معالجات إسلامية

فضل المسجد الأقصى المبارك

د. يوسف جمعة سلامة*/

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.
إِنَّ المسجد الأقصى مُبَاركٌ في ذاته مُبَاركة الأرض التي حوله، وهي أرض فلسطين، وَسِرّ هذه البركة أَنَّ تلك الأرض هي مَهْبِط الرّسالات السّماوية، ومهد الكثير من الأنبياء والمُرسلين- عليهم الصّلاة والسّلام-، وأفضلها «القدس» حيث المسجد الأقصى أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى نبيّنا محمد – صلّى الله عليه وسلّم- ومعراجه، ويذكر الإمام الألوسي في تفسيره سبب هذه البركة حيث يقول: (ووصفها بعموم البركة لأَنَّ أكثر الأنبياء – عليهم السّلام- بُعثوا فيها، وانتشرت في العالم شرائعهم التي هي مبادئ الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية).

فضل الصلاة في المسجد الأقصى المبارك
من المعلوم أَنَّ للمسجد الأقصى المبارك مكانة عظيمة في قلوب العرب والمسلمين، وتعميقاً لقيمته في قلوبهم، فقد ضاعف الله سبحانه وتعالى فيه أجر الصَّلاة، فقد جاء في الحديث عَنْ أَبِي ذَرٍّ – رضي الله عنه- قَالَ: (تَذَاكَرْنَا وَنَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو مَسْجدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هذا أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيه،ِ وَلَنِعْمَ الْمُصَلَّى…)، ويدلّ الحديث السابق على أنّ الصلاة في مسجد النبي- صلّى الله عليه وسلّم – كأربع صلوات في المسجد الأقصى، فالصلاة في المسجد الأقصى تعدل مائتين وخمسين صلاة فيما سواه من المساجد، عدا المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف.
وجاء في حديث آخر: (الصَّلاةُ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ بِمَائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ، والصَّلاةُ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِِ صَلاَةٍ، والصّلاةُ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ بِخَمْسِمائَةِ صَلاةٍ)، كما ورد من حديث مُطَوّل (…، يَا رَسُوَلَ اللهِ، أَفْتِناَ فِي بَيْتِ الْمَقِدْسِ، قَالَ: (أَرْضُ الْمَحْشَر ِوالْمَنْشَر، ائْتُوهُ فَصَلُّوا فيِه، فَإِنَّ صَلاَةً فِيِه كَأَلْف صَلاَة فِي غَيْرِهِ،…).

المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين
لقد كان المسجد الأقصى المبارك القبلة الأولى للمسلمين منذ فُرضت الصَّلاة في ليلة الإسراء والمعراج، حتى أَذِنَ الله سبحانه وتعالى بتحويل القبلة إلى بيت الله الحرام، كما جاء في الحديث عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- يقول: (صَلَّيْنا معَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوَ بَيْتِ المَقْدسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْراً أو سَبَعةَ عَشَرَ شَهْراً ثُمَّ صُرِفْنَا نَحْوَ الكَعْبَةِ).
كما أَنَّ المسجد الأقصى المبارك هو ثاني مسجد بُنِيَ في الأرض بعد المسجد الحرام، كما جاء في الحديث عن أبي ذر-رضي الله عنه- قال: (قلْتُ يَا رَسُولَ الله: أَيُّ مَسْجد وُضعَ في الأرْضِ أوَّل؟ قَالَ: «اَلْمسجِدُ الْحَرَامُ»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «اَلْمَسجِدُ الأقْصَى»، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيه).
ومن المعلوم أنّ الله سبحانه وتعالى قد ربط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في الآية الكريمة الأولى التي افْتُتِحَت بها سورة الإسراء، وذلك حتى لا يفصل المسلم بين هذين المسجدين، ولا يُفَرِّط في أحدهما، فإِنّه إذا فَرَّط في أحدهما أوشك أَنْ يُفَرِّط في الآخر، كما أَنَّه أحد المساجد الثلاثة التي تُشَدّ إليها الرِّحال كما جاء في الحديث: (لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرّسولِ–صلّى اللهُ عليهِ وسلّم-، وَمَسْجِدِ الأقْصَى).

المسجد الأقصى المبارك …. تاريخنا وحضارتنا
لقد جمع الله سبحانه وتعالى الأنبياء والمُرسلين –عليهم الصلاة والسلام- في المسجد الأقصى المبارك، حيث صلَّى بهم –صلّى الله عليه وسلّم- إمامًا في ليلة الإسراء والمعراج، فهو نهاية رحلة الإسراء وبداية رحلة المعراج، وهذه الرحلة المُعجزة أكبر شاهدٍ على مكانة المسجد الأقصى المبارك وأهميته الدينية لدى المسلمين.
وفي جنبات المسجد الأقصى المبارك رفع الصحابي الجليل بلال بن رباح الأذان بصوته النّدي، وفي ظِلّ هذا البيت دُفِن العديد من الصّحابة الكرام، وعلى رأسهم عُبادة بن الصامت أوّل قاضٍ للإسلام في بيت المقدس، وشدّاد بن أوس، وغيرهما من عشرات الصّحابة، وما من شبر من أرضه إلاّ وشهد ملحمة أو بطولة تحكي لنا مَجْداً من أمجاد المسلمين.
وعند زيارتنا للمسجد الأقصى المبارك نجد أَنَّ كلّ رُكْن في المسجد ينطق بماضٍ للإسلام غالٍ عريق: إلى هنا جاء عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وخالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وعُبادة بن الصّامت، ومُعَاذ بن جبل، وسلمان الفارسي وغيرهم من الصّحابة الكرام- رضي الله عنهم-، وهنا علّم شدّاد بن أوس-رضي الله عنه- «معلّم هذه الأمة»، وهنا قضى عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – بين الناس، وهنا نُودِي بمعاوية بن أبي سفيان-رضي الله عنه- خليفة للمسلمين.
وإلى هذه الرّحاب الطّاهرة جاء أئمة العلم يعظون ويُدَرّسون ويتعبّدون: الإمام الأوزاعي فقيه أهل الشام، وسفيان الثوري إمام أهل العراق، واللّيث بن سعد إمام مصر، ومحمد بن إدريس الشّافعي مُؤسّس المذهب الشّافعي، وحُجّة الإسلام الإمام الغزالي الذي ألّف كُتُباً في المدينة المُقدسة بعد أن آثر البقاء فيها وَمُجَاورة مسجدها الأقصى، ومن بين مُؤلفاته بها كتاب «إحياء علوم الدّين»، والذي قال عنه علماء عصره ومن تبعهم من العلماء: «مَنْ لم يقرأ الإحياء فليس مِنَ الأحياء»، وقد ألّفه تحت قُبّة في ساحات المسجد تُسمّى اليوم بالقُبّة الغزالية.
هذا المسجد كان جامعة إسلامية كبرى امتلأت ساحاته بآلاف الطّلاب من كلّ مكان، وكان مُرْتاد العُبّاد والزُّهّاد من كلّ بقاع الأرض.

الاعتداءات الإسرائيلية مستمرة على المسجد الأقصى المبارك
إِنَّ المسجد الأقصى المبارك يَئِنّ ويزداد أَنِينهُ يوماً بعد يوم، لِمَا يتعرّض له من تدنيس واعتداءات واقتحامات لباحاته بقيادة كبار قادة الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين المُتطرفين، حيث إِنّ الأوضاع الحالية التي يمرّ بها المسجد الأقصى المبارك قد وصلت إلى مراحل خطيرة وغير مسبوقة من خلال تكثيف الاقتحامات المُتكررة التي يتخلّلها تأدية طقوس تلمودية، وسجود مَلْحَمي، ورفع للأعلام، ونفخٍ للبوق؛ تمهيداً لتنفيذ مُخطّطاتهم الإجرامية بالتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى المبارك، وما يجري في المسجد الأقصى المبارك في هذه الأيام يُعَدُّ استباحة مُبرمجة من قبل قوات الاحتلال التي تستهدف تجفيف الوجود الإسلامي في المسجد الأقصى، من خلال منع المُصلين والمُرابطين من الوصول إليه، وَسَعْيهم لفرض السّيادة الإسرائيلية عليه؛ تمهيدًا لإقامة ما يُسَمَّى بالهيكل المزعوم على أنقاضه لا سمح الله، وما الحفريات الإسرائيلية المُدَمِّرة والأنفاق المُتَعَدِّدَة التي تَسَبَّبَتْ في تقويض بُنيانه وزعزعة أركانه عنّا ببعيد، فجميع المُحاولات التي تقوم بها سلطات الاحتلال لفرض أمرٍ واقعٍ في المسجد الأقصى لن تنجح إِنْ شاء الله في تغيير الحقائق وطمس المعالم.
إِنّ هذه الممارسات والاقتحامات من قبل المستوطنين المُتطرفين سَتُقابل بمزيد من الرّباط والصّمود والثبات من أهلنا في المدينة المقدسة ، فأبناء المدينة المقدسة وأهلنا في الداخل الفلسطيني أثبتوا وما زالوا يُثبتون في كلّ يوم أنهم صَمَّام الأمان الحامي للقدس والمسجد الأقصى.
إِنّ المسجد الأقصى المبارك مسجد إسلامي بقرار رباني، وهو ملك خالص للمسلمين وحدهم بمساحته البالغة (144) دونماً وليس لغير المسلمين حقٌّ فيه، وهو جزء من عقيدتنا الإسلامية.
أدركوا القدس والأقصى قبل فوات الأوان إِنّ مدينة القدس بحاجة إلى خُطوات فعلية تُسهم في المُحافظة على عروبتها وإسلاميتها ودعم صُمود أهلها، فمدينة القدس احْتُلّت عبر التاريخ مرّات عديدة ولكنّها لفظت المُحتلين وستلفظ هذا المُحتل إن شاء الله، هذه المدينة المُقدسة في أَمَسِّ الحاجة إلى أيِّ جُهْدٍ يُميِطُ اللّثام عمّا يجري من أعمال بشعة بحقها وترُاثها وأهلها، والتي تُشَكِّل إهانة للإنسانية ووصمة عارٍ في جبينها.
إِنّ مسئولية الدفاع عن مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك والمقدسات ليست مسئولية الشعب الفلسطيني وحده وإن كان هو رأس الحربة في الذّود عنها وحمايتها، إِنّما هي مسئولية العرب والمسلمين جميعاً في العمل على المُحافظة على القدس والأقصى والمقدسات، وَمُسَاندة المقدسيّين المُرابطين والوقوف بجانبهم ودعم صُمودهم؛ للمحافظة على أرضهم ومُقَدّساتهم، خصوصاً في هذه الأيام التي تتعرّض فيها مدينة القدس والمسجد الأقصى المُبارك والمقدسات لمؤامرات خبيثة.
نسأل الله أن يحفظ بلادنا وشعبنا وأمتنا وقُدسنا وأقصانا ومُقدّساتا من كلّ سوء وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com