فضـل الصبــر وجـــزاؤه
د. يوسف جمعة سلامة*/
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
إِنَّ الصّبر قيمة عظيمة وَصِفَةٌ كريمة من صِفات الرُّسُل الكرام – عليهم الصَّلاة والسَّلام -، وهو عنوان الإيمان الصّادق وبرهانه، بل هو نصف الإيمان؛ فالإيمان نصفه شكر ٌعلى النّعماء، ونصفه صبر ٌ على البأساء والضّرَّاء، فالصّبر ضِياء للإنسان في دُنياه وفي قبره وفي آخرته، وبالصّبر يفتح الله على عباده أبواب السَّعادة والسُّرور.
ومن المعلوم أَنَّ فضيلة الصّبر تدلّ على تَحَلِّي صاحبها بضبط النّفس وثبات القلب ورباطة الجَأْش، وصدق الإيمان وكمال الرّجولة؛ لأنّ أثقال الحياة وتكاليفها وأحداثها لا يُطِيقها الضّعاف، وإنَّما يُطيقها أصحاب النّفوس القويّة؛ لذلك فإنَّ جزاء الصّبر عطاء من الله بغير حساب في الآخرة، وهو في الدّنيا ضِياء في الأحداث، وثبات يُكَفِّر الله سبحانه وتعالى به الذنوب، ويفتح باب الفرج القريب.
أليس الصّبر سلاح الطّالب حتّى ينجح، وعَوْن التّاجر حتى يربح، وعُدّة المُزارع والصّانع حتّى تنمو ثروتهما، ومُلهم الباحث والعالم ليبلغ غايته؟ نعم، إنّه الزّاد لكلّ أبناء الأُمّة، حتى يكونوا اللّبنات القويّة التي تشدّ من أَزْرِ أُمّتهم وتُحَقِّق لها الأمجاد وتُقيم صُروح العِزَّة والكمال.
جزاء الصابرين في القرآن والسُّنّة
لقد مدح الله سبحانه وتعالى عباده الصّابرين، وجاءت آيات كريمة عديدة في القرآن الكريم تُبَيِّن ذلك، حيث أثنى اللهُ سبحانه وتعالى عليهم كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، وأوجبَ سبحانه وتعالى للصابرين مَحَبَّتَه، فقال سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ يُحِبّ الصَّابِرِينَ}، وأخبر سبحانه وتعالى أنّ الصبر خيرٌ لأهله، فقال عزَّ وجلَّ: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ}، ووعد الله سبحانه وتعالى الصّابرين بعظيم الأجرِ فقال عزَّ وجلَّ: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
كما مدح رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – الصّابرين مَدْحاً عظيماً، وبشَّرهم بحُسْنِ العاقبة في الدّنيا والآخرة، وقد جاءت أحاديث كثيرة من السُّنَّة النّبوية تُبيّن ذلك ، حيث أخبر النبيُّ – صلّى الله عليه وسلّم- أَنَّ الصّبر خَيْرُ ما يُعْطَاهُ العبدُ، كما جاء في قوله – صلّى الله عليه وسلّم-: (…وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ)، وبيّن – صلّى الله عليه وسلّم- أَنَّ الصّبر كفارةٌ للذنوب، كما جاء في قوله – صلّى الله عليه وسلّم-: (مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ -حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا- إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ)، وأكّد رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم- على مَحَبَّة الله سبحانه وتعالى للصّابرين من عباده، كما جاء في قوله – صلّى الله عليه وسلّم –: (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فَمَنْ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ، وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ)، وأعلمنا رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم –أنّ أمرَ المؤمن دائماً خيرٌ في السّراء والضّراء، كما جاء في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ).
وعند دراستنا للآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النّبوية الشريفة السابقة فإننا نجدُ أَنَّ للصّابرين أجراً عظيماً وجزاءً كريماً من ربّ العالمين؛ لذا يجب علينا أَنْ نتحلّى بهذه الصّفة الكريمة.
الصبر عند الضراء
إِنَّ أثبتَ الناس في البلاء وأكثرهم صبراً أفضلُهم عند الله منزلة وأَجَلُّهم قَدْراً، وأشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، كما جاء في الحديث عن سعد بن أبي وقاص –رضي الله عنه- (قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فإِنْ كَانَ دِينُه صُلْبًا اشْتَدَّ بلاؤُه، وإِنْ كَانَ في دِينِه رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِه، فَمَا يبرَحُ البَلاءُ بالعَبْدِ حتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيْئَةٌ)، وما يبتلي الله سبحانه وتعالى عبده بشيء إلاّ ليطهِّره من الذنوب، أو يرفع قدره و يُعظم له أجراً، وما وقع الصّابر في مكروه إلاّ وجعل الله عزَّ وجلَّ له من كلِّ همٍّ فرجاً، ومن كلِّ ضيق مخرجاً، وَمَنْ ضاق بالقدر ذرعاً، وسخط قضاء الله سبحانه وتعالى، فاته الأجر وكان عاقبة أمره خُسْراً، والله عزَّ وجلَّ خاطب المؤمنين بقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، وقوله سبحانه وتعالى أيضاً: (ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}.
الصبر عند الصدمة الأولى
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: (مَرَّ النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: «اتَّقِي اللَّهَ، وَاصْبرِي»، قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَتَت النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى»).
أخي القارئ: لا تأسف على مُصيبة أَلَمَّت بك، مِنْ فَقْدِ مالٍ، أو موت عزيز ، أو مرض مُفاجئ، أو كساد تجارة…الخ، فإنَّ الذي قدّرها عنده جنةٌ وثوابٌ وَعِوَضٌ وأجرٌ عظيمٌ، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – قال : (مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ -حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا -إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِنْ خَطَايَاهُ).
إِنّ المُصابين المُبْتلين الصّابرين هم أولياء الله سبحانه وتعالى، الذين يُنَوّه بهم في الفردوس الأعلى: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}، وَحُقَّ علينا أَنْ ننظر في عِوَض المُصيبة وثوابها وخلفها الخيّر{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
صبر عروة بن الزبير – رحمه الله –
عُروة بن الزّبير بن العوّام -رحمه الله-، أحد الفقهاء السّبعة بالمدينة المُنوّرة، وكان عالماً بالدين صالحاً كريماً، والده الزُّبَير بن العَوَّام – رضي الله عنه – حواريّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – وأحد العشرة المُبشرين بالجنة، وأُمُّه أسماء بنت أبي بكر الصديق- رضي الله عنهما- المُلَقَّبَة بذات النِّطَاقين، وقد ذكرت كُتب السّيرة أنّ ساق عروة بن الزّبير-رحمه الله- قد بُترت، كما تُوفِّي أَحَدُ أولاده ، فلمّا أُدْخِلَ على أهله، بادرهم قائلاً: (لا يَهُولَنَّكُمْ ما تَرَوْنَ …، فلقد وهبني اللهُ عز َّوجلَّ أربعةً من البنين، ثُمَّ أخذ منهم واحداً وأبقى لي ثلاثةً …، فَلَهُ الحمدُ، وأعطاني أربعةً من الأطراف، ثُمَّ أخذَ منها واحداً وأبقى لي ثلاثةً…، فله الحمدُ ، وَأَيْمُ اللهِ «أحلف بالله»، لَئِنْ أخذَ اللهُ مِنِّي قليلاً ، فلقد أبقى لي كثيراً …، وَلَئِنِ ابتلاني مَرَّةً ، فَلَطَالَمَا عَافَانِي مَرَّاتٍ).
لقد ضرب عُروة بن الزّبير بن العوّام -رحمه الله- مثالاً للمؤمن الحقيقي الذي لم يُسيطر عليه الهمّ والغمّ والحزن، بل صبر واحتسب ورضي بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره، فاستحقَّ بفضل الله الأجر العظيم يوم القيامة إن شاء الله، جزاءً وفاقاً على صبره وإيمانه.
إِنَّ فضيلة الصّبر من أعظم الفضائل، ومنزلة الصّابرين عند الله من أشرف المنازل، وأسعد النّاس مَنْ رُزِق لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وجسداً على البلاء صابراً، وذلك هو المؤمن الكامل، وقد تكون المُصيبة نعمة، كما قال أحد السّلف: رُبَّ مِنْحَةٍ ظاهرها مِحْنة، فالله سبحانه وتعالى يبتلي عباده المؤمنين ليرفع من درجاتهم في الدنيا والآخرة ، وليردَّهم إليه سبحانه وتعالى ، ورحم الله القائل:
قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بالبلوى وإن عَظُمَتْ ويبتلي اللهُ بعضَ القومِ بالنِّعَمِ
جعلنا الله وإيّاكم من عباده الصّابرين وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com