الثورة بالقرآن

أ. سمـــيــر زريــــري/
ورد في بعض التقارير الاستخباراتية الفرنسية أنّ «التعليم هو طريقة العملِ المناسبة لأذواق وطباع العلماء»؛ هكذا رأت العينُ الفرنسية العَمشاء جمعيةَ العلماء وهي تجاهدُها بالقرآن، وقد ولّى العلماء وجوههم شطر العلم والتعليم، وأسّسوا لأول مرة في تاريخ الجزائر الحديث منظومةً تربوية متكاملة الأركان في جزائرَ تعيش على فوهة بركان.
يجب أنْ نستذكر أنّ العثمانيين لم يسُنّوا سياسةً تعليمية في الجزائر؛ ربما بسبب طبيعتهم الحربية، وأمزجتهم غيرِ المستقرة، وربما أيضا بسبب اهتمامهم الكبير بالمال والتجارة، كما فسّره الرحالة الإنجليزي توماس شو.
ومع ذلك، فإنّ استقالة العثمانيين لم تمنع الأسر الجزائرية المسلمة من تحمّل أعباء التعليم، فكان الآباءُ حريصين على إرسال أبنائهم إلى الكُتّاب لتعلم وحفظ القرآن، وأسسوا لأنفسهم منظومة تربوية أنفقوا عليها من أقواتهم وأوقاتهم الشيءَ الكثير، ففاق عدد المتمدرسين فيها عدد المتمدرسين في فرنسا، بشهادة المؤرخين الفرنسيين أنفسهم منهم فانتور ديباردي وروزيه وغيرهما.
ويقول لويس رين: »كان القرآن في الجزائر هو كلُّ شيء، هو المعلم والتعليم«، فكان مدار العلم والتعليم في ذلك الوقت القرآن وحده، فحِفظُ القرآن الكريم كان عمدةَ التعليم الابتدائي، ومعرفةُ بعض علومه كان عمدة التعليم الثانوي والعالي، ولم يكن تعلمُ القراءة والكتابة إلا تابعا لحفظ القرآن.
ولمّا تسلطت أمّ الخبائث فرنسا على الجزائر عَمدت إلى خطة قبيحة ضربت بها هذا البناء على هناته، وهي سائرة في ذلك على سَنن الجاهلية، فقدّرت ثمّ نظرت ثمّ عبست وأقرت من خلال غابرييل هانوتو «أنّ كل فرد في منطقة القبائل يعرف القراءة والكتابة، وللسكان مدارس عامة، واعتزاز قوي بدعم هذه المدارس، إذ يرون في ذلك واجبا دينيا ونخوة خاصة، وهم يقومون عليها بحماس ديني قوي، فهم يستقبلون العديد من الشباب ويوفرون لهم المسكن والمأكل، ويعلمونهم مجانا».
بدأت فرنسا بضرب التعليم الإسلامي من خلال الحملات العسكرية التي بعثرت كل تجمعات الطلبة والعلماء، فنفت ابن العنّابي وحمدان خوجة ومصطفى الكبابطي وغيرهم من فطاحل العلماء، ورهّبت من بقي منهم، فتناقصت المدارس شيئا فشيئا، ولم يبق منها إلا بعض المدارس التي لا تقدم سوى تعليم غير كامل على الإطلاق.
ثمّ صادرت الأوقاف وتركت التعليم يموت، واشتغلت بالاستيلاء على الأراضي حتى تمكّنت من القطر الجزائري كلّه بعد ثورة السبعين، فعَمَدت حينها إلى خطة قبيحة أخرى نهجت فيها نهج إبليس، إذ لم تمنع التعليم الإسلامي لكنّها أقرّته مع تجريده من مؤسساته، وتحكّمت في المؤدبين من الناحية المالية والفكرية، ومنعت المؤدبين من تجاوز الحفظ إلى التفسير والتفهيم أو تعليم أي مادة أخرى معه، وبذلك أصبح حفظ القرآن نوعا من العبادة تُطلب للبركة فحسب.
يقول أوغيست ليبيشو :« لقد كان هدف فرنسا منذ 1830م الحطَّ من التعليم القرآني وتعويضَه تدريجيا بتعليم أكثر عقلنة وأكثر علمية، وبالخصوص أكثر فرنسة، وقد نجحت فرنسا في الفصل بين الدين والتعليم اللذين كانا في الماضي لا ينفصلان».
هذه الضربة الموجعة حملت العلماء في ذلك الوقت على تطوير مناهج التربية والتعليم لكي تتماشى مع هذا التحدي الكبير، ومن هؤلاء عبد القادر المجاوي في رسالته «إرشاد المتعلمين»، ومحمد بن أبي شنب في ترجمته لبعض النصوص المتعلقة بالتربية عند المسلمين، ومحمد السعيد بن زكري في رسالته «أوضح الدلائل على وجوب إصلاح الزوايا ببلاد القبائل»، فكانت هذه هي اللبنةُ الأولى للإصلاح قبل الحركة الباديسية.
لكنّ هذه المساعي لم تكن كافية أمام الجهود الكبيرة التي كان يبذلها المستدمر لضرب التعليم القرآني، إذ «تأسست المدارس الفرنسية، وأُلزم الناس ببعث أولادهم إلى تلك المدارس إجبارا، وقررت الإدارة الفرنسية لذلك عقوبات للمتخلف فتم الدس على العربية وخلفتها الفرنسية، وأقيمت مقامَها، فالأولاد الذين كانوا يقرأون العربية تركوها فصاروا يقرأون الفرنسية منذ نحو ثلثي القرن. ثم من الطامة الكبرى أن قد صار المعلمون في تلك المدارس الفرنسية ينهون عن العربية بأنها تُتعب الأولاد وتشوشهم وتكلّفهم ما لا يطيقون، وأنْ لا بد من الاقتصار على الفرنسية، وأنّ من خالف ذلك أو قاوم أو نازع يعاقب بالأنديجينية، فانعدمت العربية» كما يقول أبو يعلى الزواوي رحمه الله.
ومع ذلك لم تخل الجزائر من المدارس الحرّة، وواصل الجزائريون تعليم القرآن في الكتاتيب؛ وفي الريف بقيت الزوايا والشريعات (الخيام) والمعمرات هي الأماكن التي يُعلَّم فيها القرآن الكريم والعلوم الدينية واللغوية الأخرى، وإنّك تجد مع هذا كلّه أرعنًا يُطل علينا من أروقة الإليزي يزعمُ أنْ لا وجود للأمة الجزائرية.
شهد المشرق في هذه المرحلة حركة علميةً مُعتَبرةً تأثر بها العلماء الجزائريون، فنقلوا نجاحاتها إلى الجزائر مغتنمين بعض القرارات والقوانين التي تسمح للجزائريين بفتح المدارس، كمنشور ميشيل سنة 1933م، وقرار رينيه سنة 1935م، وقرار الحاكم العام لوبو سنة 1938، والذي نصّ لأول مرة على إمكان فتح المدارس الحرة بدون طلب رخصة.
ومن جهة أخرى كانت المدرسة الفرنسية الخاصة بالأهالي تغزو أوساط الجزائريين، في فترة سادت فيها الحضارة الفرنسية وغطّت فيها الدعوة إلى الإندماج كل مجالات الحياة في الجزائر، وأصبحت البلاد مهددة بضياع شخصيتها وتاريخها ولغتها.
عندها جاءت جمعية العلماء مسلّحة بالعلم والتعليم، متترسة بالقرآن، متدرعةً بالإيمان، مستفيدة من تجارب الأستاذ الأكبر فرنسا كما يسميها الشيخ البشير رحمه الله ـ، فتكاثرت مدارسها وتبناها الشعب وأقبل عليها إقبالا كليا.
وأنشأت الجمعية لأول مرة في تاريخ الجزائر الحديث هيئةً مركزية تَسوس التعليم في الجزائر وهي «اللجنةُ العليا للتعليم»، والتي كان يحلو للشيخ عبد الرحمن شيبان رحمه الله أن يسميها «وزارة التعليم الشعبية»، هذه الوزارة كانت مطّلعة في ذلك الوقت على الطرق الأمريكية والسويسرية في البيداغوجيا وعلم النفس وتطورها في التعليم القرآني. وكانت ميزانيتها التعليمية للعام الدراسي 1947 ـ 1948 مقدّرة بـ 19.500.000 فرنك فرنسي، وكانت في الوقت نفسه تفكر في التمويل الذاتي من خلال الاستثمار في المقاهي، والحمّامات الأندلسية، ودور السينما، وغيرها.
وكانت تدفع للمعلمين بين 10.000 و13.000 فرنك فرنسي في الشهر، وتُلزم المنتسبين إليها باشتراك قدره 200 فرنك فرنسي شهريا؛ «وأصبحت المطالب من الجمعيات المحلية تأتي إلى إدارة جمعية العلماء، والتي كانت بدورها تتولى اختيار المعلمين وتوجههم إلى الجهات الطالبة ليُدرّسوا حسب البرنامج الذي أعدّته اللجنة العليا للتعليم»، وصارت جمعيةُ العلماء بذلك المعلمَ الأول للجزائريين.
لم تحِدْ جمعية العلماء في مناهجها التربوية عن الخط الأول الذي رسمه الجزائريون وهو تعليم القرآن، وبنى المصلحون مناهجهم على إحياء الدين واللغة وأصالة الجزائر المسلمة في التاريخ، ليكون منتوجها جيلا قرآنيا موحّد النزعة والمشرب، يقول ابن باديس رحمه الله:« فإننا- والحمد لله- نربي تلامذتنا على القرآن من أول يوم، ونوجه نفوسهم إلى القرآن في كل يوم، وغايتنا التي ستتحقق أن يكوّن القرآن منهم رجالا كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلِّق هذه الأمة آمالها وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا».
لم يجمُد العلماء على التدريس التقليدي في المساجد، بل جمعوا بينه وبين التدريس في المدارس الحرة الحديثة، فكانوا في الواقع جسر العبور إلى التعليم الحديث، وكانت دروس المساجد موجهة في أغلبها إلى العامة ولكن بمحتوى وأسلوبٍ يختلف عن محتوى وأسلوب مدرّسي المساجد الرسميين. فالعلماء كانوا يتناولون موضوعات معاصرة ويوظفون لها الشواهد من القرآن والسنة والتاريخ بأسلوب حيّ يهدف إلى التوعية والنهضة.
كان العلماء ينافسون بمدارسهم المدارسَ الفرنسية، ولكنهم لا يعارضونها، وكان برنامجهم يخضع لتوقيت هذه المدارس كنوع من أنواع العمل في المتاح، «وهم يعلّمون التلاميذ الذين يذهبون إلى المدارس الفرنسية أيضا، ويوفقون بين توقيتهم هنا وهناك. وكان ذلك على حساب التلاميذ أحيانا، إذ كان عليهم أن ينهضوا أو يناموا ويعملوا في أوقات ضيقة جدا».
واستعمل العلماء في هذه المدافعةِ أساليب تربويةً خاصة، منها الرجوع إلى التعليم النبوي، ومنها التربية بالقدوة، ومنها تقديم التربية على التعليم، ومنها التنشئة على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل، ومنها التدرج في التعليم، وغير ذلك من الأساليب التربوية التي استعملها المصلحون ممّا نجده مبثوثا في آثارهم.
لم يكن العلماء قد وضعوا كتبا ومقررات جديدة تتلاءم مع طموحهم في حركة الإحياء هذه، فاعتمدوا في البداية على تقليد المعاهد الإسلامية في تونس ومصر، وكانت معظم الكتب التي تدرّس في الأزهر والزيتونة وبعض معاهد المشرق ومدارسه تُطبّق في مدارس جمعية العلماء.
كان العلماء قليلي العدد في البداية، وإمكاناتُهم في التأليف والطبع ضعيفة، ولذلك كانوا يلجأون إلى الإملاءات ومنها جلّ مؤلفات ابنِ باديس. وبمرور الزمن أصبحت مدارس العلماء تتوفر على معلمين قادرين على التأليف وفق خصوصية القطر، وتجاوزت جمعية العلماء بعض الإشكالات التي كانت تواجهها عند التعليم بهذه السندات، كالتعابير والأمثلة التي لا تتلاءم مع المتعارف عليه في البيئة الجزائرية. وهكذا ظهرت – سيما بعد الحرب العالمية الثانية – مؤلفات مدرسية في مختلف الفنون من الإنتاج الجزائري، على أنّ ذلك لا يعني الاستغناء تماما عن التأليف المشرقي.
بالإضافة إلى المواد الأصلية التي كانت تقدمها جمعية العلماء، اهتمت أيضا بالتاريخ الإسلامي وتاريخ الجزائر وجغرافيتها. وكان الفرنسيون إذّاك قد أدمجوا التاريخ والجغرافية، وروّجوا لعدم وجود الجزائر في الأمم، فكذبتها جمعية العلماء بكتابِ «تاريخ الجزائر القديم والحديث» وغيرِه من المؤلفات والمواقف التي سجلتها الجمعية على جبين التاريخ.
كان تعليمُ المصلحين للقرآن الكريم يرمي إلى غاية جليلة، فالمبدأ هو العلم، والغاية هي الاستقلال الذي كان يدعو إليه ابن باديس والإبراهيمي علنا منذ سنة 1937م، كما سجّلته التقارير الاستخباراتية الفرنسية التي يحوزها مخبر البيان.
كان الإصلاحيون يتعاملون مع فرنسا بنَفَس المجاهدين وكان الشيخ البشير رحمه الله يقول:«أما الحكومة الاستعمارية فإننا بنينا أمرنا من أول خطوة على الاستخفاف بها وبقوانينها، وقد كنا نعلن في جرائدنا كل أسبوع بأن القوانين الظالمة لا تستحق الاحترام من الرجال الأحرار، ونحن أحرار فلتفعل فرنسا ما شاءت».
وقد ذكر شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله في كتابه «الحركة الوطنية الجزائرية» أنّ بعض من عاصر ابنَ باديس وزامله أخبره أنّ الإمام المؤسس كانت له فكرة عظيمة هي الإعلان عن استقلال الجزائر خلال الحرب العالمية الثانية، وقدّروا بالنظر إلى ذلك أنّ موتةَ ابنِ باديس موتةٌ غيرُ طبيعية.
اعتبرت فرنسا هذه الحركة الإصلاحية حركةً متطرفة، وذكرت في التقارير التي بحوزتنا أنّه:« لا فرق بين جمعية العلماء والأحزاب المتطرفة، إذ كلاهما يطالب بالاستقلال التّام عن فرنسا»، وسجلت هذه التقارير أيضا أنّ مدارس الجمعية:« تشوّه صورة فرنسا، وتصقل نفسيات التلاميذ على معاداتها»، وقدّرت أنّ هذه المدارس «معاقلُ للوطنية»، وأنّ البعثات الطلابية « ترجع غالبا مشبعة بأفكار معادية لفرنسا»، وعلى هذا الأساس عامل الاستدمار جمعيةَ العلماء؛ عاملها على أنّها ثائرةٌ عليه بالقرآن فسلّط عليها ألوانا من العذاب، أولُه الغرامات المالية وقرارات غلق المدارس، فسجنُ العلماء وقتلهم.
ليس ذلك غريبا من حكومة أُشربت الصليبية في قلبها، لكنّ العجب ممن تربّى في مدارس جمعية العلماء، وقد ذهب ـ بلا عودة ـ يذمّ الجمعية بما تُمدح به، يزعم «أنّها كانت تلعب عندما اشتغلت بتعليم الجزائريين» معنى الحرية التي كان يجهلها هو وأسلافه ممن كانوا يعتقدون أنّ الكون منصوبٌ على قرن ثور، وأنّ الفرنسيس لا يقضون حاجتهم كما نقضيها نحن. والحقيقةُ أنّ جمعية العلماء أحدثت ثورةً قبل الثورة.
هذا، وإن جرت على الجمعية سنّةُ الجزائر في التنكر لأبنائها، فإنّ الله الكريم أجرى سنته عليها بأنْ جعل العاقبةَ لها، والعاقبةُ للتقوى.
رئيس شعبة عنابة