الشيخ محمد الطاهر آيت علجت بين جهاد السنان وجهاد العلم
بدوار ثاموقرة (تمقرة) من ولاية بجاية الناصرية وفي يوم 31 أكتوبر1917م بزغ نجم رجل كانت حياته سجلا حافلا بمعاني الحياة السامية، ففي سن مبكرة حفظ القرآن الكريم على يد والده وهو ابن أحد عشر سنة، ثم أوكله والده إلى ثلاثة من مشايخ ثاموقرة أوّلهم الشيخ الصالح أوقاسي المتخصص في القراءات العشر فتلقّى منه شيئًا في القراءات إلى جانب مبادئ العلوم الشرعية والنحوية، وثانيهم الشّيخ محند وعلي والطيب، أمّا ثالثهم فهو الشّيخ الطيّب اليتورغي في زاوية سيدي يحي العبدلي بمسقط رأسه، ولما بلغ الثانية عشر من عمره انتقل إلى زاوية سيدي أحمد أويحي بأمالو وهي زاوية لا تبعد كثيرا عن ثاموقرة فدرس على شيخين جليلين من كبار علماء المنطقة، بل من كبار علماء الجزائر، مدّة أربع سنوات، أوّلهم الشّيخ لحلو الخياري (كان حجّة في الفقه المالكي وفي القراءات)، والثاني هو العلاّمة الشّيخ السّعيد الياجوري (أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) مختلف فنون العلم كالفقه واللغّة والصرف والبلاغة والفلك والحساب، الإنسانية ليرحل بعدها إلى زاوية الشيخ بلحملاوي في وادي العثمانية بضواحي مدينة قسنطينة حيث تضلع في الفقه وعلوم اللغة والأدب والحساب، إضافة إلى العلوم كالتاريخ والجغرافية وغيرها على يد كوكبة من شيوخ الزيتونة كالشيخ مصباح الحويدق والشيخ سعيد اليعلاوي والشيخ أحمد البسكري وغيرهم… ثم ذهب إلى قسنطينة حيث التحق بالشيخ عبد الحميد ابن باديس وحضر له دروسا ومجالس
وبعدها عاد إلى ثاموقرة وهو في العشرين من عمره عالما متكاملا، مشبعا بروح علمية أهلته أن يتبوأ مقام السيادة الروحية كشيخ وأستاذ ومقام السيادة الثورية على المستدمر الذي أشاع الظلم والجهل في البلاد وبين العباد ، فكان أول عمله أن أحيا زاوية جده التي هدمها الاستدمار الفرنسي سنة 1937م حيث استأنف المعهد العتيق الذي أسسه العالم الرباني سيدي يحي العيدلي في القرن التاسع الهجري؛ وتفرغ الشيخ الشاب محمد الطاهر آيت علجت للتعليم والتدريس والإفتاء، فذاع صيته وانتشر خبره، وترك سّمعة طيّبة في نفسية طلابه وزواره، فأقبل عليه طلاب العلم من بجاية وما جاورها من المدن والقرى والمداشر في الهضاب العليا وحوض الصومام إلى جبال البابور… مما أحدث له شهرة في التعليم بلغ صداها جامع الزيتونة؛ التي عمر طلابه أروقته ومجالسه العلمية طلبا للدراسة والتحصيل، فامتازوا عن غيرهم وتفوقوا على أقرانهم، لجودة نظام دراستهم في ثاموقرة الذي أسسه الشيخ محمد الطاهر آيت علجت مستلهما خبرته في نظم الدراسة بجامع الزيتونة بتونس ومعهد الشيخ عبد الحميد بن باديس ومعهد الكتانية قسنطينة…
تخرج الكثير من طلبته، وتصدوا للتربية والتعليم في كل قرى المنطقة، وشاركوا في الجهاد الثقافي مشاركة فعالة ومؤثرة أحيت أمجاد الناصرية الأولى حتى غدا نظام التدريس في ثاموقرة طفرة في التربية التعليم بالمغرب العربي…
ومما أثمرته السمعة الطيبة التي نثرها الشيخ بين طلابه وزواره ومستفتيه، أن تحولت زاوية جده إلى ملاذ يستظل به الكثير ممن اكتووا بسياسات الظلم والاستبداد الاستدماري حتى تحولت الزاوية إلى مؤسسة خيرية واجتماعية مفتوحة لكل طبقات المجتمع…
كان الاستدمار يراقب زواية الشيخ محمد الطّاهر من خلال عيونه وأعوانه وأذنابه المندسين، ثم قرّر نفي الشّيخ من ثاموقرة سنة 1948م، فحاول طلبته ومريدوه منع ذلك القرار، ولكنهم فشلوا أمام التعنت الاستدماري، غير أن الشّيخ استقبل قرار نفيه ببرودة أعصاب، وصبر جميل ونفس مطمئنة، ولحق بمنفاه في زاوية سيدي سعيد بضواحي صدوق، حيث استقبله طلاّب هذه الزّاوية وسكان القرية بحفاوة واعتبروا نزول الشّيخ الطّاهر في ضيافتهم بركة من الله عليهم فمكث فيهم سنة كاملة معزّزًا مكرّمًا…
شارك طلاب الزاوية بأمر من شيّخهم العلاّمة الطّاهر آيت علجت في الثورة التحريرية الكبرى، ثورة أوّل نوفمبر 1954م، فانتقل منهم إلى الرّفيق الأعلى ما يربو عن مائة شهيد، وعلى رأسهم أربعة ضباط من جيش التحرير الوطني وهم: سي عبد الرّحمن بن الموفق، وسي جمعة أويخلف (كان أوّل مساعد للشّيخ في التّدريس)، وسي سليمان أنتوال، وكذلك إسماعيل أنتوال…. وغيرهم.
وفي أغسطس من سنة 1956م كانت الزاوية ملاذا يأوي إليه الثوار المجاهدون، الأمر الذي جعل فرنسا تفجر الزاوية، لأنّها كانت تدعو للثّورة ضدّها؛ فالتحق الشيخ محمد الطاهر آيت علجت وسائر طلابه بركب المجاهدين وكان الشيخ يتولى منصب القاضي الشرعي ضمن صفوف جيش التحرير الوطني بالمنطقة الثالثة التي كانت تتبع لها كتائب الثوار عبر عدة ولايات وسط البلاد بمنطقة القبائل كما كان يتولى فصل الخصومات والنزاعات التي كانت تطرح على المواطنين وعلى الثورة…
وبإشارة من العقيد عميروش سافر الشيخ محمد الطاهر آيت علجت إلى تونس في أواخر سنة 1957 فكان يتولى الإشراف على النشاط التعليمي للطلبة الجزائريين هناك، ثم انتقل إلى طرابلس الغرب بليبيا بطلب من قيادة الثورة حيث عين عضوا في مكتب جبهة التحرير الوطني هناك لحشد الدعم للكفاح المسلح من الخارج
بعد الاستقلال وفي سنة 1963م عاد إلى الجزائر وعين استاذا بثانوية عقبة بن نافع بالجزائر العاصمة ثم ثانوية عمارة رشيد ببن عكنون إلى جانب نشاطاته الدعوية والتأليف إلى أن أحيل على التقاعد سنة 1978م، ثمّ تفرغ للنشاط المسجدي، يمارس دروس الوعظ والإرشاد وخطابة الجمعة بمسجد الغزالي بحي حيدرة وغيره من المساجد…
لم يكتف الشيخ محمد الطاهر آيت علجت أن أحيا موات العلم في الجزائر وقد حاول الاستدمار جهد طاقته طمس هويته في محاولة يائسة لمسخ هذه الأمة ومحو معالم هويتها وإشاعة ثقافة التغريب المدمرة، بيد أن شموخ الشيخ محمد الطاهر و أمثاله من عمالقة هذا الشعب المجاهد الأبي كعبد الحميد بن باديس ومحمد البشيرالإبراهيمي ومبارك الميلي وعبد اللطيف السلطاني وأحمد سحنون وعمر العرباوي مصباح حويدق وعمر دردور… وغيرهم من الأماجد الفضلاء الذين باعوا أنفسهم في سبيل الله قد وقفوا سدّا منيعا وأحاطوا بأبناء الأمة حصنا حصينا تكسرت عليه كل المحاولات الماكرة…
يقول الأستاذ بومدين بوزيد: إن الراحل عاش أزمنة الجزائر المعاصرة، كانت زاويته رباطا جهاديا ضد الاحتلال الفرنسي، تخرج على يده ثلة من العلماء أغلبهم شارك في الثورة وحماية المذهب والخصوصية الثقافية للجزائر.
من كبار الشيوخ وأحد أشهر مراجع الفقه المالكي في الجزائر وهو عالم حر ذو مكانة دينية واجتماعية عالية وهمة سامقة وهو من أبرز المؤسسين لرابطة الدعوة الإسلامية رفقة الشيخ أحمد سحنون رحمهما الله ورئيس شرفي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين…
وهو في عمره وقد جاوز القرن من الزمن لم ينقطع عن استقبال طلابه وزواره ومستفتيه، عاش لدينه ووطنه وأمته فكان رمزا للعالم الرباني والمربي القرآني سخر حياته للدعوة إلى الله تعليما وإرشادا وتربية فكان من طلابه من فطاحل هذه الأمة وعلمائها ما يكفيه أن يوسم بمعلم ومربي الأجيال ….
حين تراه تتجسد أمامك معالم رجل قرآني الخلق نبوي الفهم أصولي التنزيل وسطي التصور سمح التقاسيم باسم الوجه خفيظ الجناح وهو الفقيه المفسر المحدث الدارس المفتي الإمام الخطيب، يمتلك حبا كبيرا للدين والعلم والمعرفة…
نقول عنه ما قاله عبد الحميد عبدوس: عرفت العلامة الجليل الشيخ محمد الطاهر آيت علجت طلق المحيا باشًّا عند اللقاء جم التواضع راسخ العلم رطب اللسان بذكر الله، سباقا إلى بذل الكلمة الطيبة… “سيماهم في وجوههم من أثر السجود…”
مرزوق خنشالي