حــوار معرفي علمي مع البروفيســـــــور مســعود صحراوي: مصيبتــنا الأخلاقية والقيميــة في جامعاتنا فوق ما يُحــتَمل
ذُهــان السهولة جزء من الميراث المُر في تسيير جامعاتنا psychose de facilité
حاوره: أ. حســن خليفة/
(الجزء الأول )
لم يبتعد البروفيسور مسعود صحراوي كثيرا عن توصيف أساتذة وزملاء سابقين، حاورناهم حوارات علمية ومعرفية، وكان جزء من الحوار مخصوصا للجامعة الجزائرية ..لم يبتعد ؛ لأنه قرّب في توصيفه الدقيق وتشخيصه المنهجي المتدرج الموثق ..قرّب الأوضاع في الجامعة الجزائرية، وكان صريحا وصادقا وجريئا في مقاربة “الاختلالات” والعلل التي تفتك بالجامعة، من الاهتمام المبالغ فيه بالكمّ، إلى التساهل والتسيّب ، والمحسوبية في التعيينات، وعدم تقدير العلم على النحو الصحيح، الخ ما يمكن أن يقف عليه القاريء في هذا الحوار الذي شرفنا بالتحاور فيه مع علَم من أعلام اللغة واللسانيات وقامة من القامات الفكرية والثقافية في وطننا …وإلى الحوار
سيرة موجزة عن مسارك العلمي والدراسي والمهني؟
nn الأستاذ مسعود صحراوي باحث وأستاذ جامعي جزائري، مولود في قلب الثورة التحريرية المجيدة ببلدية الحامة جنوب ولاية سطيف، في أسرة متدينة معروفة بالقرآن الكريم والعلم والصلاح في المنطقة والمشاركة في الجهاد والمقاومة منذ وطئت أقدام المستدمر الفرنسي النجسة أرض المنطقة (كان جدّ والده شهيدا من شهداء ثورة المقراني سنة 1881)، وعُرفت المنطقة بأنها كانت مركزا من أكبر مراكز المجاهدين أثناء الثورة بحكم طبيعتها الجبلية وغاباتها وأحراشها، وكان موقعها المتميز بين الغابات وطبيعتها الجبلية الوعرة وكونها مركزا حصينا للمجاهدين ذريعة للمستدمر الفرنسي لتدمير قرى المنطقة على ساكنيها وإحراقها بالقنابل وبالأسلحة الممنوعة… عدة مرات.
تلقى القرآن الكريم وتعليمه الأول في قريته، ثم تابع تعليمه في ولاية باتنة في مختلف المراحل التعليمية، ثم تابع دراسته العليا بجامعة باتنة، حتى حصل على الماجستير ثم الدكتوراه في اللغويات.
يشتغل حاليا أستاذا لعلوم اللغة بقسم اللغة العربية بجامعة عمار ثليجي بالأغواط، بدرجة أستاذ.
أسند إليه -خلال مساره التدريسي الجامعي- تدريس المقاييس والمسارات اللغوية المعهودة (النحو، اللسانيات، المعجميات علم الدلالة، مناهج البحث اللغوي، البلاغة الجديدة…)، وتولى خلال هذا المسار بعض المهام العلمية مثل رئاسة المجلس العلمي لكلية الآداب واللغات بجامعة الأغواط لعدة سنوات،
له عدة أبحاث منشورة في اللغويات وبعضها الآخر في الدراسات القرآنية، من كتبه المنشورة:
-التداولية عند العلماء العرب (نُشر أول مرة في دار الطليعة بيروت 2005، ثم في دار التنوير بالجزائر 2008 و2020، وبيعت نسخه كلها)، وهذا الكتاب تلقاه الدارسون والمختصون وطلبة العلم في العالم العربي بالقبول، ولله الحمد.
-لحظة ميلاد التداولية (نُشر في هذه السنة في دار أزمنة للنشر عمان الأردن، ثم دار التنوير بالجزائر)،
-وله عدد من الأبحاث الأكاديمية بالاشتراك في اللغويات، صدرت في كتب جماعية، وفي مجلات محكمة متخصصة.
ناقش عددٌ من طلبة الدكتوراه والماجستير رسائلهم في التخصص اللغوي بإشرافه، وكثير منهم يشتغل حاليا أستاذا جامعيا للغويات في بعض الجامعات الجزائرية، وبعض تلاميذه وصل إلى درجة أستاذ، وهذا من فضل ربي.
-وله أعمال علمية قيد الإعداد.
كأستاذ جامعي وباحث وأكاديمي نرغب في معرفة رؤيتك لكل ذلك: الجامعة، البحث العلمي، الأداء الأكاديمي لجامعاتنا. وفي التفصيل نرجو أن تحدثنا عمّا إذا كانت الجامعة تؤدي أدوارها في كل ذلك: إنتاج المعرفة، إنتاج النخبة العالمة، إنتاج البحوث العلمية الرصينة القوية .الخ؟
nn الجامعة الجزائرية مرت منذ السنوات الأولى للاستقلال حتى الآن بمراحل وأطوار فيما أُخْبِرنا به، وكان أداؤها العلمي والبيداغوجي متفاوتا يتراوح بين مدّ وجزر أو بين الجودة والرداءة وبين طرفيْ الارتفاع والانحدار في الأداء… لكن وظيفة الجامعة في قيادة المجتمع وتنويره وإمداده بالكفاءات تقلصت كثيرا في المدة الأخيرة منذ مرحلة التسعينيات، وتفاقمت نسبة العجز منذ بداية الألفية، لأسباب كثيرة منها هجرة الكفاءات الجامعية لأسباب ذاتية أو موضوعية، وقد نلخص مظاهر عجز الجامعية وقصورها الذاتي في عدة نقاط:
ـ نحن نعرف وأنتم تعرفون- والعالم كله يعرف- أن أي منظومة تربوية أو تعليمية أو ثقافية… لا بد لها من هدف محدد ورؤية واضحة وأساس فكري قائم على عقد اجتماعي أصيل ترفده رؤية علمية أصيلة منفتحة تقودها وتؤطرها كفاءات تصنع وعيا صحيحا مكافئا لتحديات اللحظة التاريخية ويستجيب للطموحات المشروعة للمجتمع، وصناعةُ القيم العامة المشتركة الصانعة لهذا الوعي العام من مهام الدولة وواجب من واجباتها…
وما لم تُطرح الأسئلة الجوهرية: مثل سؤال الهدف والغاية من المدرسة والجامعة، ومشروع الإنسان والمجتمع الذي نريد تأسيسه -الذي هو من مهام الجماعة الوطنية الجديرة بهذا الاسم، وليس مهمة أحزاب مجهرية أو توجهات سياسية وإيديولوجية أقلِّويّة شاذة – فإننا سنبقى نراوح في المكان، فيظل المنجز من المهام الكبرى دائما أقل بكثير من صناعة النهضة وأقل من أفق الانتظار لدى الجزائريين وطموحهم وتشوفهم إلى جامعة أصيلة حديثة منفتحة قادرة على إحداث الإقلاع والنهضة، فرؤية مشروع صحيح للنهضة هو المنطلق والأساس.
فإن سألتني: وما الذي يَحول دون ذلك؟
فالجواب: عدة أسباب وجملة من الاعتبارات المتزامنة:
– منها إفراغ الجامعة من محتوياتها، أولها رصيدها القيمي ورصيدها البشري أي الكفاءات الأكاديمية الجيدة المؤطِّرة إما بفعل الهجرة القسرية/أو الطوعية، في تسعينيات القرن المنصرم -ثم ما بعدها- حين أشعلت العصابة محرقة كادت تأتي على الأخضر واليابس، فاضطر كثير من أهل الكفاءة الأكاديمية والغيرة الوطنية والالتزام الأخلاقي إلى ترك الوطن هروبا من جحيم الاغتيالات المقصودة أو العشوائية… للنجاة بأنفسهم من مصير التصفية الجسدية.
– ومما نتج عن ذلك تراجعُ الرموز والمرجعيات العلمية الأكاديمية -أعني كبار الأساتذة المشهود لهم بالخبرة والذين يُقتدى بهم في العلم وفي الأخلاق والمثابرة- أو ندرةُ المرجعيات أو اختفاؤُها أو تهميشها ودفنها وهي حية في كثير من الجامعات، وأنتم تعرفون أنه متى حدث مثل ذلك النزيف -وقد حدث فعلا وواقعا في بلادنا- فُسح المجال للضحالة والرداءة وفُتحت الأبواب أمام نماذج رديئة… بل قاد بعضَ الجامعات في بعض المدن بعضُ الاستئصاليين…! وهذا الذي وقع!
– ومما نتج عن ذلك طغيان قيم وسلوكات سلبية كالتمييع والمحسوبية والوصولية والإقصاء والتهميش… بل وصل بنا الحال في مرحلة قريبة إلى الاعتداء الجسدي على الأساتذة والإداريين فصارت بعض الجامعات أشبه بمراكز مليشيا لمنظمات طلابية منفلتة…
– ثم تلا ذلك مرحلة أخرى لا نزال نعيشها إلى هذه اللحظة تتميّز بانتشار ذُهّان السهولة (psychose de facilité) – بتعبير الأستاذ مالك بن نبي- في جامعاتنا… فراجت عقلية استسهال كل شيء وتزييف كل القيم الضامنة لقيام جامعة حقيقية، وعمّت وطغت على أنشطة الجامعة وعلى تسييرها وعلى التعيينات وعلى التدريس والشهادات، والأدهى من كل ذلك وصول هذه الآفة إلى الترقيات العلمية، ففُتح باب الترقية إلى درجة «أستاذ» على أوسع من مصراعيْه مع تقليص مدة الوصول في بعض المناطق، فولج هذا البابَ ونال منه مبتغاه من يستحقه، أعني الكفاءات العلمية والباحثين الجادين وهم موجودون بحمد الله، ولهم مكانتهم وطنيا وعربيا ودوليا، بمستواهم العلمي وإنتاجهم وحضورهم في المجلات والملتقيات والمؤلفات العلمية الراقية في تخصصاتهم… ولكن ولج هذا البابَ أيضا من لا يستحقه، من باحثين لا وزن لهم، ولذلك نلاحظ في تلك الترقيات- من الشكلية والاستعراض والمظهرية والتكاثر بالأعداد- ما فيها… ورافق ذلك كثيرٌ من التساهل في عملية منح شهادة الدكتوراه وغيرها من شهادات التخرج، وكثيرٌ من التساهل في التدريس وفي أسئلة الامتحانات والمسابقات والتقييم، وتقلصت تقلصا كبيرا في واقع الجامعة الأخلاق المهنية وقيمُ الموضوعية والنزاهة وتضررت العلاقات فتبعثرت الجهود الجادّة وتشتت، فلم تفقد الجامعة المستوى العلمي فقط بل فقدت معه رصيدا من المصداقية والقيمة الاجتماعية والأساس الأخلاقي… ولكن على تفاوت بين الجامعات، فالتعميم في هذا التشخيص لا يصح، بل قد يكون مضرّا.
– ومن النقاط التي تضاف إلى أسباب الضعف العامّ مسألة «جزأرة الجامعة الجزائرية» أي اقتصارها على توظيف الجزائريين، وإذا كان مبدأ «جزأرة الجامعة»صحيحا وصالحا في مجالات التنظيم والتسيير والإشراف الإداري مثلا، فإنه خاطئ وضارّ في مجالات تبادل الخبرات العلمية والتواصل المعرفي والاستعانة بالخبرة العالية من كل من يمتلكها، فالنهضة العلمية الحقيقية لن تتحقق بالانغلاق والانكفاء على الذات والاكتفاء بما عندنا، مع أننا نعرف أن العلم لا حدود جغرافية ولا زمانية له وأنه في تطور دائم عند الأمم المختلفة وفي كل العصور.
هل ثمة ملاحظات في هذا الشأن تريد تسجيلهـا …؟
nn ومن الملاحظات التي يسجلها كل ملاحظ غلبةُ الشكلية في النشاط الجامعي واستنزاف الجهود في هذا الجانب على حساب التحصيل المعرفي ومستوى المادة العلمية المدرّسة ونوعية الخريجين، وكان يُظنّ أن تطبيق الرقمنة سيزيل العقبات إلا أن الرقمنة عقدت بعض المهام والأنشطة وزادتها شكلنة؛ مثل قرار صفر ورقة الذي طبق بطريقة فجة متسرعة غير عملية فأثر سلبا على مناقشات الدكتوراه وعقّد سيرها.
والغريب -مع هذا الضعف الجامعي العام- أن تتباهى السلطات السياسية وعموم المسؤولين والسلطة الوصية على الجامعة بإنجازاتها على هذا الصعيد لأنها تنظر إلى الواقع نظرة مظهرية شكلية استعراضية، وتستند إلى الأرقام الكبيرة دون اعتبار المضامين ونوعية المتخرّجين… فيسردون أرقاما كبيرة ويتخذونها علامة ودليلا على إنجاز تقدّم معتبر…
وإليك بعض الأرقام مما نسمعه ونقرأه مما يُعدّ في الظاهر على الأقل تعزيزا لقدرات التعليم العالي في الجزائر:
كثيرا ما يقال إن عدد الطلاب الإجمالي: 1.700.000 طالبا في مختلف أطوار التكوين والفروع والتخصصات، يؤطرهم نحو أكثر من 60.000 أستاذ باحث موزعين على مختلف الدرجات والرتب العلمية الأكاديمية، وتوجد أكثر من 100 مؤسسة جامعية (جامعات، مراكز جامعية، مدارس عليا، جامعة للتكوين المتواصل …) منتشرة عبر معظم ولايات الوطن…
وهذا الإحصاء صحيح، لكن في مقابل هذه الأرقام لم تُرتّب الجامعات الجزائرية لا في الألف جامعة الأولى عالميا ولا في الألف جامعة الثانية… وأحسن الجامعات عندنا جاءت في نطاق الألف الثالثة من جامعات العالم وبعضها أدنى من ذلك…
إذن فالأرقامُ والهياكل والبنايات وأعدادُ الطلبة شيء، والحقيقةُ المعرفية البحثية ومستوى المتخرجين ونوعيتُهم شيءٌ آخر .
برأيك ..من يتحمـل المسؤولية؟
nn هذا الضعف تتحمل مسؤوليته السلطات السياسية، ويشاركها فيه بعض الأساتذة بتكاسلهم واستقالتهم من مهامهم، وأنا أعرف بعض الأساتذة الذين يكتفون بالحضور الشكلي للندوات وحتى للدروس الرسمية التي لا يقدمونها أحيانا، بل يكلفون الطلبة بتقديم عروض (يسمونها «بحوثا» وليتها كانت كذلك!) ويبقون متفرجين أو معلقين على كلام الطالب! فما تقولون في الأستاذ الجامعي الذي لا يلقي دروسه المقررة عليه طيلة السنة ويكتفي بتكليف الطلبة بتقديمها بدلا منه!؟ ويتقاضى أجره كاملا ويريد الاستفادة من بعض المخصصات المالية الأخرى (على قلتها)، وكان بإمكانهم فعل ما هو أكثر؛ من ذلك استثمار المخابر وإمكاناتها المادية والبشرية في تطوير البحث والنشر وحسن تأطير طلبة الدكتوراه…الخ، وبعضهم قضى في الجامعة عقودا بعد مناقشة الدكتوراه والترقية العليا ولم ينشر كتابا أو بحثا جادّا يضيف شيئا إلى التخصص، مع أنهم بلغوا أعلى درجة علمية في التصنيف الجامعي.
وبعض الأساتذة الجادّين يعانون التهميش من زملائهم ومن المسؤولين الذين يعتبرونهم منافسين يخشون جديتهم ومستواهم (قاعدة العملة الرديئة والعملة الجيدة في الاقتصاد)، إذن يتحمل بعض المسؤولين الإداريين وبعض الأساتذة المسؤولية جزئيا بتهميشهم للكفاءات لاعتبارات إيديولوجية أو جهوية أو شخصية.
ومن واقعنا الذي يجب أن يُذكر هنا- وهي حالة خاصة بالنظرة إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية على الخصوص- ما قد نسمّيه: «فتنة العلموية» أو «الإيديولوجيا العلموية التقنوية» فبعض الزملاء في الفروع العلمية كالعلوم الدقيقة والتقنية وعلوم المادة وبعض مسؤولي الجامعة… جنت عليهم «إيديولوجيتهم العلموية» فأصابهم شيءٌ من الغرور والتحيّز المعرفي وقدْر كبير من الاعتداد بتخصصهم وحده إلى درجة احتقار العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعيات واللغات والآداب والفنون، وأهلها والمشتغلين بها… ومنهم من لا يعترف بمكانتها وشرعيتها، بل يرونها مضيعة للوقت والجهد، ومنهم من يرى هذه العلوم أشياء هزيلة، ومنهم من لا يراها أصلا ولا المشتغلين بها!
فوقع من ذلك عزوفٌ اجتماعيٌّ عام عن هذه الميادين المعرفية ومناهجها ونظرياتها إزراء بها واحتقارا لها، وقد استوى في ذلك «العوام» و»السطحيون» و «النخب المنتفشة» وتبعهم طلبتهم ومريدوهم في الأعمّ الأغلب، وساد في مجتمعنا المفتون صنفٌ من «الشعبوية والتحيّز المعرفي» -إذا صح الوصف- وهي شعبوية متحيزة لبعض المعارف والفروع الدراسية دون تحقيق علمي ولا تصور صحيح.
نريد مزيدا من الضوء على المسألة هاهنا؟ .
nn نشير هنا بهذه السانحة إلى أن من يتصور هذا التصور إنما يعبّر في الواقع عن جهل في تصور طبيعة النهضة وقصور في بناء الدولة القوية العادلة، وقصور في فهم مهام صناعة العقول والأفكار، وجهل بدور الفنون والمعارف الأدبية عامة في تهذيب الطبائع وصقل الشخصية المتوازنة وتفتح الوعي وغرس القيم العامة الدينية والوطنية والإنسانية، ودور علوم الدين واللغة والتاريخ في التوجيه الفكري وتعزيز الانتماء الحضاري وتعميقه، ووعي سنن الله في الطبيعة والإنسان والمجتمع، ودور العلوم الإنسانية في تشكيل الوعي العلمي بالظاهرات الاجتماعية وفي الوعي بسنن التاريخ ومقتضيات البناء الحضاري… والعنايةُ بهذه الجوانب الحيوية لم تخلُ منها أمة ولا حضارة في التاريخ لا في الماضي ولا في الحاضر، والأمم الضاربة بنصيب من الحضارة والحكومات التي تعرف نفسها وتصون عناصر شخصيتها وهويتها وتحترم مجتمعاتها تعتني بهذه المجالات المعرفية ولا تزدريها… وقد كتب في هذا الموضوع بعض الباحثين عدة مرات فلا أطيل فيه.
ومن أسباب الانحدارـ أيضا ـ تمكّينُ الوصايةِ الطلبةَ -بقوانين سنّتها- من الحصول على الحق في حضور الاختبارات النظرية حتى ولو لم يحضروا أي حصة نظرية أو تطبيقية، ومن هؤلاء الطلبة من لا يعرفون أستاذ المادة ولم يروه لأنهم لا يحضرون الحصص أصلا، فشجع هذا الإجراء «القانوني» الطلبة الكسالى والمتهاونين والمعطوبين فكريا على ما يشبه حالة التمرد على الدروس وعدم حضورها بدعوى الاستناد إلى القانون، لكنه قانون يصنع الرداءة في قلب الجامعة.
في تقديرك هل هناك مسؤولية للوصاية في كل هذا ؟
nn نعم ..هذا مؤكد إن هذا الخيار الإداري السياسي المحض كما يصفه بعض الزملاء، فبعض الأساتذة يصف نظام «الأل. أم. دي LMD» بأنه من أسوأ الخيارات في تاريخ الجزائر، وهذا وصفٌ صحيح وحق لأن هذا النظام عبارة عن منتوج ميتا-معرفي: أعني لا علاقة له بالتحصيل والمعرفة والتكوين العلمي ورفع مستوى المتخرجين معرفيا ومنهجيا، وهذا لا خلاف فيه، فمستوى هؤلاء يزداد انهيارا عاما بعد عام، واستفحل الجهل والرداءة في بحوث التخرج ومنها رسائل الدكتوراه وغيرها، فامتلأت الجامعة بأعداد من الدكاترة وأساتذة التعليم العالي… إلا أنه لا مصداقية علمية لهذه الأعداد ولا أثر لها في واقع التدريس والبحث، بل مما لمسناه في واقعنا أن بعض هؤلاء الدكاترة المتخرجين الجدد لا يحسنون كتابة فقرة صحيحة سليمة من الأخطاء… فقد رُبِط مصيرُ الجامعة بأغراض ومقاصد أخرى: سياسية شعبوية خادمة لأهداف الحكم القائم ولرهاناته الفئوية ولا تستهدف الأفق الوطني العام الأوسع لبناء الدولة والمجتمع وخدمة الأمة، ويبدو أنها ظاهرة مشتركة بين الحكومات العربية.
ومما يدل على استهانة السلطة بالعلم وأهله -وعدم إيلائهم بعض ما يستحقون من تقدير واعتبار ولو رمزي- غياب الوصاية عن جنازة أحد أعمدة العلم والجامعة في الجزائر -البروفيسور مختار نويوات رحمه الله- فلم يحضر وداعَه الأخيرَ أيُّ أحد من مسؤولي الوصاية… فكيف تكون السلطة الوصية على الجامعة خادمة للجامعة وهي بهذا القدْر من الغفلة! أو من الاستهانة والنكران!؟ والمقبرة التي دفن فيها في برج بوعريريج لا تبعد عن مقر الوزارة سوى بمسافة قريبة (180 أو 190 كلم)، وتُعتبر هذه المسافة لا شيء بالنظر إلى الإمكانات وبالقياس إلى مساحة الجزائر الشاسعة.
إن كان لديك ما تريد إضافته لتنوير القرّاء فلتتفضل …؟
nn يضاف إلى ذلك قرار سياسي إداري شبيه به، هو فتح الجامعات وتفريخ المراكز الجامعية والمدارس العليا في كل المدن -ولو كانت مدنا صغيرة- فنتج عن هذا حالة من الشعبوية والتمييع والابتذال، وبدلا من أن يكون هذا الإجراء عقلانيا مدروسا حسب الحاجة الوطنية والمصلحة الراجحة صار مطلبا شعبويا تتباهى به السلطات وتفرضه رغبات سياسية فئوية، حتى ظن كل أهل قرية أو قبيلة أن من أولوياتهم وحقوقهم الأساسية أن تفتح جامعة في منطقتهم، والسلطات تستجيب لهذه المطالب الشعبوية لأنها تعتدّ بالكثرة والمظاهر ولا تنظر في حالة المراكز الجامعية وافتقارها إلى شروط العمل البيداغوجي الضرورية… ومن أسوإ القرارات المتخذة -كما ذكر لنا كثيرٌ من أهل الاختصاص- فتح فرع العلوم الطبية في كثير من المناطق دون توفير أدنى شروط التكوين الضرورية (مثل المستشفى الجامعي والأطباء بدرجة أستاذ)… بهذه السياسة بات من الطبيعي أن تفقد الجامعة منزلتها الاعتبارية في المجتمع وأن تنزل قيمتها في المخيال الاجتماعي.
– ومنها الصراع والتنافس غير المعقول بين بعض الأساتذة على المناصب والامتيازات المادية، الذين يعتبرون الجامعة مطية إلى المجد الشخصي لا مكسبا علميا حضاريا ومركز إشعاع لصناعة العقل العلمي والنهضة والسلوك الحضاري القويم… ونسوا البحث العلمي وتخلوا عنه وعن خدمته والتضحية من أجله ولم يقدموا الأسوة الحسنة لطلبته ولم يحببوهم فيه… كل ذلك ترك آثارا سلبية ملموسة على صعيد التكوين ومستوى التحصيل ونوعية البحث العلمي.
فكيف نريد في ظل الواقع المختل -الذي وصل إلى ما يشبه الانهيار في المستوى العام في اللغة خصوصا- أن يكون لدينا إنتاج أكاديمي محترم وأن يتطور البحث العلمي وينهض ويقف على قدميه…؟ والخلل ليس في الأفراد بالضرورة بل في الجو الثقافي والبيئة العامة، فالفرد الجزائري يمكن أن ينتج ويبدع إذا وجد الجو المناسب والمنظومة السياسية والاجتماعية الملائمة المشجعة، والدليل على ذلك أن الأساتذة الذين تخرجوا في الجامعة الجزائرية وهاجروا خارج الوطن إلى الجامعات الغربية والشرقية أبدعوا في البحث العلمي وفي التدريس في كل التخصصات وانتزعوا الاحترام والاعتراف…
وقد أسجّل بالمناسبة أن هناك تحسنا -وإن طفيفا – في بعض الجوانب (كالتسيير مثلا) في بعض الجامعات لا في كلها، وتحسنا (في الهياكل والبنايات…الخ)، وتحسنا في بعض البحوث اللغوية المنجزة الراقية لكنها قليلة، وأما المستوى العام- في العربية وعلومها خصوصا- فمستمر في الانحدار عاما بعد عام
|
اهتماماتك واسعة ولكن اهتمامك المركزي في اللسانيات ..هل يمكن أن تعطينا فكرة دقيقة عن «اللسانيات» أهميتها، وظائفها، فائدتها في الجامعة تدريسا وأداء؟
nn اللسانيات/أو علم اللغة/ في أشهر تعريف لها هي: «الدراسة العلمية للغات الطبيعية» واللغات الطبيعية هي اللغات البشرية المعروفة الموجودة حاليا أو المنقرضة التي يجسدها الصوت البشري الطبيعي الحامل للدلالة، واللغة الطبيعية ما هي إلا «أصوات حاملة لدلالات، لتحقيق مقاصد أو حاجات تواصلية» في التخاطب اليومي العادي، بخلاف اللغات غير الطبيعية التي اصطنعها الإنسان كعلامات قانون المرور وغيرها، فهذه يدرسها علم آخر، هو «علم العلامات/السيميائية».
وبما أن هذا هو معنى «اللسانيات» فإن «وظيفتها» العامة وأهدافها متضمّنة في تعريفها السابق وهي تحاول أن تتحقق بها واقعا ملموسا عبر أجيالها المتعاقبة في مراحلها المختلفة:
1- فهي «دراسة علمية» أي تحاول أن تتجرد كل التجرد وتكون موضوعية وحيادية وتتخلص من أي ميل ذاتي أو عنصري أو قومي أو أي شكل من أشكال التحيز، أو إدراج اعتبارات ميتا-معرفية في الدراسة…الخ
2- وهي تتخذ لهذا إجراءات منهجية محددة، ما فتئت تتضح وتنضج بشكل أوضح وأظهر -لا سيما عند علماء اللسانيات الغربيين- منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
3- فطبيعة اللسانيات أنها متدرجة حسب مراحل تطور هذا العلم ونظرياته المتعاقبة؛ فكانت في بداية أمرها «وصفية تصنيفية» للظواهر اللغوية في النصف الأول من القرن العشرين مع البنيويين الذين ركزوا على البنية (أو النظام اللغوي ومعطياته الداخلية)، ثم صارت «تحليلية تفسيرية» مع التوليديين (تشومسكي وتلامذته) تركّز على معطى فطري (هو الكفاءة اللغوية/أو القدرة compétence) ومقرّها الدماغ كما هو معروف، فركّز تشومسكي تركيزا كبيرا على هذا المعطى ونظّر له وتعمقه بترسانة مفاهيمية معتبرة…
4-ثم برزت أجيال أخرى من العلم منها: «اللسانيات التطبيقية» فركزت على تعليمية اللغات في بادئ أمرها ثم توسعت، ومنها: «التداولية» التي تركز على الاستعمال والفعل والخطاب المنجز فعليا والتخاطب والإستراتيجيات التخاطبية ومنها «النظريات الوظيفية» التقليدية والمعاصرة…
ويتصل بذلك استثمار هذا العلم وتطوراته المتعاقبة في حقول قريبة، منها «لسانيات النص» و»تحليل الخطاب»، وهذان الفرعان مندرجان ضمن تطبيق العلم واستثمار منجزاته والإفادة منها…
بهذا الملخص السريع المقتضب يتضح جليا أن وظيفة «اللسانيات النظرية/العامة» هي دراسة اللغات وخصائصها المبنوية والمعنوية والاستعمالية وبناء جهاز نظري بناء عقليا تندرج فيه مفاهيمها النظرية وآلياتها الإجرائية… واللغة المدروسة المدروسة هي اللغة الطبيعية كما ذكرنا وهي متمفصلة في مفاصل ومستويات عديدة: البنية والكفاءة والاستعمال…وغيرها» هذا ملخص مهامها العلمية، وقد تستعين في سبيل ذلك بأدوات رياضياتية أو منطقية أو منجزات نفسية أو فلسفية أو معرفية عامة… بالمعطيات القديمة أو المستجدّة.
أما «اللسانيات التطبيقية» فجيلٌ مستحدث من علوم اللغة أساسها استثمار معطيات «اللسانيات النظرية» ومفاهيمها ودمجها بعناصر غير لغوية وتوظيفها بطريقة براغماتية (انتقائية) في مجالات محاقلة: مثل تعليميات اللغة didactics، والترجمة، وصناعة المعاجم، ولسانيات الحاسوب (معالجة اللغات حاسوبيا)…
هذا إجابة مختصرة عن سؤال التعريف باللسانيات بما يتيحه الفضاء وبطبيعة الجريدة والقارئ غير المتخصص… وهذا العلم يطمح أن يكون «علما كليا» أي ليس خاصا بلغة خاصة محددة، بل يريد أن تنتظم معطياته الغزيرة ودقته الإجرائية وتنطبق على جميع اللغات العالمية… أو أكبر قدْر منها، فهو في تنامٍ وتطور مستمر.
الدرس اللساني وعموم ما يتعلق باللسانيات فيه الكثير من «الخطل» فيما يرى بعض الدارسين؛ خاصة من حيث تصريف علوم اللسانيات في هدم العربية والمساس بها، من خلال استخدام المناهج الحداثية المتطرّفة إن صح التعبير والتي تصل إلى حد «المساس «بالقرآن الكريم والسنة النبيوية وتطالب بإعادة قراءة القرآن من منظور لساني حداثي. نرجو اعطاءنا فكرة دقيقة عن الموضوع؟
nn اللسانيات الحديثة علمٌ غربيٌ المنشأ كما هو معلوم، وهو علم حينما نشأ أعاد النظر في منهج دراسة الظاهرة اللغوية وأحدث ما يشبه القطيعة المعرفية مع ما سبقه فالإفادة من الخبرة اللسانية الحديثة وما أسسته من مقولات ومفاهيم ممكنة وقائمة، يستوي في ذلك ما كان موروثا من عصور قديمة وما استحدثته اللسانيات استحداثا… فإن ما أنجزته اللسانيات في عصرنا أعاد تنظيم التفكير في اللغة ومناهج دراستها وتدريسها ويطمح إلى أن يكون علما كليا ينتظم أكبر عدد من اللغات، مع ضرورة التفريق بين عالميات اللسانيات الحديثة ومحلياتها… والحداثةُ اللسانيةُ ليست كل مقولاتها مناسبة لتراثنا ولا كلها منافية له، وإنما هي نسبية، ومن يدرسها ويتعمّقها على علم وبصيرة متسلحا بالأدوات والشروط والآليات المنهجية هو من يميز مواطن ملاءمتها أو منافرتها، ويميز محلياتها الخاصة من عالمياتها الكونية العامة …الخ، ومما يندرج في نطاق نفع العربية -وخدمة التراث بطرائق جديدة- هذه الأجيال الجديدة من العلم كاللسانيات التطبيقية وتعليميات اللغات والتداولية والحجاج وغيرها…
وعليه ليست كلها خطأ أو خطلا ، ولا كفرا ولا فسوقا كما تصوره بعض الأقلام الإيديولوجية المتحمسة غير المطّلعة، وليست اللسانيات كلها نسقا واحدا منسجما فمنها ما يصلح لدراسة العربية وينفعها، وقد طُبّق عليها فعلا وأفاد وقدّم الجديد، ومن مقولاتها ما طُبق على القرآن الكريم والمدوّنة التفسيرية والمدوّنة البلاغية العربية وأتى بجديد… وقد أنجزت رسائل دكتوراه كثيرة ذات قيمة علمية معتبرة فأتت بالجديد، بل أبانت بعض الأبحاث التي اعتمدت بعض مقولات اللسانيات أن التراث اللساني العربي كان سباقا إلى بعض الكشوف اللغوية وأنه يمكن أن ينفع اللسانيات المعاصرة ويقوّم نتائجها.