الحـــق الـمر

أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ…

يكتبه : د. محمــد قماري/

أعتقد أن في تراثنا الأدبي والعلمي رجالاتٌ قلَّ نظريها في تاريخ غيرنا، وأنا لا أصدر في هذا عن عاطفة دفاعية، تريد أن تواسي جراح واقعنا المنكوب، فذلك ضربٌ من الخيانة الثقافية للأمّة، لكن هل حال الخلف البائس يجعلني أهيل التراب على ما في ماضينا من خير ورشد؟ تلك خيانة أخرى يتمسك بتلابيبها (الغزاة الجدد)، مفادها أننا لم نكن شيئًا مذكورًا، وأن أمسنا كيومنا وأن غدنا، في أحسن الأحوال، لن يكون إلا نسخة من يومنا!
لقد ابتليت الأمة الإسلاميّة بفريقين من الناس، فريقٌ عينه على أمجاد الماضي، لا يرى فيه أخطاء ولا هنات، يكفي أنه ماض ليفوز بالتبجيل والتقدير، وأن الأمة تمضي في تقدمها إلى (المهلكة القدرية) على خط الزمن، وهم يستأنسون بالأثر: “خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم… “، وفهمه هؤلاء أنه مسلسل انحدار دائم!
وأغفل هؤلاء الأثر الآخر: “أمتي كالغيث لا يعلم الخير في أوله أو آخره…”، تجد من يطعن في سند الأثر، لكن تجد رجلاً ألمعيا كابن تيمية، رحمه الله، يقول فيه: (مع أن فيه ليناً – فمعناه: في المتأخرين مَن يشبه المتقدمين ويقاربهم حتى يبقى لقوة المشابهة والمقارنة لا يدري الذي ينظر إليه أهذا خير أم هذا، وإن كان أحدهما في نفس الأمر خيراً).
وإنَّك لتعجب أن تجد على الضفة الأخرى من يعضد توجه الانحدار، لكن ليس تحت مظلة السلفيّة بل تحت مظلة الحداثة، فباسم الحداثة نحن كريشة في مهب القدر، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، ماضينا ظلام وطريقنا مسدود الآفاق، وما علينا إلا التسليم بما يرشح به السادة علينا، بل حتى التسليم ليس لنا فيه حول ولا طول، بل إنه قدر الريشة في مهب الريح!
أوحى إليَّ بهذا المعنى تعليق رجل من علماء المسلمين على قوله تعالى: “الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ” (الملك/2)، والرجل هو الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، الذي قال عن العمل الصالح: (هُوَ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ)، قيل له: يَا أَبَا عَليٍّ، مَا أَخْلَصُهُ وُأَصْوَبُهُ؟، فَقَالَ: (إِنَّ العَمَلَ إِذاَ كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ َيَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا)، ولا يتسع المجال لنروي التجربة الخاصة بالفضيل بن عياض، وانتقاله من قاطع طريق إلى عالم متأمل في المعاني الدقيقة!
إنَّ الأمّة الإسلامية فقدت بوصلة (السنن)، وهي بوصلة تقوم على احترام قوانين الحضارة، فكما تصل ذرات الأوكسجين والهيدروجين المكونة للماء إلى الدرجة الحرجة وهي 100 درجة مئوية فيغلي الماء، فإنه لن يكتب للأمم التحضر والتفوق إلا ببلوغ سعيها وحركتها وعملها إلى تلك الدرجة الحرجة وهي (أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ)، فكثرة العمل دون صواب مآلها الإخفاق، ودون وجهة إخلاص مآلها الاحتراق!
قد يقول قائل وما دخل هذا في نسق الحضارة الغربيّة مثلاً؟ أين الإخلاص وأين الصواب؟ وقد قطعوا أشواطا وما زالوا في حضارتهم؟
إن تجريد المعنى من ملابساته الدينيّة يفضي بنا إلى مفهوم (التوجه) [L’orientation] ومفهوم (الجودة) [La perfection]، فكل عمل له توجه مخلص له بما ينفع الناس يجب أن يتبع الصواب في التخطيط له وتنفيذه، فما معنى أن تزدحم رفوف المكتبات ببحوث ميّتة لا وجهة لها، وتنتهي بحصول صاحبها على لقب علمي؟ وكيف انجزت وآخر ما يفكر فيه صاحبها جودة ما وصل إليه؟
كيف يحقق المستشفى رساله في علاج المرضى، والتوجه فيه لا ينحو باتجاه خدمة المريض وراحته؟ وما يقدمه من خدمات لا تسلك سبيل (الجودة) في العلاج؟ وقس على ذلك عمل الفلاح والإداري والمهندس والمقاول…
ذلك ما فقدناه، وبعد ذلك تجد الموظف الذي يقطع عمله في خدمة الناس ليؤدي صلاة العصر في الوقت الاختياري، والعامل الذي يتحجج بصوم النفل في التقصير في عمله، والطالب الذي لا تردعه قراءة ورد القرآن عن الغش في الامتحان أو قراءة مجموعة أذكار…
إن هزيمتنا لم تأت من قصور في الحماس، ولم تأت من نقص في توحيد الألوهيّة والربوبيّة بمعناها النظري، بل جاءت بسبب كفرنا بسنن الله في الأنفس والآفاق، وهي سنن لا تحابي المؤمن البليد، ولا تنحاز ضد الكافر المجتهد، وذلك وعد من الله: ” مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ” (هود/15)، وأنظر إلى ألفاظ التأكيد (نوَّف لهم، لا يبخسون)، إن اتباع السنن فيه وفاء من القدر الرباني للمجتهدين، وفيه وعدٌ بأن لا يبخسون.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com