من تراثنا

الفلاحة أصل التمدن

أ.د. مولود عويمر/

يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب بالمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.

ولد علوي إبراهيم بن سليمان في بلدة طولقه بمنطقة الزيبان (ولاية بسكرة) في عام 1896. درس القرآن الكريم واللغة العربية والعلوم الشرعية في زاوية الشيخ علي بن عمر المعروفة بالزاوية العثمانية. انتقل إلى الجزائر العاصمة بحثا عن العمل. واتصل كذلك بالنخبة العاصمية واشترك معها في تفعيل الحياة الثقافية، كاتبا في الصحافة العربية نصوصا نثرية وشعرية مثل جريدة «النجاح» وجريدة «الإقدام».
ذكر الباحث الدكتور محمد ناصر أن الشيخ علوي ساهم أيضا مع الشيخ محمد السعيد الزاهري في إنشاء جريدة «الجزائر» في عام 1925 والتي كان شعارها: «الجزائر للجزائريين». لم يصدر من هذه الجريدة الوطنية سوى ثلاثة أعداد.
تميّزت كتابات الشيخ علوي إبراهيم بن سليمان بطرح القضايا الجديدة والدعوة المستمرة إلى التفتح على العصر وسلك طريق التقدم. ويظهر تأثير عالم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون واضحا في مقالاته سواء من حيث الموضوعات التي عالجها أو من العبارات التي استعملها وكذلك من الأهداف التي رسمها. وفي هذا السياق أشير هنا على سبيل المثال إلى مقاله المعنون: «العمران البشري» الذي سار فيه على درب صاحب كتاب «المقدمة».
تبقى محطات كثيرة من حياته مجهولة وتحتاج إلى الدرس والبحث خاصة وأن الشيخ علوي إبراهيم بن سليمان عمّر في الحياة وأدرك استقلال الجزائر وعاش بعده سنوات عديدة إلى غاية 13 نوفمبر 1983 كما ذكر الباحث الأستاذ فوزي مصمودي.
نشر المقال الآتي في العدد 18 من جريدة «الإقدام» الصادر في 4 جمادى الأول 1339 ه، الموافق لـ 11 جانفي 1921. أسس هذه الجريدة الزعيم السياسي الأمير خالد الجزائري بمدينة الجزائر في شهر فبراير 1919 باللغة الفرنسية، ثم أضاف إليها الطبعة العربية بداية من سبتمبر 1920. كان مديرها الحاج عمار وقايد حمود، وصاحب امتيازها محمد بن علي، والأمير خالد رئيس تحريرها. وكانت تصدر يوم الجمعة في صفحتين ثم في 4 صفحات. واستمرت في الصدور إلى غاية مارس 1923 فتوقفت بسبب المعوّقات الإدارية والأزمة المالية. وصدر منها حوالي 120 عددا.
تعنى هذه الجريدة في المقام الأول بالشأن السياسي وتدافع عن حقوق الجزائريين الاجتماعية والسياسية خاصة بعد أن شارك الآلاف من الشبان الجزائريين في الحرب العالمية الأولى، ودافعوا عن الدولة الفرنسية ضد أعدائها. فتتابع أخبار السياسيين الجزائريين أمثال الأمير خالد وأحمد بهلول ومحمد بن رحال وحمود قايد ومحمد الخروبي، وتنشر مقالاته النقدية ورسائلهم المطلبية إلى السلطة الاستعمارية الموجودة في الجزائر أو في فرنسا. كما اهتمت «الإقدام» بالأخبار الدولية خاصة ذات الصلة بالعالم العربي والإسلامي.
وفتحت الجريدة صفحاتها للموضوعات الأدبية والفكرية والثقافية فنشرت نصوصا نثرية وقصائد شعرية تكرِّس الشعور الوطني وتغذِّي الانتماء القومي وتشحّذ الهمم للعمل الجاد والنهوض الحضاري. وقد ساهم في تحريرها نخبة من الكُتاب والسياسيين الجزائريين أمثال الشيخ عبد الحليم بن سماية، الشيخ المولود الزريبي، الشيخ محمد العاصمي، الشيخ علوي ابراهيم بن سليمان والأستاذ قدور بن محي الدين الحلوي، …الخ.
كتب الشيخ علوي إبراهيم بن سليمان عن أهمية الفلاحة باعتبارها ركنا من أركان الاقتصاد بما تقدمه للإنسان والمجتمع من أسباب العيش، وتقيه الحاجة والجوع، وتضمن له الأمن الغذائي الذي هو رأس الأمن العام. وحرص الكاتب على تبسيط المعاني والاستدلال المنطقي والبرهان الديني والعلمي لإبراز قيمة الفلاحة وضرورة خدمة الأرض لتعود منفعتها على الانسان والمجتمع.
ورغم أنه يعيش في بلدة طولقة المعروفة بواحاتها الخلابة واشتغال سكانها بالفلاحة إلا أنه لم يكن راضيا على ذلك على المستوى المحلي والوطني، وهو يشاهد قلة المنتوج وقدم التقنيات المستعملة وتردد الشباب وعزوفه عن العمل الشاق في الحقول، فضلا عن إهمال الطبيعة وعدم الاعتناء بجمال المحيط.
ويدل هذا الحس بالطبيعة والاهتمام بالبيئة والتنبيه إلى الأمن الغذائي على ثقافته العصرية وانفتاحه على العلوم الحديثة التي تهتم بهذه القضايا الجديدة في العالم الغربي وقلما نجد من يهتم بها في الوطن العربي الذي كان مشغولا بهموم أخرى.
لم تكن مقالته حول الفلاحة هي النص الوحيد الذي تناول فيه هذا الموضوع بل نشر الشيخ علوي ابراهيم بن سليمان مقالا آخر مكمّلا لما سبق من أفكار تنويرية وآراء بناءة، بعنوان معبّر: «التربية البيئية»، وهو الشيء الذي يؤكد مرة أخرى إيمانه العميق بالحاجة الدائمة إلى تربية النشء تربية راقية تعنى برجاحة العقل وصحة البدن وجمال البيئة من أجل تأسيس مجتمع جديد يتحقق فيه الرقي والازدهار.
وإننا نجد هذا الهم الانساني النبيل في مقالاته السابقة التي عالج فيها مسألة التقدم وختمها بتوجيه دعوة صريحة للشباب الجزائري إلى دراسة الآداب والعلوم والفنون والاستفادة من المعارف المعاصرة والانتظام في سلك التمدن دون الاستسلام للمعوّقات القائمة التي ولّدتها البيئة الاستعمارية، ولا شك أن التغلب عليها لن يكون بالخمول واليأس وإنما بالمثابرة على العمل وبالإصرار على الخروج من التخلف الحضاري.
يبقى أن أذكر هنا أن مقالة الشيخ علوي إبراهيم بن سليمان الطولقي حول «الفلاحة أصل التمدن» كانت لها أصداء حسنة عند القراء حسب ما ورد في بريد جريدة «الإقدام»، غير أن أفكاره التنويرية وتوصياته البناءة لم تجد دائما طريقها إلى التجسيد على أرض الواقع لأسباب متعددة. فهل كان يغرّد خارج السرب في ذلك الزمن المظلم الذي طغى فيه الاستعمار في البلاد؟


*** *** ***
«الفلاحة أول باب من أبواب المدنية وهي أول شيء يحتاجه الانسان في منشئه ومبدئه. وقد تجمعت فيها خصال حميدة ومحاسن عديدة فلو ذهبت أذكر المحاسن التي اشتملت عليها هاته الصنعة الشريفة وهي صنعة الفلاحة لضاق الطرس ويكفيها شرفا أن من محاسنها أنها المحصلة للقوت الضروري المكمل لحياة الانسان.
ولا يخفى على ذي لب أن الانسان مفتقر بالطبع إلى ما يقوته في أطواره وحالته من يفاعيته إلى كهولته وكبره. فالفلاحة باب من أبواب الاكتساب. وقد جعل الله كثرها في القيام بشؤونها وازدراعها وترتيبتها – وعلاج نباتها وتعهده بالسقي إلى بلوغ أوانه ومنتهى وقته. فإذا علمت هذا فاعلم أن – أقدم الصنايع صنعة الفلاحة لأنها تنسب في الخليقة إلى آدم أبي البشر وأنه معلمها والقايم عليها إشارة إلى أنها أقدم وجوه المعاش وأنسبها إلى الطبيعة.
فالإنسان محتاج بالضرورة فمتى اقتدر على نفسه وتجاوز طور الضعف سعى في تحصيل المعاش والمكاسب لينبو ما أتاه الله منها – فالأولى للإنسان أن يسعى بكل جد وقريحة إلى هاته الصنعة الشريفة ويخدمها بمقدار شرفها إذ هي العيش.
والعيش هو الحياة ولا تحصل الحياة إلا بها بل إذا اعتنى بها وأداها حقها حصلت له ثمرتها ورجعت عليه بالنفع والإنفاق في مصالحه وحاجاته إذ هي القوت والرزق وكل واحد لا يهمل قوت نفسه ولا قوت منزله قال تعالى: « فابتغوا عند الله الرزق».
ومن المعلوم أن رزق الانسان يحصل له بالسعي والاجتهاد لا بالتكاسل والاضطجاع ولا بد في الرزق من سعي وعمل. والسعي إليه إنما يكون بإلهام من الله بما على الإنسان – إلا أن يسعى ويجتهد وعلى الله الاتكال.
نعم إن ثمرة الرزق تحصل للإنسان بتعدي منافعه لغيره فإذا رزق الانسان تجاوزت منافعه للغير وأنفقه في مصالحه عادت منفعته عليه وحصلت له ثمرته فإذا حصل له ذلك سمي رزقا. قال صلى الله عليه وسلم: «إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبلیت أو تصدقت فأمضیت».
فإذا لم ينتفع به الانسان لا في مصالحه ولا في حاجاته فلا يسمى رزقا – فالإنسان لا تقوم بنيته إلا بالأعمال الانسانية فإذا تحصل النفع والكسب لديه حصلت له قيمة عمله، فاجتهد رحمك الله في الصنعة التي تبيّن لك معنى الحياة.
فالفلاحة علم مستقل بتحصيل حاجات الإنسان في معاشه وهي تؤدي إلى الرفه والغنى. واعلم أن من جملة فوائده هاته الصنعة أنها يكثر بها العمران ويقل بها فإذا كثر استعمالها في البلدان والأمصار تكاثر العمران، وإذا قل استعمالها فقدت الأعمال وقلت وأذن العمران بالخراب.
ألا ترى إلى الأمصار التي تستعمل صنعة الفلاحة كيف يكون أهلها أوسع حالا وأشد رفاهية من غيرها، ومن هذا قال بعض الحكماء: في البلاد إذا تناقص عمرانها أنها قد ذهب رزقها ومن هنا تتفاوت الحضارة فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل.
فتأمل سر الله تعالى في ذلك، واعتبر تجد أن تفاوت العمران بكثرة الصنايع كما أن كثرة الرزق تجيء بسهولة على من يبذله لاستغنائه عنه.
واعلم أن اتساع الأحوال وكثرة النعم في العمران تابع لكثرته، والله الغني وهو وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين».

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com