جمعية العلماء ومشاركتها في الثورة
د/ أبو أسامة عمر خلفة
قسنطينة- الجزائر/
صدر عن دار الغرب الإسلامي بلبنان كتاب (ابن باديس والإبراهيمي وجمعية العلماء في الثورة الجزائرية) للشيخ أحمد حماني من إعداد وتقديم الأستاذ أبو أسامة عمر خلفة وبتقديم الدكتور عبد الرزاق قسوم- رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
ويتمحور الكتاب حول موضوع لطالما شغل الرأي العام من الكتاب والمفكرين حول قضية مشاركة جمعية العلماء ومشاركتها في الثورة.
ولا شك أن هذا الموضوع الذي أسال الكثير من الحبر على قضية في الحقيقة هي محسومة من أولها، إلا أن أولئك الذين يريدون إثارة الشكوك والبهتان حول جمعية العلماء وعلمائها.
فجاء هذا الكتاب لعالم من علماء هذه الأمة الجزائرية، والذي جند نفسه لأن يكون خادما لأمته ومدافعا عن دينها وهويتها وأصالتها، ألا وهو الشيخ أحمد حماني- رحمة الله عليه- ليفند هذه المزاعم المغلوطة بالأدلة والبراهين القاطعة، مما جعل النصوص تفضح اللصوص كما قال الدكتور عبد الرزاق قسوم- حفظه الله .
والمتأمل في تاريخ هذه الجمعية يدرك ما للعلماء يومها وعلى رأسهم الشيخ عبد الحميد ابن باديس- رحمه الله- من جدية التفكير في الثورة وقيامها من الأيام الأولى من تأسيس جمعية العلماء المسلمين.
وعليه فمن قتصر دور جمعية العلماء فقط على الإصلاح الديني والتوجيه التربوي، دون الاهتمام بالتفكير في تحرير الوطن من المستعمر الغاصب فهو واهم.
فابن باديس ورفاقه كانوا يؤمنون بالثورة ضد المستعمر الغاشم إيمانا عميقا لا يتطرق إليه شك.
فالمطلع على تراث الشيخ ابن باديس- رحمه الله- يجد أنه بدأ يحث على الجهاد ضد المستعمر منذ سنة 1928م أي قبل 26 سنة من قيام الثورة المباركة، في اجتماع ضم كوكبة من العلماء بغية التحضير لإنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
فقد جاء في كلمته إليهم «والآن أيها العلماء قد شاء الله أن يهيئكم ويذّحركم لهذا الظرف، لتتحملوا مسؤوليتكم بكل شجاعة وتضحية، وأن يومكم هذا شبيه بذلك اليوم الذي وقف فيه البطل المجاهد طارق بن زياد خطيبا في جيش المجاهدين على ربوة جبل طارق، بعد أن أحرق سفنهم التي حملتهم إلى الجهاد في الأندلس، وقال قولته المشهورة: (أيها الناس أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، وليس لكم غير الموت أو النصر).
ثم اختتم ابن باديس خطابه قائلا: وأنا أقول لكم في هذا اليوم لم يبق لنا إلا أحد الأمرين لا ثالث لهما:
– إما الموت والشهادة في سبيل الله، منتظرين النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين.
– أو الاستسلام ومد أيدينا في الأغلال، وإحناء رؤوسنا أمام الأعداء، فتكون النتيجة لا قدر الله أن تجري علينا ما جرى ببلادنا الأندلس».
وحيال هذا الدليل وهذه الوثيقة التي تعد وثيقة جد هامة والتي أثبت من خلالها ابن باديس ورفاقه خوض غمارها، لكن كانوا ينتظرون الفرصة المواتية لقيامها .
ومن هنا أنا أعارض من يقول أن جمعية العلماء كان هدفها هو تحرير العقول أولى من تحرير الأبدان، وهذا يوحي للقارئ أن الجمعية كانت تغفل في منهجها الجهاد في سبيل الله ومحاربة المستعمر الفرنسي، ولكنها راحت تحارب على السبيلين: تحرير العقول وتحرير الأبدان معًا، ومحال أن يتحرر بدن يحمل عقل عبدًا كما يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي- رحمه الله.
ومن هنا نجد الشيخ أحمد حماني يثبت أن جهاد ابن باديس كان لتحقيق هذه الغاية وهي تحرير الوطن من المستعمر، فيقول- رحمه الله:
« لقد كاد ابن باديس يدفع حياته في سبيل تحقيق هذه الغاية، فالعلماء بمدارسهم ونواديهم ومساجدهم الحرة، وبمحاربة البدع والضلالات، وإصلاح العقائد وحسن التوجيه، وبعث الروح الدينية والمبادئ الإسلامية القومية، وقد هيجوا الرأي العام، وقدموا الشباب الصالح الطيب الكفء للثورة جنودا وقادة، والتاريخ والواقع خير شاهد، وهل هناك أوضح في الدعوة إلى أعمال الثورة من قول ابن باديس في نشيده:
يا نشء أنت رجـــــاؤنا وبك الصبـــح قد اقترب
خذ للحياة سلاحـــــها وخض الخطوب ولا تهب
وأذق نفــوس الظالمين الســـم يمزج بالرهــــب
واقلع جـــذور الخائنين فمنهـــم كــل العطـب
واهـزز نفـوس الجامديـ ن فربما حيـي الخشـب
هـــــذا نظام حيـــاتنا بالــنور خـــط و باللهب
حتى يعـود لقــــومنا من مجدهــــم ما قـد ذهب
أي سلاح يؤخذ للحياة؟ وأي الخطوب واجب على النشء أن يخوضها؟ وكيف تقلع جذور الخائنين؟ وكيف يذيق النشء السم يمزج بالرهب؟
إن هذا النشيد ألف عام 1937م ووجهه إلى النشء وهذا النشء هو الذي قام بالثورة عام 1954م».
ثم أدرج في هذا الكتاب من الحقائق الواقعية التي يرويها الشيخ ممن كانوا مع ابن باديس- رحمه الله- من أمثال الشيخ محمد الصالح رمضان، والشيخ محمد الحاج بجة، والشيخ أحمد حماني نفسه، وكل هذه الشهادات من قبل أولئك المشايخ كلها تدل على عزم الشيخ على خوضه للثورة المباركة.
ولنستمع إليه لما زار ذات يوم تلمسان في سنة 1937م بمناسبة تدشين دار الحديث، قال: « يا أبنائي إنكم تعلمون أني لم أطلب أي شيء لنفسي، ولكني اليوم أطلب لنفسي شيئا واحدا وهو أن تسمحوا لي أن أكون أول ضحية في سبيل الجزائر عندما يحين الوقت للتضحية في سبيلها» .
فابن باديس كان يهيء عناصر التحرر، وكانت نفسه تتوق إلى التضحية في سبيل الله بنفسه، ليحرر بلاده وشعبه من المستعمر الغاشم .
ولكن لا بد أن نعلم شيئا وهو أن الثورة المسلحة لا تنجح مالم تسبقها ثورة فكرية، وكانت مدرسة عبد الحميد ابن باديس بحق من طليعة هذه الثورة الفكرية .
فكانت هذه المدرسة الفكرية هي التي أنجبت أولئك الأبطال الذين خاضوا غمار الثورة، فجل مجاهدي الثوة التحريرية المباركة وقادتها كلهم أو جلهم تخرجوا من مدارس جمعية العلماء، فالعربي بن مهيدي، ومصطفى بن بولعيد كانوا من خريجي مدارس جمعية العلماء المسلمين .
فأمام هذه الحقائق جاء هذ الكتاب ليبطل مزاعم الذين يشككون الأمة في تاريخها وفي جمعية العلماء أنها لم تشارك في الثورة، فجاء الرد كالصاعقة من طرف تلميذ ابن باديس الشيخ احمد حماني- رحمه الله- خير من عايش تلك الفترة وشاهد تلك الوقائع .
فرحم الله الشيخ أحمد حماني الذي خلد لنا هذه الآثار وهذه الحقائق، لتكون حجة على كل من يفتح فمه في هذا الموضوع، فقد كشف لنا الحقائق والبراهين، حتى لا تدع لأولئك مجالا للشك فيها.
فقد كشف لنا «عن الحقائق بالدليل، والتعليل، ومناقشة المخالفين، بالرأي الأصيل والعقل النبيل وبذلك دحض عالمنا أباطيل الجهلة، والحاقدين، والمغرضين بحجج الباحثين، المدققين المنصفين، تصدى شيخنا المؤلف لشبهات حكم التاريخ بتهافتها من أصلها، كشبهة الاندماج، وشبهة عدم المشاركة في الثورة التي حاول بعض المدلسين في التاريخ إلصاقها ظلما وعدوانا بالجمعية، فساق نصوصا نابعة من أقوال علمائها وفي مقدمتهم الشيخ عبد الحميد ابن باديس، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والشيخ مبارك الميلي وغيرهم» .
أسأل الله أن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم، كما لا أنسى فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرزاق قسوم على مبادرته لتقديم الكتاب، فجزاه الله كل خير، والحمد لله رب العالمين .