أيها المذنب، أيها المتعثر اسمعْ…
عبد العزيز كحيل/
نحن مذنبون مثلك، بل لعلك أحسن حالا منا إذا كنت غير راض عن نفسك «فأي علم لعالم يرضى عن نفسه وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه» كما يقول ابن عطاء الله السكندري، و»لأن تبيت نائما وتصبح نادما خير من أن تبيت قائما وتصبح مدلاّ، فالمدل لا يرفع له عمل»، على حد تعبير الإمام ابن القيم.
الله لا يريد منك أن تكون ملكا مقربا ولا إنسانا فوق العادة، لا…هو يعلم أنك ستخطئ لا محالة فيخاطب بشريتك بما فيها من ضعف ونسبية:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
أنت المخاطب بقوله «يا عبادي»، وما أجمله من نداء علوي ليس موجها للأبرار والمقربين وأصحاب المقامات الرفيعة بل لك أنت بضعفك وتقصيرك وأحمالك من الذنوب.
وتأمل الحديث النبوي الشريف «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم»[رواه مسلم]، هل هذا تناقض؟ الله يريد الذنوب؟ ينتظر من عباده أن يعصوه؟ لا، ليس هناك تناقض والرسالة مفادُها: ابق دائما على عبوديتك لله ومحبتك له وبغضك للذنوب وإن وقعت فيها، لأن ذلك يجرك إلى ربك بسلاسل العبودية، تبكي وتتضرع وتلقي بنفسك على عتبة بابه الكريم، وتلك هي العبودية التي يريدها الله منك وترفع درجاتك عنده ولو أذنبت وأذنبت، قال العارف بالله ابن عطاء:»اخرج من أوصاف بشريتك عن كل وصف يناقض عبوديتك لتكون للحق مجيبا ومن حضرته قريبا»، وصدق رحمه الله، المهم لاحظْ حدود بشريتك ولا تبرح ساحة العبودية لله التي تقتضي التذلل بين يديه والإقرار بجبروته وتعفير الجبين في حضرته.. مظاهر العبودية هذه هي روح الصلاة والصيام والحج والتلاوة والذكر وغيرها من العبادات، فليس للحركات معنى إلا إذا صدرت من قلب فيه عبودية صادقة لله تعالى.
وهكذا تفهم الفرق الشاسع بين من يبغض المعاصي – وإن وقع فيها بحكم بشريته – وبين من يحبّها أو لا يبالي بها، فانظر إلى حال قلبك، أفيه حلاوة الطاعة ومرارة الذنب؟ هل فرحت بما تقربت به إلى الله؟ هل أحسست بوخز الندم إثر مخالفتك لأمر الله أو غشيانك لنهيه؟ عندما تقلع عن الذنب هل يحدث لك أن تجد بشاعته ممتدة في قلبك فتسعى إلى إزالتها بتجديد الإيمان والصلة بالله، تلوم نفسك وتُنكر عليها فعلها وتنظر إلى ذاتك بعين الاحتقار وتلومها ثم تلومها؟ إذا حدث لك ذلك فاعلمْ أن تلك هي التوبة النصوح .
وهكذا حياتنا الدنيا، وهذا قدرنا نحن المؤمنين: نعيش في ساحة معركة وليس في منتجع سياحي{إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ}…ساحة منازلة على جبهات عدة: النفس والشيطان والدنيا والبشر، شهوات جذابة هنا، ونزوات طائشة هناك، ودعوات مزينة لتحيد عن الصراط المستقيم ترفع ألف لافتة براقة لا يصمد لإغرائها إلا أولو العزم من الرجال…فما دمت تندم وترجع وتؤوب وتحاول الخلاص من الذنوب فأنت من الفائزين لا محالة…القنوط ممنوع، اليأس مرفوض، أبواب التوبة لا تُغلق مهما تعددت المخالفات والوقوع فيها، فهو عز وجل «يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل»(رواه مسلم). إن الحسنات يذهبن السيئات. وأتبع السيئة الحسنة تمحها. المهم عليك بالالتجاء إلى الله بالليل والنهار خاصة في زمن الفتن وغلبة الهوى، وقل: يا رب سدد سدد، وتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فسدّدوا وقاربوا وأبشروا»(رواه البخاري).
معنى هذا إذا لم تبلغ درجة السابقين فكنْ من أصحاب اليمين، واستعن بقوله تعلى {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهم}. أليست توبته تعالى بغيتك ومبلغ همّك؟
المهم سر في الطريق إلى الله.. بضعفك بأخطائك، بنزواتك.. لا تغيّر الطريق، سر كما استطعت: ركضا، مشيا، حبْوا.. الزم الطريق وستثبت وتستقيم وتنجو وتفوز..اجتهد في السير إلى الله ما دمت مجتهدا مرابطا على ثغور التوبة والاستغفار، عاقدا العزم على التجديد والانكسار فلا تيأس من تغيير الذات وتهذيب النفس وإن زلّت قدمك وضلّ فهمك، لا تقنط من مراغمة الشيطان وإن أوقعك في ألف ذنب..واعلمْ أنه تُرفع ألفُ حوبة بتوبة، وكما يقول جلال الدين الرومي» إذا انتكست للمرة الألف تُب للمرة الألف وواحد.. فإنّ الله لا يَملّ حتي تمِلّوا».