رحلــة مباركــة يا ضيـوف الرحمــن
د. يوسف جمعة سلامة*/
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
في مثل هذه الأيّام المُباركة من كلّ عام، تَحِنُّ قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى بيت الله العتيق؛ لتأدية فريضة الحجّ، ولمشاهدة الأرض المُباركة وليطّوفوا بالكعبة المُشرّفة، ولزيارة المدينة المنوّرة على ساكنها -أفضل الصّلاة والسّلام-.
وما أَنْ تأتي أشهر الحجّ وأيّامه، حتى ترى المسلمين يتوافدون على بيت الله الحرام من كلّ فجٍّ عميق، يتكبَّدون وَعْثاء السّفر وعَنَتِ الطّريق ومشقَّة الغُربة والبعد عن الأهل، ولكنّ كلّ ذلك يهون في نظرهم حُبًّا في الغاية التي يسعون إليها والمنافع التي يحصلون عليها.
وفي هذه الأيّام يتوجّه ضيوف الرحمن إلى رحاب بيت الله الحرام في رحلة مباركة أوجبها الله سبحانه وتعالى على المُستطيع، حيث إنهم يرون المواطنَ الأولى التي انطلقت منها دعوة محمد –صلّى الله عليه وسلّم-، فيتذكرون سيرته – عليه الصّلاة والسّلام- وصحابته الكرام – رضي الله عنهم أجمعين –، وصبرهم وتضحياتهم الغالية في سبيل هذا الدّين المجيد.
توجيهات لضيوف الرحمن
لقد رأيتُ -وموسم الحج قد أقبل- أن أتقدم لأحبائي ضيوف الرحمن ببعض التوجيهات التي أُسْديها لهم، فإذا أردتَ أخي الحاج: أنّ يكون حجّك مبروراً ليصدق عليه قول الرسول الأكرم – صلّى الله عليه وسلّم-: (الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ)، فعليك أن تتأدب بآداب الحج وواجباته وهي كثيرة، وحسبك أن نذكر منها:
الإخلاص لله سبحانه تعالى، و التوبة إليه عزَّ وجلَّ، وقضاء الديون، وكتابة الوصيّة، وردُّ المظالم لأهلها، وتعلّم أحكام الحجّ والعمرة، والحرص على أَنْ تكون النّفقة من المال الحلال الطّيّب، ووداع الأهل والأحبّة، والبحث عن الرّفيق الصّالح، والإكثار من الدّعاء لقوله – صلّى الله عليه وسلّم -: (الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ، وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ).
شدّ الرّحال إلى الحرمين الشريفين
*المسجد النبوي في المدينة المنورة: إذا أكرمك الله – أيّها الحاجّ – بالوصول إلى تلك الرُّبوع الطاهرة، وملأتَ عينيك من تلك الرّياض على ساكنها -أفضل الصلاة والسلام-، فتأدَّب مع صاحبها، واشتغل ما دُمْتَ هناك بغرضك الذي جئْتَ من أجله، فالصلاة في المسجد النبوي والأدعية فيه مشروعة وَمُسْتَحَبّة في أيّ وقت طوال العام، فإذا وَفَّق الله المسلم وَيَسَّرَ له الوصول إلى بلاد الحرمين الشريفين، سُنَّ له الذهاب إلى المدينة المنورة للصلاة في مسجد النبي – صلّى الله عليه وسلّم –، حيث إِنّ الصلاة فيه خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، واحرص أخي الحاج إِنْ أكرمك الله بذلك، وبعد أداء الصلاة، أَنْ تُسَلِّمَ على سيّدنا رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى صاحبيه الكريمين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب – رضي الله عنهما -.
* المسجد الحرام في مكة المكرمة: إذا دخلتَ أخي الحاج مكة المُكرمة، ووقع بصرك على الكعبة المُشَرَّفة، فَقُلْ: (اللهمَّ زِدْ هذا البيتَ تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومَهَابة، وَزِدْ مَنْ شرَّفه وعظَّمه مِمَّن حَجَّه واعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً، اللهُمَّ أنتَ السّلام، ومنك السلام، فَأحينا ربنا بالسلام)، فأنتَ -يا أخي الحاج- في جوار الله وفي ضيافته، فحيّي بيته أولاً بالطّواف، واستكثر من الصلوات بلا كَلَل، واعلم أنّ ركعة في بيت الله الحرام تُساوي في الفضل مائة ألف ركعة فيما سواه، واخفض من صوتك، واغضض من بصرك، وأحسن لمن أساء إليك، وعليك أن تغتنم وجودك في رحاب البيت الحرام لفعل الطاعات واجتناب المنهيات، فتُكثر من الصلاة والتسبيح والتكبير والتّلبية والدّعاء.
بُشريات لحجاج بيت الله الحرام
بهذه المناسبة الكريمة يُسْعدني أن أُبَشِّر أحبائي من ضيوف الرحمن في هذا العام ببعض المناقب والفضائل التي اختصّ الله بها ضيوفه الكرام، ومنها:
* الحج من أفضل الأعمال عند الله عزَّ وجلَّ: لِمَا رُوي عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: سُئل النبيُّ – صلّى الله عليه وسلّم -: (أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ حجٌّ مَبْرُورٌ).
* الحاج مغفورٌ له: كما ورد عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم-: (مَن حَجَّ فَلَم يَرفُث ولَم يَفسُق رَجَع كَيَوم ولَدَتهُ أُمُّهُ).
* يُغْفَر لمن يَسْتغفرُ له الحاج: فقد رُوي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم-: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ وَلِمَنِ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ ).
* الحاج يفرح بيوم عرفة: فقد جاء عن عائشة- رضي الله عنها-: أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- قال: (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ).
* الحاج من أهل الجَنّة: كما رُوي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- قال: (العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الجَنَّةَ).
الحج مؤتمر عالمي
إنّ الحج مؤتمر عالمي يتلاقى فيه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، فتنصهر الأخوة الإسلامية وتذوب في حرارتها النزعات القومية، وفي الحج يتجلّى معنى الوحدة الإيمانية بين المسلمين، فربّهم واحد، ونبيهم واحد، وعملهم واحد، وهدفهم واحد، فأي وحدة أعمق من هذه وأبعد غَوْرا؟، كماتتجلّى المساواة في أقوى صُوَرها فلا عنصرية ولا عصبية للون أو جنس، هذا المؤتمر العتيد الذي يتكرر كل عام مرة ويُعْقد في الأرض المباركة بجوار الكعبة تحت شعار «أمة واحدة» كما في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}.
ووحدة المسلمين في الحج تشمل عِدّة مظاهر من الوحدة يتعايش الناس على ضوئها:
1- وحدة الأصل: كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، وفي الحديث: (أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، إِلا بِالتَّقْوَى).
2- وحدة الزمان: كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}.
3- وحدة المكان: كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ}، وقوله سبحانه وتعالى أيضاً :{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}.
4- وحدة في الشكل والمظهر: تتجلّى في لباس الإحرام المُكَوَّن من إزارٍ ورداءٍ أبيضين هو لباس كل الحجيج استعاضوا به عن لباسهم المُعتاد في حياتهم العادية.
ومن الجدير بالذكر أنّ الحج يستمد عالميته من عالمية الإسلام الذي جاء رحمة للناس كافة،كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، وقوله سبحانه وتعالى أيضاً: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
حجاجنا الكرام: يامَنْ يَسَّرَ الله لكم الحجّ في هذا العام، أسأل الله أن يتقبل حَجَّكم، وأن يَرُدَّكم سالمين إلى أوطانكم، وكلّنا ثقة وأمل فيكم وأنتم تنعمون بالصلاة في المسجد النبوي، والطّواف حول الكعبة المُشرفة، أنْ تتذكروا أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين المسجد الأقصى الأسير، وأن تتضَرَّعوا إلى الله بالدعاء بأنْ يَفُكَّ أَسْرَه، كما تسألوه سبحانه وتعالى أن يجمع شمل شعبنا والأمتين العربية والإسلامية، وأن يُوَحِّدَ كلمتهم، ويُؤلف بين قلوبهم، إنه سميع قريب.
نسأل الله تعالى للحجاج الكرام حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً، وتجارة لن تبور
وصلّى الله على سيّدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com