تبيان وتوضيح في بعض الجزئيات المغمورة في مسيرة ملك البيان والفصيح
د. بن سالم الصالح/
مرت علينا أيام قليلة على وفاة ملك البيان بالجزائر العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله بتاريخ 20 ماي 1965م، وقد لاحظنا بأن مختلف المقالات الصحفية والحصص الإذاعية والتلفزية تجتر وتردد معلومات مكررة عن الشيخ سبق وأن نشرت من قبل خصوصا في كتاب “آثار محمد البشير الإبراهيمي” التي جمعها ونشرها ولده الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وقد حاولنا منذ مدة أن نجتهد في البحث عن بعض الجزئيات المغمورة وغير المعروفة في مسيرة العلامة محمد البشير، والبعض منها سيقدم لأول مرة للقارئ الجزائري في هذا المقال المتواضع.
1/- علاقة محمد البشير الإبراهيمي بالزوايا الرحمانية:
تطرح باستمرار مسألة العلاقة المتشنجة بين جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والطرق الصوفية، فصحيح أن من بين الأهداف التي رافعت الجمعية من أجل تحقيقها بعد نشأتها سنة 1931م هو محاربة الجهل والأمية والخرافات والبدع التي نشرتها بعض الطرق الصوفية وزواياها بالجزائر قبل وبعد 1830م، لكن البعض لا يفرق بين الطرق والزوايا التي كانت ولازالت تسهر على حفظ الهوية العربية الإسلامية للشعب الجزائري. بل ورفعت لواء الجهاد ضد المستعمر الفرنسي وعلى رأسها: الطريقة الرحمانية بالشرق الجزائري (مقاومة المقراني والشيخ الحداد وفاطمة نسومر وبوبغلة…)، والطريقة القادرية بالغرب الجزائري (مقاومة الأمير عبد القادر …)، وبين الطرق الصوفية التي داهنت وأعانت المستعمر الفرنسي في سبيل تغلغله بالجزائر وكسب ود العامة.
ورغم أن بعض من مشايخ جمعية العلماء المسلمين كانوا متعصبين في محاربتهم للطرق الصوفية والزوايا عموما، أمثال: الطيب العقبي، العربي التبسي، مبارك الميلي، أحمد سحنون … إلا أن البعض الآخر من مشايخ الجمعية ثمنوا الأعمال التي تقوم بها بعض الزوايا. بل وكانت لهم علاقات وطيدة مع مشايخها، أمثال: عبد الحميد بن باديس، محمد البشير الإبراهيمي، الفضيل الورثيلاني، المولود الحافظي، أبي يعلى الزواوي …
فعلى سبيل المثال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي كون ومنذ صغره فكرة إيجابية عن زوايا الطريقة الرحمانية، كيف لا وقد خاض تجربة دراسة وتدريس في البعض منها قبل وبعد ذهابه وعودته من الحجاز والمشرق.
فبعد وفاة عمه محمد المكي الإبراهيمي سنة 1903م والذي أوصاه بأن يستكمل تعليم الصبية في قرية أولاد أبراهم وعمره لم يتجاوز 14 سنة قرر محمد البشير الإبراهيمي التنقل لزاوية محمد بن علي الزواوي بشلاطة (آقبو، بجاية)، وقد درس هناك لمدة يجهل عمرها بالضبط، وذلك بسبب العلاقة القوية التي كانت بين أولاد أبراهم وهذه الزاوية، فعديد الطلبة والمشايخ من أولاد أبراهم درسوا في هذه الزاوية. بل أن بعضهم قرر الاستقرار هناك بشكل نهائي.
وبعد زاوية شلاطة قرر محمد البشير الإبراهيمي أن يخوض تجربة أخرى، لكن هذه المرة كأستاذ وليس كطالب، بعدما توجه لزاوية عين الديسة بأولاد سي أحمد جنوب سطيف، والتي كانت تسيرها أسرة الشيخ الحواس هرباجي، وقد وفرت له هذه الأسرة الجو الملائم إذ خصصت له غرفة للإقامة والمبيت طيلة مكوثه بالزاوية، وحتى لما غادرها لاحقا للحجاز سنة 1911م، بقي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي على علاقة وطيدة مع شيخ هذه الزاوية محمد الطيب هرباجي. هذا الأخير لما توفي رحمه الله سنة 1931م كان من المشيعين لجنازته الشيخان ابن باديس والإبراهيمي، بل وقام محمد البشير بتأبينه في مقال نشره في جريدة الشهاب يوضح فيه خصال أسرة هرباجي وشيخها محمد الطيب، ويبين تلك العلاقة القوية بين بلدة أولاد أبراهم وهذه الزاوية.
وعلى مستوى رأس الوادي جمعت بين الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ومسير الزاوية الرحمانية الشيخ صويلح السعيد بلعيساوي علاقة قوية، تجسدت في عديد المشاريع المشتركة لصالح بلدة رأس الوادي، فتذكر الشهادات الشفوية بأن الشيخ محمد البشير كان يقدم دروسا بهذه الزاوية لصالح الطلبة الذين يقصدونها من مختلف المناطق المحيطة، كما ساهم في تأسيس المسجد العتيق بطوملة الذي دشن في شهر جانفي من سنة 1930م بحضور عبد الحميد بن باديس، وقد تمت فيه أول صلاة جمعة بالمنطقة ككل، وقد نشر الإمام عبد الحميد بن باديس بعد عودته لقسنطينة مقالا بجريدة الشهاب يفصل في هذه الزيارة، كما يذكر من بين المستقبلين له كل من محمد البشير الإبراهيمي والسعيد صويلح، وجمعت بينهما أيضا مشاريع خيرية مثل جمعية الإحسان لاسعاف المحتاجين سنة 1925م، والتي سنتحدث عنها بالتفصيل لاحقا.
كما ربط الشيخ علاقات قوية مع زاوية الحاج السعيد بن لطرش (طرش) بدشرة برج الغدير، إذ كان محمد البشير الإبراهيمي يزورها باستمرار قبل أن تتوطد علاقته أكثر بابن شيخ الزاوية الحاج محمد طرش، والذي تولى تقديم الدرس والصلاة بالناس بأول جمعة بالمسجد العتيق برأس الوادي سنة 1930م، كما اقترح عليه الإبراهيمي بأن ينخرط في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فكان الحاج محمد بن السعيد طرش من الحاضرين والمؤسسين لجمعية العلماء بنادي الترقي بتاريخ 05 ماي 1931م، وكلف بتسيير فرع الجمعية ببرج بوعريريج بين (1948-1931م).
2/- محمد البشير الإبراهيمي وممارسة التجارة:
بعد عودة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي من المشرق سنة 1920م جعلت شرطة الاستعلامات الفرنسية فرقة خاصة تتبع تحركاته المكثفة، وهو ما تفطن له الشيخ فقرر أن يجد لنفسه مبرر لهذه التحركات والنشاطات، فوجد في التجارة خير وسيلة لعملية التمويه، فاتخذ لنفسه تجارة ثاتبة وأخرى متحركة.
فالتجارة الثابتة مثلما تذكر إحدى تقارير الشرطة الفرنسية كانت في وسط بلدة رأس الوادي (طوكفيل في ذلك الوقت)، وبالضبط في محل تجاري يتبع لعائلة شنوف حاليا، كان يبيع فيه التوابل، أما التجارة المتنقلة فكانت في مختلف الأسواق الأسبوعية في: برج بوعريريج، المسيلة، سطيف يبيع فيها الشيخ شحوم الماشية (الأغنام، الأبقار، الماعز)، وقد تمكن من خلال هذه النشاطات من الافلات ولو مؤقتا من مراقبة سلطات الاستعمار الفرنسي، كما تمكن الشيخ من معرفة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع الجزائري، ومن خلاله تمكن من تحديد الداء بدقة حتى يصف له الدواء المناسب لاحقا.
3/- محمد البشير الإبراهيمي والعمل الجمعوي:
لقد أدرك الشيخ محمد البشير الإبراهيمي نجاعة العمل الجمعوي للتغلغل في وسط المجتمع الجزائري مقارنة بالعمل السياسي (الأحزاب)، فساهم في تأسيس العديد من الجمعيات الخيرية والرياضية، فكانت تجربة مهمة قبل تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931م.
فعلى مستوى الجمعيات الرياضية أدرك الشيخ محمد البشير الإبراهيمي أهمية الرياضة بشكل عام وكرة القدم بشكل خاص في كسب ود وتعاطف الشباب الجزائري، فكان من المساهمين في تأسيس نادي شباب رأس الوادي (ROC) سنة 1928م، والذي كان يحمل اسم (النجم الرياضي طوكفيل) ويختصر بـ IST.
وعلى مستوى مدينة سطيف والذي كان الشيخ يقطنها منذ عودته من المشرق سنة 1920م ساهم برفقة الدكتور فرحات عباس وبعض من أعيان المدينة في تأسيس فريق الاتحاد الرياضي لمدينة سطيف سنة 1933م والمعروف باسم (USMS).
وعلى مستوى العمل الجمعوي الخيري وهو مربط الفرس في هذا المقال، فقد ساهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في تأسيس جمعية خيرية على مستوى بلدة رأس الوادي سنة 1925م، وتعرف باسم (جمعية الإحسان لإسعاف المحتاجين)، والذي حصلنا مؤخرا على النسخة الأصلية لقانونها الأساسي.
* التسمية والهدف:
من خلال تفقد القانون الأساسي للجمعية نجدها تحمل اسم: جمعية الإحسان لإسعاف المحتاجين لبلدة رأس الوادي، وقد تم تسطير هدف أساسي للجمعية يتمثل في إعانة البؤساء وإسعاف المحتاجين والعائلات الكثيرة العدد ذات الحاجة لتنشيط الشغل، أو كما كتب في الصفحة الأولى لقانونها الأساسي: أسست لنفع المسلمين مادة ومعنى.
* تشكيلة الجمعية:
لقد تم تشكيل مجلس إدارة جمعية الإحسان لإسعاف المحتاجين من عديد الشخصيات الفاعلة والوازنة ببلدة رأس الوادي، ويقدر عددهم بـ 10 أعضاء، وهم على النحو الآتي:
– السيد صويلح السعيد: رئيس.
– السيد بوحفص عبد الحفيظ: نائب أول.
– السيد بيبي العياشي: نائب ثاني.
– السيد طالب البشير (محمد البشير الإبراهيمي): كاتب عام.
– السيد غربي الطاهر: معاون.
– السيد هارون الصالح: أمين المال.
– السيد شوثري عبد القادر: معاون.
– السيد بونازو الحاج أحمد: عضو.
– السيد طباخي محمد: عضو.
– السيد يعلاوي عبد الله: عضو.
وإذا تفقدنا هوية هؤلاء فنجدها مزيجا بين: العلماء في شاكلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي والشيخ السعيد صويلح مسير الزاوية الرحمانية برأس الوادي، وأعضاء من البلدية ولهما نفوذ كبير بالمنطقة، وهما هارون الصالح وبيبي العياشي، أما بقية الأعضاء فهم ينتمون إلى عائلات عريقة بالمنطقة:(شوثري، طباخي، يعلاوي، بونازو، بوحفص، غربي)، وذلك من أجل ضمان السير الحسن لهذه الجمعية، وتجنب تدخلات السلطات الفرنسية في عملها.
وقد نص القانون الأساسي للجمعية بأن أعضاءها ثلاثة أصناف:(أعضاء دائمين، أعضاء منخرطين، أعضاء محسنين)، كما يمكن إضافة أعضاء شرفيين لكل من ساهم بخدمات مادية أو معنوية لصالح الجمعية.
وبالنسبة لتشكيلة المجلس الإداري للجمعية فقد تم اختيارهم عن طريق عملية الاقتراع بين الأعضاء العاملون والمنخرطون والمحسنون لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد، كما نص القانون الأساسي بأن نشاط هؤلاء داخل المجلس الإداري يكون بصفة تطوعية من دون مقابل مادي.
وتمرر مختلف قرارات الجمعية بأغلبية الأعضاء (50+1)، كما أن نشاطات الجمعية لا يجب أن يخرج عن النطاق الجغرافي لبلدة رأس الوادي، ويجتمع أعضاء المجلس الإداري للجمعية في النصف الأول من شهر أكتوبر من كل سنة في الدورة العادية، بينما قد يجتمع المجلس في دورة استثنائية بعد طلب يقدم من نصف الأعضاء.
* المداخيل والاشتراكات:
لقد وضح القانون الأساسي لجمعية الإحسان لإسعاف المحتاجين طريقة مداخيل واشتراكات الجمعية حتى لا تترك للسلطات الفرنسية أي لبس قد يطرح حول الجهات التي تمول الجمعية، فمن حيث الاشتراكات السنوية للأعضاء وضح القانون الأساسي بأنها تقدر بـ:
– 100 فرنك للأعضاء العاملين.
– 12 فرنك للأعضاء المنخرطين.
– 500 فرنك للأعضاء المحسنين.
وقد فصل القانون الأساسي في طريقة دفع هذه الاشتراكات، فإما تتم دفعة واحدة سنويا أو عبر أربع دفعات،كل ثلاثة أشهر يدفع قسط منها، وكل عضو يتخلف عن دفع اشتراكه السنوي لمرتين على التوالي يتم فصله من الجمعية آليا بعد تنبيهه من قبل أمين المال.
كما تقبل الجمعية مختلف الهبات والمساعدات وفقا للأطر القانونية المعروفة، وقد تم تحديد مصير مال الجمعية في حال تم توقيفها بشكل نهائي، أين توجه هاته الأموال لمشاريع مماثلة بالمنطقة بعد الاتفاق في الجلسة العامة الختامية للمجلس الإداري للجمعية.
* لمسة محمد البشير الإبراهيمي في هذه الجمعية:
إن المتمعن في القانون الأساسي لجمعية الإحسان لإسعاف المحتاجين يلاحظ تلك اللمسة البارزة للشيخ محمد البشير الإبراهيمي من حيث الشكل والمضمون، فالصياغة العربية لبنود القانون الأساسي خالية تماما من مختلف الأخطاء اللغوية والنحوية والمطبعية، ولا يمكن أن يتم ذلك بعيدا عن ملك البيان والفصيح الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، فقد تم اختيار الألفاظ والمصطلحات بدقة متناهية بعيدا عن كل تأويل أو شبهة قد تطرح من قبل سلطات الاستعمار الفرنسي.
وقد تم تحرير قانونها الأساسي مثلما هو موضح في السجل بتاريخ 01 أوت 1925م ببلدة رأس الوادي في دفتر صغير الحجم يتكون من 16 صفحة (08 باللغة العربية، و08 باللغة الفرنسية)، وتم طبعه بالمطبعة التونسية التي تقع على مستوى نهج سوق البلاط رقم 57 وسط مدينة تونس، ولا نستبعد بأن العلامة محمد البشير الإبراهيمي هو من تنقل شخصيا إلى تونس وحرص على طبعه وإخراجه في هذه الحلة البهية بحكم تجربته ومعرفته بعالم الطباعة والنشر خلال المدة التي قضاها في المشرق بين (1920-1911م)، هذه الخبرة في سن القوانين الأساسية للجمعيات من قبل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي هي التي جعلت الإمام عبد الحميد بن باديس يسند له مهمة تحرير القانون الأساسي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931م.
* كل الشكر والتقدير للأستاذ جمال مقصود الذي أمدنا بالنسخة الأصلية لهذا السجل، والمحفوظ بمكتبة الزاوية العامرة للشيخ السعيد صويلح رحمه الله.