تجربة الحج
عبد العزيز بن سايب/
مِنْ بركاتِ الشام عليَّ الرحلةُ لأداء فريضة الحج، والسفر إلى بيت الله الحرام، ومدينة سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
ويُشاركني في هذه النِّعمة عددٌ من طلبة العلم الجزائريين المقيمين بسوريا.. بَيْدَ أنَّ جملةً منهم تَيَسَّرَ لهم الحجُّ برًّا من طريق الأردن، أما كاتب هذه السطور فلم يَسْهُلْ عليه ذلك، فزمن الحج يُصادف مرحلةَ وأوقات الدراسة، فلم يكن لي أن أَتَغَيَّبَ لأَوْلَوِيَتِهَا، فضلا عن أن شَرطَ الاستطاعة لم يكن متحققا فيَّ، ثم نَزَلَتْ حوادثُ تفجيرات 11 سبتمبر 2001 بالولايات المتحدة الأمريكية، فصار من غير الممكن الدخول إلى السعودية بَرًّا، إلا للجنسيات الخليجية أو المقيمين بها، فلم تبقَ إلا سبيل الطائرة، وبالنسبة لطالب لا موردَ له ولا عملَ، ومعه عائلة صار الأمر خارجا عن الاستطاعة، لتَكْلُفَةِ تذكرة الطائرة الباهظةِ، فأضحى مشروع الحج بعيدا،وفي الحقيقة لم أُفَكِّرْ بجديِّة بالموضوع بعد ذلك إلى أن طَرَقَ سَمعي أمرٌ جعلني أَعْقِدُ العزمَ على السعيِّ لبيت الله الحرام..سبحان الله.. تلك الرحلة المباركة كانت بمصادفات غريبة، فقد أخبرني مَنْ أَثِقُ بكلمتِهِ أنَّ عجوزًا مُحْسِنَةً سُوريةً تَتَكَفَّلُ بنفقات حجِّ طالب العلم، شريطةَ أن يَحصلُ بنفسه على التأشيرة من الجهات الرسمية، فقعدتُ العزم، وسَجَّلْتُ نفسي في القنصلية السعودية بدمشق ضمن قائمة العرب غير السوريين المقيمين بسوريا، فكان لهم عدد محصور من التأشيرات، وبالفعل خَرَجَ اسمي في قائمة المقبولين، فكانت فَرحة فريدةً جليلةً، ولكن وَقعتُ في «حَيْصَ بَيْصَ» إذْ لَمَّا أَخْبَرْتُ ذلك الشخصَ، إذَا به يقول لي: إن تلك المحسنةَ قَصَدَتْ شيئا وفهمت شيئا آخر، فهي أَرَادَتْ طالبَ العلمِ السُّوريَّ، وليس أيَّ طالب، تَأَثَّرْتُ بما وقع لي، لكن قَدَّرْتَ أنها حكمة ربانية، وهي التي دفعتني للإقدام على تلك الخطوة، فلولاها لَمَا فكرَّتُ في الحج أبدا، لظُروفي الشخصية والارتباطات التعلُّمية بدمشق، وتكاليف الدراسات العليا، ومؤنة العائلة، وكان عندي وقتها مع الأهل وَلَدَان صغيران، أَمَا وقد خرجت في قائمة الحجاج فلقد بدأتْ بالسعي لتحصيل تكاليف الحج؛ الطائرة، الرسوم، ونفقة الإقامة بتلك البقاع المبارك، لله تعالى الحمدُ، فقد وجدتُ تاجرا قسنطينيا يتردد على دمشق للتجارة، فطلبتُ منه أن يُقرضني مبلغا يَفِي بغالب مصاريف الحج على أنْ أَسَدِّدَه بعد أجلٍ بعيدٍ، وكان المبلغ 40 ألفَ ليرةٍ سوريةٍ وقتها، ذهب ثُلُثَاه تقريبا في ثمن تذكرة الطائرة، وهذا المبلغ يُمَثِّلُ حينَها أُجرة سَكني لقُرابة العام، وكذلك كان الأمر، فجزاه الله كل خير، فكانت حجتي شتاءَ عام 1425ه الموافق لشهر فيفري 2005م وكاتب هذه السطور في 35 من عمره، وهكذا جاء يوم السفر، وكان صباحا باكرا، ويوما دمشقيا شديدَ البرودة، لَبِسْتُ قميصا خفيفا، فوقه سُترة، لأتمكن من ارتداء ثوب الإحرام بسهولة في الطائرة، وبمجرد ركوبي في الطائرة تجردتُ من تلك الثياب، وأحرمتُ بالحج، على قول المالكية وغيرهم المجيزين للإحرام قبل الميقات المكاني مع نوع من الكراهة، فالرحلةُ الأولى من دمشق إلى جُدَّة، وجدة داخلَ الميقات، ولابد من الإحرام قبله، أحرم البعضُ عند إخبار طاقم الطائرة بالقرب من الميقات، وفَضَّلْتُ الإحرام بمجرد الاستقرار في مقعد الطائرة، احتياطا عن الغفلة أو الخطأ في تجاوز الميقات، وفَوْرَ وصولِنا وخروجنا من المطار طُلِبَ مُنَّا الانتظار في العراءِ بساحة كبيرة، حيث يجتمع الواصلون من شتى الجهات، أخذوا أوراقنا ثم جاء من ينادينا بعد ساعات طويلة مرهقةٍ تحت الحر ورطوبة جُدَّة وغُبَارها من الصَّباحِ إلى مَغْرِبِ ذلك اليوم..
صلينا المغربَ ثم ركبنا حافلة بعد تسليمنا الأوراق التي تُثبت هويتنا، واحتفظوا بالجوازات التي سَلَّمُوها للسائق، الذي يُسَلِّمُها بدوره إلى جهةٍ في مكة المكرمة حيث موضع المطوِّف المعيَّن لنا، وفي الطريق كنا نُهَلِّلُ بالتكبير بين الفينة والفينة، وعند تَغييرِ الهيئة، فسبحان من جعل ذلك الخبرَ يَطْرُقُ سمعي، فلولاه ما كنتُ لأفكر بالحج، ولكن لله جل جلاله مقادير وتراتيب يعجز المرءُ عن معرفتها وسَبر غَوْرِهَا، فهذا العام كان آخر إقامتي بسوريا، ويشاء الله تعالى أن تكون من خواتيم أعمالي في الشام زيارة بيته الحرام.
في خريف هذه السنة عُدْتُ إلى الجزائر وتَوَظَّفْتُ في الجامعة، فلو أَخَّرْتُ الحجَ لَمَا تيسر لي ذلك، ففي بلادنا الحج سبيلُه الغالبُ القُرْعَةُ بين المواطنين، والقُرْعَةُ ضربةٌ لا ضمانَ فيها، وبالفعل ها أنا اليوم في سنة 2023 ولم يتيسر لي ذلك رغم التسجيل في القرعة للحج.
وهكذا الحياةُ قد تأتيك فرصةٌ أو مندوحةٌ وليست هي مربط الفرس، بل هي بَوَابَّةٌ لأمرٍ آخرَ يُريده الله منك ولك، فمِن الجهلِ بمكانٍ التشبثُ المستميتُ بها والوقفُ باكيا على عدم تمامها، فإنما هي مجرد محطة لمرحلة أخرى..هذا ممَّا استَفَدْتُه من باعثِ الإقبالِ على الحج من قصة تلك الْمُحْسِنَةِ السوريةِ.
فاللهم ارزُقْنا البَصيرةَ ومُنَّ علينا بالحكمة واسْكُبْ في قلوبنا رَوح الرضا بقضائك والتسليم لقدرك.
اِنطلقنا من جدة في الباص، ووصلنا مكة المكرمة قبيل 12 ليلا، ويا لها من لحظات وأنت تَشْهَدُ معالم مكة، موطن سيد الخلق وحبيب الحق، مكانا وطئه خليلُ الرحمن إبراهيم وابنه إسماعيل صادقُ الوعد عليهما الصلاة والسلام. مكة وما مَارَتْ بهِ، ومَنْ مَرَّ بها واستقرَّ فيها.. يا لَلرَوعة..
وبَيْنَا أنا أموج في خِضَمِ مشاعري الْمُرَفْرِفَةِ إذ بنا نصل إلى آخر محطاتنا، فنزلنا في ساحة كبيرة هي مضافةِ مُطَوِّفِنا، استقبلونا بحفاوة مع الماء البارد والعصير، وأجلسونا في قاعة الاستقبال ريثما تجهز أوراقنا التي نمشي بها في مكة المكرمة، لكني فَضَّلْتُ المكثَ في الساحة الخارجية المفروشة، لاستنشاق هواء مكة، والتأمل في سمائها، متفكرا في قَصصها، كما اغتنمتُ فرصةَ الانتظار فاتصلتُ هاتفيا بالأخ الفاضل الشيخ عبد الحميد سُكحال المقيم بمكة منذ أعوام، عاملا فيها.. جاءَ على عَجَلٍ..وتعانقنا، فمنذ مُدَّةٍ طويلة من أيام الشام لم نَلتقِ، ذَكَّرَني باسِما بأنه ينبغي عليَّ التَّكبير، فهي سنةُ الْمُحْرِم عند تغيّر حاله أو لُقْيَا صَحْبِهِ، شكرتُ له ذلك التذكير، وبعد جلسة طيبةٍ طَلبتُ منه العودةَ إلى بيته فقد تأخر الوقتُ، فلا أَبْغِ تضييع وقته في هذه الأيام المشهودة، وَاعِدًا إيَّاه معاودةَ الاتصال به بمجرد استقراري، دالًّا إلى مكان إقامتي، استجاب لطلبي بعد امتناع، فعانقته مودعا، ولم أنسَ هذه المرةَ التكبيرَ عندها، في تلك الإقامة تعرفتُ على بعض الجزائريين من مدينة سطيف، لله الحمد سبق لهم الحج والاعتمار مرات، فلهم خِبْرَةٌ بالمناسك عَمَلِيًّا، ودُرْبَةٌ على مكة وشوارعِها والحرمِ ومداخلِه وترتيباتِه.
انطلقت معهم بعد فراغ الإجراءات الإدارية، واختارَ هؤلاءِ الإخوة فندقا للإقامة به في أَعْلَى أعالي مكة، وبمجرد وصولنا للفندق وضعتُ حقيبتي عندهم، واستأذنتهم للاغتسال، وهو غُسل مسنون لدخول مكة، والاستعداد لطواف القُدُوم، الذي هو من واجبات الحج، نزلنا سويةً إلى الحرم، فطلبتُ منهم دلالتي على المسجد لأداء طواف القُدُوم..
وصلنا المسجد الحرام في حدود 2:30 ليلا.. أصابتني الدهشةُ الشديدةُ عند رؤية الكعبة أوَّلَ مَرَّةٍ..زادها الله شَرَفًا وكرامةً..متلألئةً..تَرْفُلُ في الأنوار الساطعة..والطائفون يطَوِّقُونها..والمصلون في قبلتها..والداعون يرفعون الأكف باكين ضارعين..والمخبتون ناظرين إليها ودموعهم سكيبة..
ومن الدهشة غابت عني أحكام الطواف..استَعَنْتُ بتعليم الإخوة من «سطيف» لخبرتهم وسبق عهدهم بها..
سبحان الله..شُلَّتْ الأذهان..وغابت المعلومات عند أوَّلِ لِقاء..
ذَكَّرَنِي هذا بقول سيدي الشيخ د.إبراهيم السلقيني عندما دَرَّسَنا أحكامَ الحج في كلية الشريعة بجامعة دمشق.. أخبرنا حِيْنَها أنه عند أول طواف ذَهَلَ تمامًا عن كل أحكامه، وهو الذي كتب فيه مقررا جامعيا، ودَرَّسَهُ أزيد من سبع سنوات، بالفعل صدق من قال: ليس من رأى كمن سمع..
جزى الله كل خير أولئك الإخوة من سطيف، لقد اختصروا لي أحكام الطواف عمليا.
طُفت في كل ذهول، غير شاعر بما أقوم به، أو أُرَدِّدُهُ من أذكار وتلبية، كان حرصي على الأداء الصحيح، دون الانتباه لحقيقة ومعاني الطواف وحِكَمِه، الأمر الذي حاولتُ استدراكه فيما بعد، وشيئا فشيئا بدأَ يَغشاني الهدوءُ والسكينةُ والطمأنينةُ.
وبعد الطواف وركعتيه خلف مقام سيدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم الذي كان مزدحما مكتضا، شربتُ لأوَّل مرة ماءَ زمزم على خطوات من منبعه، يا لها من ذكريات عاطفية، تأخذك إلى عمق التاريخ والمشاهد الإيمانية، بعدها انطلقتُ نحو المسْعَى الذي صار داخل المسجد الحرام بعد التوسعة، شَقَقْتُ صُفوفَ الجالسين في الحرم وإذ بي أمام الصَّفا والْمَسْعَى في كاملِ الإنارةِ والجمالِ، سعيت بكل شوق وتدبر، وبالوصول إلى المروة وقفتُ على ما أَمْكَنَنِي من حجراتها..داعيا متبتلا.. وهكذا تمَّ السعيُ بأشواطه السبعة..وبذلك أَديتُ ثاني أركانِ الحج بعد الإحرام..ولله الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه..
جلستُ بعد ذلك في صَحْنِ المسجد الحرام..في أقرب نقطة أمكنتني من مواجهة الكعبة زادها الله تشريفا، وطَفقتُ أستمتعُ بالتأمل والنظر إليها، مع استحضار الذكريات التاريخية الحبيبة والمؤلمة، وختمتُ هذه الجلسة بتلاوة شيء من القرآن، واستغفار الأسحار، ولهجتُ كثيرا بالصلوات والسلام على سيدنا محمد مستشعرا جهادَه في تبليغ هذا الدين، وصبرَه على كلِّ مراحله وتقلبات حياته الميمونة، شاعرا بِمِنَّتِهِ على البشرية عموما وعلى المسلمين خصوصا.
وجاء وقتُ صلاة الصبح أوَّل صلاة فرض لي في الحرم الشريف لم أتبين الإمامَ وقتها، لكن قراءتَه كانت غريبة عليَّ، فليس هو من المشهورين.
فأسأله تعالى القَبولَ الحسنَ، والظفرَ بالأجر المضاعف الموعود لمن صلى تلك الصلاة.
بعد أداء الفريضة كنتُ أرغب بشدةٍ وحرارةٍ للبقاء في الحرم لتلاوة أوراد الصباح وأذكاره لأول مرة في هذه البقعة المباركة، وحضور الصبح إذا تنفس بأطول وأكمل مدة في الكعبة المشرفة، لكن أَلَحَّ عَلَيَّ الإخوةُ في العودة للفندق حتى لا أَضِيعَ في شعب مكة لو رجعت وحدي..وخيرا فعلوا.. فقد بدأ تعب السفر يأخذ مني كل مأخذه، فلم أنم الليل كله، وأَنَّى لي النوم في مثل هذه الرحلة المميزة ولأول مرة في تلك المرابع..
استَيقَظْتُ حين الضَّحْوةِ الكُبرَى، وكذلك فعل أصحابي، تناولنا شيئا من الطعام الذي جلبناه معنا في حقائبنا،
بعدها وَدَّعْتُ الإخوة متطفلا عليهم بترك أمتعتي عندهم، وتظاهرتُ بأني أريد الإقامةَ والاعتكاف في الحرم وليس الإقامة في الفنادق فاستغربوا من ذلك.
وحقيقةُ الأمر أن المال الذي جئتُ به لا يكفي لأجرة الفندق حتى مع الاشتراك.
وهكذا نزلتُ إلى المسجد الحرام، وبَدَأَتْ رحلةُ ومغامراتُ الإقامة فيه.