فلسطين… المتن والهوامش/ محمد الحسن أكيلال
“سيرغي سكريبال” يفضح الموقف البريطاني
منذ حوالي أسبوعين اهتزت المملكة المتحدة (بريطانيا العظمى) على وقع حادث كان يمكن أن يكون مثل كل الحوادث التي تصيب أي مواطن عادي، لكن هذا الحادث الذي ضخم بالغ التضخيم بتجنيد كل وسائل الإعلام البريطانية والعالمية إلى جانب كل الحكومة والبرلمان ومن ضمنها الجهاز الدبلوماسي الذي أوصل القضية إلى طلب انعقاد مجلس الأمن الدولي للبت في الاعتداء السافر الذي اتهمت به روسيا الاتحادية.
“سيرغي سكريبال” هوجم من أطراف مجهولين بسلاح كيمياوي لا تمتلكه إلاّ القوات المسلحة الروسية وترك في الشارع فاقدًا لوعيه، وهذا طبعا حسب تحريات أجهزة الأمن الإنجليزية، وصلت حدة الغضب بالسيدة “تيريزا ماي” إلى درجة طرد ثلاثة وعشرين دبلوماسيا روسيا وتوقيع طلب رسمي يوجه إلى كل الدول الحليفة لها من أمريكا وأوروبا والشرق الأوسط لمساندة موقفها ومشاركتها في معاقبة روسيا الاتحادية، في الشرق الأوسط خاصة دولة لها خصوصية بالنسبة لبريطانيا، فهي التي أسستها ورعتها وما زالت تواصل رعايتها لها ولو من وراء حجاب أمريكي. لكن هذه الدولة الخاصة التي لم ولن تنسى أفضالها وجدت نفسها مربكة من علاقاتها الجديدة مع الاتحاد الروسي؛ إنه موجود بقواته في سوريا والتشنج بين التحالف الغربي بزعامة أمريكا والتحالف الشرقي بزعامة روسيا في حدوده القصوى ومجرد شرارة يمكن أن تضرم حريقا مهولا في كل المنطقة ويجعل من دولة الكيان الصهيوني كومة هشيم في جوفه. لهذا كان الرد الصهيوني على الطلب البريطاني في بيان صحفي مقتضب أثارت صياغته ضحك القادة الروس.
لمن لا يعرف فــــ “سيرغي سكريبال” جاسوس روسي يعمل ضمن جهاز “الكاجي ببي”، باع نفسه للمخابرات البريطانية فأصبح عميلا مزدوجا فألقي عليه القبض في بلاده وحكم عليه بالسجن المؤبد، إثر مفاوضات التبادل أطلق سراحه وسافر إلى بريطانيا ومنحت له جنسيتها والإقامة فيها.
مخابر الدراسات الاستراتيجية البريطانية العريقة التي توصلت إلى النتائج الباهرة في كل استشرافاتها والتي قضت بضرورة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي والعمل الجاد لاسترجاع مكانتها السابقة قبل تسليمها للولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، هذا يقتضي منها العمل منذ الآن للظهور بمظهر القوة العظمى المؤثرة في كل المواقف والقرارات ذات الطابع الدولي؛ وترك فرنسا لوحدها على الساحة الأوروبية للتزعم يجعلها تنفرد فعلا بزعامة الاتحاد الأوروبي ما دامت ألمانيا الأقوى اقتصاديا ممنوعة من امتلاك السلاح النووي ومن كرسي مجلس الأمن الدولي ضمن الأعضاء الكبار الممتلكين لحق “الفيتو”. بريطانيا تعرف حدود إمبراطوريتها في العالم، فلغتها هي لغة أغلبية سكان العالم، والولايات المتحدة التي تعتبرها ابنتها الشرعية تراها بدأت فعلا تفقد مواقعها في الأراضي التي كلفتها بها في الشرق الأوسط والأدنى والأقصى.
بريطانيا التي تنظر إلى الهجوم الكاسح الذي يشنه اليمين واليمين المتطرف في كل البلدان الغربية ترى أن من واجبها باعتبارها الأم الشرعية الأولى للنظام الرأسمالي الإمبريالي أن تقوده هي بنفسها باعتبارها الأصل مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.
إنها الممثلة الأكثر جدارة للإنسان الأبيض الأوروبي المرتبط ارتباطا عضويا بالحضارة اليهودية المسيحية وبخلافة الإمبراطورية الرومانية التي جعلت من فلسطين ومدينة القدس خاصة المتن لتاريخها الاستعماري المعتمد على اللاهوت والكتب المقدسة. المتن مؤطر بهوامش واصلت اعتماد محتوياتها على مدى القرن الماضي إلى حين استنفاذها في السنوات العشر الماضية بعد حرب العراق وكارثة سوريا واليمن وافتضاح دور الولايات المتحدة الأمريكية ونواياها وهي تقود كل دول الغرب لتحقيق نصر يبدو أنه لن يتحقق بالقيادة الأمريكية.
المتن مهدد بالتلف
من أول الحملات الصليبية التي قادها “ريتشارد قلب الأسد” ملك بريطانيا إلى “لورنس العرب” و العقيد “اللنبي” اللذين هيئا للانتداب البريطاني على فلسطين سجلت كل الأحداث بتراتيبيته وتنسيق أفضت كلها إلى الخلاصة المطلوبة المتمثلة في: منح أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
الهدف المراد تحقيقه خلال القرن الماضي باستعمال الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني على أمل إنهاء وجوده الديمغرافي فوق الأرض لم يكتب له نجاح، لأن تصور استنساخ مثال الهنود الحمر في أمريكا أو السكان الأصليين في استراليا لم يكن تصورًا واقعيًا ولا موضوعيًا، لأن الشعب الفلسطيني أصلا هو ابن الأرض منذ الأزل، بعكس الهنود الحمر أو سكان استراليا الذين هاجروا إلى القارتين من قارات أخرى في أزمنة متفاوتة من التاريخ حسب كل الفرضيات التاريخية.
فالإجبار على ترك الأرض لم ينجح، لأن اللاهوت والكتب المقدسة التي وظفت للغرض هي في الأصل نزلت وحيا من السماء على أنبيائهم أبناء الأرض، ولا نبي ولا رسول من أصول أوروبية أو غربية، فالمتن إذا منذ البداية خاطئ وغير مقنع حتى لواضعيه، بقيت الهوامش التي كتبت بالدم على جماجم الضحايا منذ الحروب الصليبية الأولى إلى الحروب الاستعمارية مرورًا بالحربين العالميتين الأولى والثانية إلى حروب الإرهاب في أفغانستان ثم العراق وسوريا.
هذه الحروب الأخيرة هي التي أتلفت كل الهوامش والعملية تسارع في الحركة إلى المتن الذي سيتلف بدوره كالهوامش وتكون الدولة التي دمرت الدولة المجاورة لها في خبر كان في المستقبل المنظور.
آخر الهوامش أتلفه “سيرغي سكريبال”
لقد ظلت العلاقة المتميزة بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة لا تظهر إلاّ عندما يتعلق الأمر بما يهدد أمن دولة الكيان الصهيوني، فالتنسيق بين الدولتين فيما يتعلق بالشؤون الدبلوماسية والدفاع والأمن تخفيه جدران بناية مقر حلف شمال الأطلسي.
فحتى ولو افتضح أمر هذه العلاقة حين عين “طوني بلير” ممثلا للرباعية في تخدير السلطة والشعب الفلسطينيين خلال بداية افتضاح أمر المفاوضات العبثية الموظفة أصلا لمنح العدو الوقت الكافي لاستكمال بناء الجدار والبنى التحتية والحواجز والمستوطنات في الأراضي المحتلة عام 1967؛ لكن خبث البريطانيين لم يظهر للعيان كما ظهر هذه المرة حين طلبت من كل حلفائها التحالف معها ضد روسيا التي تعتبرها هي وأمريكا خطرًا للغرب ودولة الكيان الصهيوني باعتباره حليفا استراتيجيا لإيران التي تحتضن المقاومة وتحارب التطبيع مع الكيان الصهيوني.
في انتظار الطبخة التي يتم إعدادها بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لمواجهة روسيا الاتحادية، خاصة بعد الفوز الساحق للرئيس “فلاديمير بوتين” في الانتخابات الأخيرة وهو في إحدى مداخلاته الإعلامية أثناء الحملة الانتخابية لوح بالتهديدات الدول الغربية التي أحاطت بلاده بالصواريخ الباليستية المضادة للصواريخ، وكشف عن أسلحة جديدة توصلت إليها التكنولوجيا الجديدة في بلاده، وهو في هذا كله لم يغلق الباب نهائيا للحوار مع أمريكا والغرب إذا شاءوا فعلا أن يحافظوا على الأمن والسلم في العالم، فبالنسبة لـــ “بوتين” حين يدافع على سوريا وإيران فإنه يدافع على حدود بلاده ومصالحها ومجالها الحيوي، وتفكيك جمهوريات الاتحاد السوفييتي واقتلاع بعض جمهوريات آسيا الصغرى وبولونيا وكل الدول المشكلة لــ “حلف وارسو” قد تم بتدبير وترتيب أمريكي وأوروبي غربي، ووصولهم إلى أوكرانيا والتهديد بها يعني أن نواياهم ضد الاتحاد الروسي حقيقية وما يقوم به هو في صميم حماية الأمن و السلم في العالم بمنع نشوب حرب عالمية ثالثة بسبب دولة الكيان الصهيوني التي يرعونها ويحمونها.