 وكتب عنها بإعجاب وتقدير في كتابه السنوي «تقويم الأخلاق».
ويبدو أن الأستاذ حافظ حضر فعاليات تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في نادي الترقي في ماي 1931، نظرا لنشاطه الاصلاحي وصلته بأعيان وأركان الإصلاح في مدينة الجزائر آنذاك أمثال الشيخ أبي يعلى الزواوي والأستاذ أحمد توفيق المدني والشيخ محمد العاصمي.
وواصل الأستاذ حافظ أعماله بجد وتفان في جمعية السلام الخيرية، ورابط في مجال التعليم والتربية واهتم بالعمل الثقافي كالمسرح العربي فشجع بعض الشباب الجزائري مثل محي الدين باشطرزي على التمثيل وتناول القضايا التي تهم الإنسان الجزائري. وقد أتاه أجله في منتصف شهر أكتوبر 1932 وهو في عز شبابه وأوج عطائه.
نشر الأستاذ مصطفی حافظ المقال في جريدة «لسان الدين»، العدد 2، الصادر في 9 جانفي 1923. وهي جريدة دينية سياسية إخبارية تصدر يوم الثلاثاء من كل أسبوع. صدر عددها الأول في 2 جانفي1923 وتوقفت بعد صدور العدد 12 في شهر مارس من نفس السنة. أشرف مصطفی حافظ على الأعداد السبعة الأولى ثم انتقلت الادارة إلى الحسن بن عبد العزيز.
لقد نادى مصطفى حافظ إلى التمسك بالدين الإسلامي وإصلاح ما يعتري مسيرته من أخطاء المسلمين، فكلما صحت رؤيتهم لدينهم رصت رابطتهم الاجتماعية وتحققت فعاليتهم في الميدان، وإذا ابتعدوا عن الرابطة الدينية وتمسكوا بالرابطة القطرية فتضعف شوكتهم. واقتبس الأستاذ حافظ نصا من كتاب المستشرق الإيطالي المعروف أنريكو إنساباطو دعّم به رأيه في الإصلاح المنشود واستدل به على التوجيه السليم للمسلمين من أجل الارتقاء فردا وجماعة.
*** *** ***
«كيف نتوخى الإصلاح؟:
إننا لا نريد من إخوانا عموما والجزائريين خصوصا إلا معذرة في موقفنا هذا حتى يسمعوا منا ما زعمنا أنه من النصيحة وإن كنا بمعزل منها على فرض، كل ذلك منا ومنهم أداءً لواجب الوطن ورابطة الدين.
وإننا لا ننكر كون المشروع من حيث هو لابد وأن تطرقه التهمة في بدء الأمر من وجهة والبراءة من أخرى. أما الحكيم المتثبت لا يعجل بالحكم قبل انجلاء الحقيقة بصفتها الخاصة، ولابد من ذلك، «سنّة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا».
ومهما كان ذلك أو يكون بالمخلص غير خاجل ولا وجل بما أنه على يقين من صفاء السريرة، «بل الإنسان على نفسه بصيرة». فهو ليس بين يديه ولا من خلفه من كان يخشى وقوع النظر عليه .. غير أنه محتاج في جميع ذلك إلى من يؤازره كما يحتاج أيضا إلى توطيد النفس على المكاره في سبيل الإصلاح.
ويقولون أن الإصلاح واحد والطرق متعددة منها …. ومنها. أما المصلح حقيقة فهو من يتوخى النتيجة وإن طال الطريق: بعد المزار. كل صيد لا يقتنص إلا بفخه. فهكذا المسلم لا ينقاد إلا بدينه ولا يصلح إلا بشرعه، «ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا».
ومن أراد إصلاحه بغير ذلك فإنه خان الأمانة والله لا يحب الخائنين. أقول هذا والتاريخ يصدقني، والواقع يعضدني – فكان هذا والقطر الجزائري متسربلا بالراية الفرنسوية متجملا برونقها والكل يعترف من أنها دولة أسرع الدول سيرا في سبيل الاصلاح ومع هذا لم يستفد من ذلك الاصلاح إلا ما نراه كاللازم من عمارة السجون بسفهائنا والطرقات بأبنائنا الفارغين من أعمال الدنيا والآخرة.
ومع هذا فلست بقائل أن الحكومة تعمدت ترك الاصلاح كلا! إنما أقول جهلت الطريق الموصلة إليه فأتت البيت من غير بابه والله يقول: «واتوا البيوت من أبوابها».
ولابد لهاته النكبة من أسف حيث ضاع الجيل الأول والثاني وسيتلوها الثالث كل ذلك ذهب ضحية الإهمال. يشعر بهذا كل من مارس طبيعة المسلم وامتحن مشاعره.
ومن الحكماء من صرح بذلك مثل الحكيم السيد. اينساباطو الإيطالي في كتابه المسمى بسياسة الاستعمار تحت عنوان «الإسلام والحلفاء»، قال ما نصه: «إذا كان في ودنا أن نقود المسلمين معنا في طريق الحياة يجب علينا الرضوخ لمبادئ دينهم ولا تكون علاقتنا بهم مثمرة إلا إذا عرفناهم حق المعرفة باطنا وظاهرا على ما هم عليه من الصفات لا كما يصفونهم الأعداء بل يجب علينا أن نعرف من الدين الاسلامي ما هو ثابت لا يقبل التحول وما هو قابل للنشوء والارتقاء بارتقاء أتباعه في أوج المدنية.
والقاعدة الأساسية في حدوده ومكانته في نفوس التابعين حسب العصور والأقاليم، فمذاهب أهل السُّنة لم يركبوا من قواعد أبدية غير حادثة شدت کالعقال في قوائم الإسلام فلا ينفك منها أبد الآبدين بل فيها ما هو متغير بتغير الزمان والمكان ودرجة التابعين من الرقي وأكثر ما يطابق مقتضيات المدنية الحاضرة فالدين المحمدي وإن كان ثابتا أبديا من جهة الأساس فإن مبادئه توافق ضروریات کل عصر وليس في ذالك ما يذهب بقواه وروحه الطاهر مدى الدهر»، إلى أن قال: «يجب على أوروبا المنتصرة أن تنوّر العالم الاسلامي ولست أريد بذلك تنويره بالتجنيد الإجباري، أو بالدعوة الضعيفة القليلة الجدوى أو بالصور الفتوغرافية جغرافية أو بولاية العمال المنافقين إذ لا يكون لنا بالارتقاء أنصار مسلمون مخلصون يضحون بنفوسهم في سبيل مرضاتنا.
فالأمة الاسلامية لا تضحي نفسها في تأييد مبدأ غيرها، ومن أراد رضا الإسلام فليأخذ مني قاعدة عامة، وهي: إعطاء العوامل الفعالة في طريق المدنية إلى المسلمين أنفسهم يتصرفون فيها كما شاؤوا وليطبقوها بنية وإخلاص فلا ريب أن الإسلام يكون له عونا بل صديقا بل حليفا بل ناصرا يصعصع الجبال الشم وينفع العالم بإيمانه الوقاد».
الإصلاح وكيف نسير؟
لا ينكر المسلم ولا غير المسلم من أن إصلاح الأمة المحمدية في إصلاح دينها ومتى انحلت رابطة الدين بلا إسلام ولا مسلمين لأن الأمة الإسلامية ليست هي عبارة عن جنس تسعد بسعادة جنسها وتشقى بشقاوته، إنما هي عبارة عن ملة مختلفة الشعوب والأجناس لا وحدة لها إلا إذا تكوّنت من وحدة الدين، ومهما تفتت وحدتها من ذلك القبيل اعترفت (شذر نذر) لا وطنية ولا دين، وعلى هذا فتكون الوطنية نافعة من جهة مضرة من أخرى.
وعليه فكيف ما كان لا ينبغي للإسلام أن يعتمدها في تكوين وحدته كما اعتمدها غيره من أهل أوروبا لأنهم ما تشبثوا بذلك إلا بعد عجزهم عن تكرين وحدتهم من الدين ولو صح لهم ذلك لما رأيتهم في شقاق بعيد «تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى».
كل ذلك لعدم وجود أصول في الديانة المسيحية تربطهم ببعضهم، وإلا فهم أحرص الناس على حياة من حرصهم على سفك دماء بعضهم بعضا، ولكن لا مندوحة لهم عن ذلك إلا أن يشاء الله.
ويشهد لذلك ما هم عليه الآن وما كانوا عليه من قبل من محاولتهم لإيقاف الحرب فيما بينهم مع توطيد الأمن بين عموم البشر. فإذا به لم يزد الطين إلا بلَّة، وعليه فليحذر الإسلام من ذلك الداء المستعار أن يتمكن منه تمكُّنه من غيره.
وفي ظني أن لا سبب في ذلك إلا الغلو في حب الوطنية وقطع النظر عن رابطة الدين. واني ما قلت هذا إلا لما تفرسته من إخواننا المشارقة من جهة شغفهم بالمدنية الغربية فخشينا أن يأخذوها بأجمعها على ما هي عليه فتضرهم بقدر ما تنفعهم.
وإني مرتج من الله أن يكونوا ممن قال فيهم: «الذين يستمعون القول فيتبعونه أحسنه». والمعنى أنه ليس كل جديد يؤخذ ولا كل قديم يرد.
وخلاصة ما ذكرناه أن كل الذين يعتبرون بأجناسهم إلا المسلمين بأنهم يعتبرون بدينهم.فتبًا لهم إن عادوا بعد إسلامهم هنودا أو مصريين أو مغاربة أو شرقيین -وهم يعلمون أن قوتهم بالأمس كانت باسم الدين».