النظام العالمي يزداد توحشا وضراوة!
أ. عبد الحميد عبدوس/
تتوالى في الأيام الأخيرة حوادث غرق مراكب المهاجرين الذين يغامرون بحياتهم وحياة أطفالهم في بعض الأحيان هربا من حياة البؤس والفقر والصراعات في أوطانهم، وطمعا في الوصول إلى أرض الأحلام على الضفة الشمالية للبحر… كثيرة هي الفواجع والمآسي التي تطفو على سطح الأحداث، ثم سرعان ما يبتلعها النسيان،كما تبتلع أمواج البحر أجساد ضحايا قوارب الموت. في المقابل يزداد النظام العالمي القائم توحشا وضراوة. أغلب المهاجرين ينتمون إلى القارة الإفريقية أكثر قارات العالم معاناة من الأزمات الاقتصادية والغذائية والصحية والأمنية،رغم أن قارة إفريقيا تمتلك 30% من احتياطات النفط والغاز والمعادن في العالم،وهي بذلك من أغنى القارات بالثروات والمعادن الطبيعية،ولكن النهب المنظم الذي تمارسه القوى المهينة لثروات إفريقيا يتجاوز في حجمه تريليونات الدولارات ،وهو ما يفوق بأضعاف المرات حجم الديون المستحقة على قارة إفريقيا.
في العام قبل الماضي (2021) انتشر مقطع فيديو لزعيمة حزب «أخوة إيطاليا» جورجيا ميلوني، التي أصبحت في أكتوبر 2022 رئيسة للحكومة الإيطالية خاطبت فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالقول:» فرنسا تواصل استغلال إفريقيا عبر طباعة العملات لنحو 14 بلدا وتضع عليها ختمها، وعبر استغلال وتشغيل الأطفال في المناجم وعبر الاستحواذ على المواد الأولية مثلما يحدث في النيجر حيث تستخرج فرنسا 30 بالمائة من مخزون الأورانيوم الذي تستعمله في تشغيل مفاعلاتها النووية و90 بالمائة من سكان النيجر يعيشون بدون كهرباء”. وأضافت: “لا تقدم لنا الدروس يا ماكرون لأن الأفارقة يهجرون قارتهم بسببكم وسبب سياساتكم والحل ليس تهجير الأفارقة نحو أوروبا ولكن في تحرير إفريقيا من بعض الأوروبيين”.
في 10 جويليه 2015أعلنت منظمة التغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) أنه بالإمكان القضاء على الجوع في العالم في 2030،. ويكفي لتحقيق ذلك تخصيص 3,0% بالمائة من الناتج العالمي الخام، وبعد شهرين اعتمدت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في سبتمبر 2015 بالإجماع خطة التنمية المستدامة لعام 2030 التي حددت 17 هدفا لتحقيق هذه الإستراتيجية التنموية العالمية،ونص الهدف الأول منها على القضاء على الفقر، والهدف الثاني القضاء على الجوع، والهدف الثالث توفير الصحة الجيدة والرفاه وتحقيق التغطية الصحية الشاملة وإمكانية الحصول على خدمات الرعاية الصحية الأساسية الجيدة وإمكانية حصول الجميع على الأدوية واللقاحات الجيدة والفعالة والميسورة التكلفة. من جهتهم مسؤولو البنك الدولي قالوا إنهم يتطلعون إلى العمل مع الشركاء الملتزمين في جميع أنحاء العالم لجعل التغطية الصحية الشاملة حقيقة واقعة بحلول عام 2030. لكن، ورغم هذه الإستراتيجية التنموية الإنسانية الطموحة لتحقيق العدالة وضمان الحقوق الأساسية للإنسان ،فإن الواقع يقول إن تحقيق هذه الأهداف يبتعد أكثر كلما اقترب موعد الانجاز. بعد مرور نصف هذه المدة (2023) المحددة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة في سنة 2030، ارتفع عدد الجياع في العالم بشكل كبير، وفي عام 2021 نشرت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ تقريرا يتوقع أن يواجه 80 مليون شخص إضافي خطر المجاعة عام 2050. كما توقع تعرض إمدادات الماء لاضطراب يؤدي إلى تراجع محاصيل الزراعات التي تعتمد على مياه الأمطار في جميع أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء، ويمكن لـ 40 بالمائة من مناطق إنتاج الأرز في الهند أن تصبح أقل ملاءمة لهذا النوع من الزراعة. في شهر ماي الماضي (2023) صدر عن الشبكة العالمية لمكافحة الأزمات الغذائية التقرير السنوي لعام 2022 الذي أعدّته شبكة معلومات الأمن الغذائي، وكتب الأمين العام للأمم المتحدة السيد انطونيو غوتيريش في توطئة التقرير أن: «أكثر من ربع مليار شخص يعانون الآن من مستويات حادة من الجوع، وبعضهم على شفا المجاعة. وهذا أمر لا يتصوره عقل». وأضاف «هذا الإصدار السابع من التقرير العالمي عن الأزمات الغذائية هو إدانة صارخة لفشل البشرية في إحراز تقدم نحو تحقيق الهدف 2 من أهداف التنمية المستدامة المتمثل في القضاء على الجوع وتوفير الأمن الغذائي والتغذية المحسّنة للجميع»..
القارة الإفريقية هي أقل القارات تسببا في تلويث المناخ ولكنها أكثر القارات تضررا من نتائج التغير المناخي وما يترتب عنه من أزمات غذائية وصحية وبيئية وموجات جفاف متتالية في بعض المناطق وظاهرة الفيضانات المدمرة في مناطق أخرى نتيجة التغير المناخي، حيث يعاني فيها أكثر من 46 مليون شخص من الجوع الحاد. كما يعاني سكان قارة إفريقيا من ضعف التغطية الصحية ونقص الكوادر الطبية نتيجة الهجرة إلى الدول الغنية. في نوفمبر من العام الماضي (2022) كانت أهم توصيات الدورة 27 لقمة المناخ التي عقدت بمدينة شرم الشيخ المصرية إنشاء صندوق «الخسائر والأضرار» لمساعدة البلدان النامية المتضررة من كوارث المناخ، إلا أن الدول الصناعية الغنية قررت إرجاء بند التعويضات حتى عام 2024.
بالإضافة إلى كل ذلك تعاني الدول الأفريقية تحديات تتعلق بارتفاع فوائد الديون أو «خدمة الدين». في عام 2020، قُدِّر إجمالي رصيد الدين الخارجي لإفريقيا جنوب الصحراء بنحو 702.4 مليار دولار أمريكي، مقارنة بـ380.9 مليار دولار أمريكي في عام 2012، وهي زيادة بمقدار الضعف تقريباً، فيما ارتفع المبلغ المستحق للدائنين الرسميين، ومنهم المقرضون المتعددو الأطراف، والحكومات والوكالات الحكومية، من نحو 119 مليار دولار، إلى 258 مليار دولار. وخلال الفترة ما بين العام 2000 إلى نهاية 2022. تضاعفت ديون البلدان الإفريقية 5 مرات؛ ملامسة حاجز الترليون دولار، وسط توقعات بتخلف واسع عن السداد في العام الحالي 2023. وبلغت أقساط الديون نحو 100 مليار دولار سنويا مما يشكل ضغطا شديدا على ميزانيات العديد من البلدان التي تستقطع من أجل الوفاء بها أكثر من 15 في المائة من الناتج الإجمالي. وهذا ما يؤشر إلى أن إفريقيا تنفق على تكاليف خدمة الديون أكثر مما تنفقه على الرعاية الصحية.تتركز الجهات المقرضة للدول الأفريقية في المؤسسات الدولية مثل (البنك وصندوق النقد الدوليين)، وهى المؤسسات التي أوهمت الدول الأفريقية سابقاً بأن الانفتاح الاقتصادي والقروض هي السبيل الأمثل نحو النمو الاقتصادي، وهو ما لم يتحقق في الجانب العملي حيث أنفقت 30 دولة أفريقية على سداد خدمة الدين العام أكثر من إنفاقها على الرعاية الصحية والتعليم.
في جويليه 1944 تم إنشاء صندوق النقد الدولي وما يعرف الآن باسم مجموعة البنك الدولي في مؤتمر عقد في «بريتون وودز» بولاية نيو هامبشاير الأميركية، ليكونا مؤسستين رئيسيتين للنظام النقدي الدولي بعد الحرب العالمية الثانية. حددت مهمة صندوق النقد الدولي في مراقبة أسعار الصرف وإقراض العملات الاحتياطية للبلدان التي تعاني من عجز في ميزان المدفوعات، بينما مهمة البنك الدولي هي تقديم المساعدة المالية للتعمير بعد الحرب ولبناء اقتصاديات الدول الأقل نمواً. ولكن الهدف النهائي لمؤسسات بريون وودز تركز على حماية مصالح الشركات الدولية الكبرى. فرئيس البنك الدولي يكون دائما مواطناً أميركياً يعينه الرئيس الأميركي، والمدير الإداري لصندوق النقد الدولي يكون مواطنا من الاتحاد الأوروبي تعينه المفوضية الأوروبية.
ولذلك اعتبر الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش أن صندوق النقد الدولي أفاد الدول الغنية بدلاً من الدول الفقيرة، قائلا: «إن قواعد صندوق النقد الدولي تحابي الدول الغنية بشكل غير عادل. فخلال جائحة كورونا، تلقت دول مجموعة السبع الغنية، التي يبلغ عدد سكانها 772 مليون نسمة، ما يعادل 280 مليار دولار من صندوق النقد الدولي بينما تم تخصيص ما يزيد قليلاً عن 8 مليارات دولار لأقل البلدان نمواً، التي يبلغ عدد سكانها 1.1 مليار نسمة».
في مقابل ذلك تتهاطل المساعدات المالية على دولة أوكرانيا التي تلقت منذ فيفري 2022 (تاريخ انطلاق العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا) إلى بداية عام 2023 مساعدات عسكرية ومالية بلغ حجمها نحو 150.8 مليار دولار من أكثر من 20 دولة و4 منظمات دولية، منها البنك العالمي وصندوق النقد الدولي و مختلف مؤتمرات المانحين. وفي 20 جوان الجاري (2023) كشفت وكالة “بلومبرغ” أن الاتحاد الأوروبي جاهز لتقديم حزمة مساعدات مالية جديدة لأوكرانيا تبلغ حوالي 50 مليار يورو.
من البديهي أنه طالما استمر هذا النظام المالي والاقتصادي الدولي الظالم في الهيمنة على شؤون الإنسانية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها أوروبا، فإن الأغنياء سيزدادون غنى، والفقراء سيزدادون فقرا، والمفارقة أن عدد الذين يموتون بالسمنة والتخمة في عالم الأغنياء يكاد يقارب عدد الذين يموتون من الجوع في عالم الفقراء .