ملف

مسألة الوطنية في فكر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي

بن حامد سعدية */

يعد الشيخ محمد البشير الإبراهيمي واحدا من علماء ورواد الجزائر الذين حفظوا لها لغتها ودينها من دعاة التنصير والموالين للاستعمار بشتى أشكالهم وأنواعهم حيث دافع عن الكيان الجزائري، وعن عروبته وإسلاميته، رافضا للتجنيس والإدماج، حيث قال الشيخ الإبراهيمي: “الجزائر ليست فرنسية ولن تكون فرنسية كلمات قالها أولنا ويقولها آخرنا ومات عليها سلفنا، وسيلقى الله عليها خلفنا”. ومما لاشك فيه أن الشيخ الإبراهيمي دخل معركته ضد الاستعمار بإيمان عظيم وصادق، جعله يثبت فيها بثبوت الجبال الرواسي، وواجه الاستعمار الفرنسي بدون كلل ولا ملل، بهدف تحرير العباد والبلاد منه حيث عمل على إثارة النخوة الوطنية لدى الجزائريين عن طريق بناء المدارس والمساجد، وتشكيل النوادي والجمعيات وتنشيط الحركة الصحفية، كل ذلك بهدف توعية وتربية أبناء الشعب الجزائري على الدين واللغة والوطنية الصادقة لإفشال المخططات الاستعمارية، وراهن على هذه الوسائل لبعث الروح الوطنية الإسلامية للجزائريين وقد أثمرت هذه المساعي في تكوين أجيال جزائرية مسلحة بالعلم والفضيلة والوطنية الصادقة، وكانت عماد النهضة الوطنية الجزائرية.

مقدمة
منذ قرون والعالم العربي والإسلامي عموما، والجزائر خصوصا محط أطماع الكثير من الدول الاستعمارية المتربصة به، والتي استهدفت دائما تفكيكه ، واستنزاف خيراته وثرواته، حيث نجحت أغلب المحاولات الاستعمارية المنظمة في أن تفرض هيمنتها وتبسط نفوذها على أقطار الوطن العربي والإسلامي، إلا أن إرادة التحرر وعزيمة أبنائها كانت دائما تنتصر على أطماع الغزاة المستعمرين مهما طال الزمن ، فكان الله يقيض لهذه الأمة العربية والإسلامية روادا من بين أبنائها يبعثون فيها روح الجهاد ، ويشعلون فيها إرادة المقاومة حتى تنتصر على أعدائها ، وتستعيد حريتها وكرامتها المسلوبتين. ويعد الشيخ محمد البشير الإبراهيمي واحدا من زعماء ورواد الجزائر، الذين حفظوا لها لغتها ودينها ووطنها، حيث عمل على فضح أعمال الاستعمار الفرنسي، والكشف عن دسائسه ونواياه الخبيثة من خلال محاضراته ودروسه ومقالاته التي كان ينشرها في صحف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وقد ظل الشيخ الإبراهيمي مقاوما للاستعمار الفرنسي في جميع مواقفه، حيث دافع عن الكيان الجزائري ، وعن عروبته وإسلاميته، رافضا للتجنيس والإدماج ، ومما لاشك فيه أن الشيخ الإبراهيمي قد دخل معركته ضد الاستعمار بإيمان عظيم وصادق، وواجه الاستعمار الفرنسي بدون ملل ولا كلل بهدف تحرير العباد والبلاد منه، ومن هنا فالتساؤل المطروح هو: ما هي الوطنية التي يدعو إليها الشيخ الإبراهيمي؟ وما هي الوسائل التي اعتمدها لإذكاء النخوة الوطنية؟ وهل استطاع كشف حقيقة الاستعمار الفرنسي ونواياه؟ وهل كان له دور في إيقاظ الوعي الوطني لدى الجزائريين؟ ويكمن هدف هذه الدراسة في قراءة لفكر أحد رواد الحركة الإصلاحية في الجزائر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي وموقفه الرافض للوجود الفرنسي، من خلال تصديه للسياسة الاستعمارية الفرنسية متعددة الأبعاد، بالرغم من المضايقات والضغوطات الممارسة عليه، وذلك عملا بعدم الذل والاستكانة والاستسلام للاستعمار الفرنسي بالصدق والإيمان الثابت بالقضية الوطنية انطلاقا من تحرير عقول الجزائريين وصولا إلى تحرير أبدانهم ونيل الحرية والاستقلال، معتمدة في ذلك على المنهج الوصفي التحليلي وذلك وفقا لما تقتضيه طبيعة الدراسة .

1. التعريف بمسألة الوطنية:
إن فكرة الوطنية كانت عبر العصور التاريخية مجرد فكرة بسيطة تتعلق بحب طبيعة الأرض بجبالها وسهولها وأنهارها بعيدا عن الإطار السياسي، أما في العصر الحديث تطور مفهوم الوطنية من خلال الصيحات المنادية بشعار “الوطن”، والتي تطرح فكرة الوطنية في البلاد العربية، إذ نجد الشيخ محمد عبده يعرف الوطنية بقوله: “إنما الوطنية أن نخلص المحبة للوطن إخلاصا ينبعث عنه السعي بكامل الجهد في التماس ما يعود عليه بالتقدم والنجاح وليس الأثر ، إلى ما أفاد فائدة حقيقية توجب اعتدالا في التصورات أو حسنا من الأخلاق والعادات أو صحته في الأبدان أو عزة للوطن، أو ارتفاعا لمقامه فذلك ما يدعوه العقلاء وطنية ، يتضح من خلال تعريفه للوطنية فهي تعبير قومي يعني حب الشخص وإخلاصه لوطنه، ويشمل ذلك الانتماء إلى الأرض والناس والعادات والتقاليد والفخر بالتاريخ في خدمة الوطن، ويوحي هذا المصطلح بالشعور بالتوحد.

.2 ترجمة لشخصية محمد البشير الإبراهيمي :
هو محمد البشير بن محمد السعدي بن عمر بن محمد السعدي بن عبد الله بن الإبراهيمي ولد13 جوان 1889م بقرية رأس الواد بناحية مدينة سطيف. نشأ وترعرع بين أحضان عائلة عريقة النسب ، الأمر الذي أثر على تكوين شخصيته وفكره، حيث حفظ القرآن الكريم في سن الثامنة من عمره وحفظ أمهات الكتب العربية ودواوين فحول المشارقة، وهذا ما يدل على قدرات الشيخ الإبراهيمي الفكرية والذهنية، وحتى الاستعدادات الذاتية التي كان يتمتع بها مقارنة بأقرانه في فترة الشباب، رحل إلى المشرق العربي، أين تعرف هناك على رفيق دربه الشيخ عبد الحميد بن باديس سنة 1913م وتوطدت العلاقة بينهما تباحثهما في وضع الجزائر آنذاك، وتصورهما لمشاريع مستقبلية في الجزائر لمواجهة الاستعمار الفرنسي، وهذا ماجنا ثمارهما فيما بعد بموجب تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بتاريخ 05 ماي 1931م، والتي كان نائبا لرئيسها إلى غاية 1940م، ليصبح بعد ذلك رئيسا لها، حيث كان له دور فعال في القضية الوطنية والثورة التحريرية المباركة. حيث وظف كل ما في وسعه لخدمتها، بل نذر نفسه من الأيام الأولى سفيرا لها، فلم يترك وسيلة يعتقد أنها تخدم القضية الوطنية إلا وأتاها، فراح ينتقل بين مختلف الأقطار العربية والإسلامية يستنهض الهمم ويدعو إلى تقديم الدعم المادي والمعنوي للثورة توفي يوم 19 ماي 1965 بحيدرة بالجزائر العاصمة، إذ كرس حياته للإصلاح وتكوين الرجال لخدمة الوطن .

3 المشروع النهضوي التحرري الذي يحمله الشيخ الإبراهيمي:
فالمتتبع لفكر الشيخ الإبراهيمي يجده ينصب على ثلاثة محاور الإسلام العروبة والوطن هذه المحاور سخر لها قلمه وفكره وروحه وطول عمره قصد تجسيد مشروعه النهضوي التحرري لتخليص الجزائر وحتى الأقطار المغاربية وحتى العربية من ويلات الاستعمار الأوروبي، وتعسفاته، ومحاولاته الرامية لطمس شخصية الأمة الجزائرية الوطنية والقومية بكل ملامحها، فما كان منه سوى البحث في الواقع لاستكشافه ودراسته وتقديم الطرق والوسائل للتصدي للاستعمار من جهة، ولاستعادة الشخصية الوطنية من خلال المحافظة على هويتها الوطنية من جهة أخرى، لهذا استهل الشيخ الإبراهيمي حياته لتتبع أخبار الأجيال التي سبقته، والتي فشلت في التصدي للاستعمار الصليبي في المغرب العربي، وفي المشرق الإسلامي، مما سمح للاستعمار اجتياز حدود العالم الإسلامي شرقا وغربا في آسيا وفي إفريقيا، كما ابتلعوا الأندلس وصقلية وغيرها.
وقد شهد بالإضافة إلى ذلك الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) في شبابه، ومدى انعكاساتها على الشعوب المستعمرة مثل الجزائر ودول المغرب العربي والبلاد العربية، وسرعان ما اندلعت الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، التي عايشها الشيخ الإبراهيمي بكل مرارة وعسر، وكان الشيخ الإبراهيمي يتميز بفكر ناضج وعلم فياض وذا بصيرة عالية وعقل متفتح، فنظر إلى هذه السياسة الاستعمارية كالخبير المتمرس فثار لوطنيته من خلال كشف وفضح نوايا فرنسا الاستعمارية أمام الشعب الجزائري وما يفعل به، والتي استغلته كخزان بشري في الحرب العالمية الأولى والثانية، حيث حارب إلى جانبها، ونصرها ودافع عنها، ولكنها دائما كانت تخذله وتتنكر لوعودها، على حد قول الإبراهيمي “أمة كالأمم … وقدمت من ثمن النصر مئات الألوف من أبنائها قاتلوا لغير غاية، وقتلوا من غير شرف …..”.
ثم يخاطب الاستعمار مستنكرا مجازره في الثامن ماي 1945م، بقوله: “… أيشرفك أن يتقلب الجزائري من ميدان القتال إلى أهله بعد أن شاركك في النصر لا في الغنيمة … فيجد الأب قتيلا، والأم مجنونة من القرع، والدار مهدومة أو محروقة والغلة متلفة، والعرض منتهك، والمال نهبا مقسما، والصغار هائمين في العراء. حيث يعتبرها الإبراهيمي بمثابة المكافئة حيث يقول: “يوم ليس بالغريب عن رزنامة الاستعمار الفرنسي بهذا الوطن، فكم له من أيام مثله، ولكن الغريب فيه أن يجعل عن قصد- ختاما لكتاب الحرب، ممن أنهكتهم الحرب على من قاسمهم لإيوائها، وأعانهم على إحراز النصر فيها”، هذا دليل على الأثر العميق الذي تركته هذه المجازر في نفسية الإبراهيمي، والتي اعتبرها جرائم في حق الإنسانية، وهي صورة أخرى صريحة لابتزاز وطنية الجزائريين.
فعلى إثر هذه الجرائم الاستعمارية عمل الإبراهيمي على إثارة النخوة الوطنية لدى الجزائريين بتأسيسه رفقة العلماء والمصلحين جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1349هـ/1931م، كرد فعل على المخططات الاستعمارية المشينة لوطنية الجزائريين على إثر الاحتفالات الفرنسية المئوية لاحتلال الجزائر 1930م، والتي سخرت لها فرنسا إمكانيات ضخمة وأموالا طائلة.

4 من صور الابتزاز للوطنية الجزائرية :
ومن صور الابتزاز للوطنية الجزائرية محاولة فرنسا تشويه وتزييف تاريخ الجزائر، وإدعائها بأن الجزائر فرنسية من خلال الطرح الذي تقدم به الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي “موريس توريز” بقوله: “إن الجزائر ليست وطنا موجودا وإنما هي وطن يتكون” غير أنه لم يكتف ساسة فرنسا بالتطاول على الشخصية الوطنية الجزائرية بجميع مكوناتها، ولاسيما من خلال ما ذهب إليه “شارل ديغول” بقوله: “أن الجزائر لم تكن أمة ولا دولة، ولا حتى شعبا في تاريخها؟ .
ومن خلال هذا الطرح المجحف في حق الشعب الجزائري، حيث تصدى لها العلماء وعلى رأسهم الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، لأن الدولة الجزائرية مرسومة الحدود، ذاتية الشخصية الوطنية.
وعرفت الجزائر أيضا في عهد الشيخ الإبراهيمي ظواهر أخرى كثيرة لا تقل خطرا على الاستعمار الفرنسي في الفتك بالوطنية، وإن تغير شكلها، واختلاف وسائلها فهي تشكل فئات متعددة منها ما يشكل داءا قاتلا يهدف إلى القضاء على الهوية الوطنية، ومنها من يعمل على تشويه الهوية الوطنية الجزائرية..
ومن هذه الفئات التي كانت تشكل نوعا ما خطرا على الهوية الوطنية، هم الفئة التي نالت حظا وفيرا من الثقافة الفرنسية – الفئة المتفرنسة والتي كان تساير الاستعمار، من خلال نظرته إلى هويتها الوطنية، وتستنكر وتسخر من تاريخها ولغتها ودينها، وهذا ما جاء على لسان المتفرنس “فرحات عباس” بقوله: “… سألت التاريخ والأحياء والأموات وزرت المقابر لم يكلمني أحد عن وطن اسمه الجزائر …” ، لهذا نجد الشيخ الإبراهيمي يعتبر هذه الفئة ضحية الإغراءات الفرنسية يجب إنقاذها، من خلال إحياء روح الشخصية الوطنية في نفوسهم، وتنويرهم ضد الإغراءات الاستعمارية.
أما الفئة الأخرى، فتتمثل في الطرقية المنكبة على المنكرات والبدع، والتي كانت توحي للجزائريين أن الاستعمار قضاء وقدر ولا مفر منه، ويجب الاستسلام له وعدم رفضه، لأن رفضه هو مروق وخروج من الدين ويعد هذا من صنيع فرنسا كاستعمار روحي مكمل للاستعمار المادي لزرع الهزيمة النفسية في الشخصية الجزائرية وكسر الروح الوطنية وشوكة العزة والجهاد في نفوس الجزائريين، ولإطالة عمر الاستعمار الفرنسي في الجزائر، لذلك كان الشيخ الإبراهيمي يؤمن بأن الدفاع على الوطنية يكون بالوقوف أمامها، وكبتح جماحها، وتحرير العقول والأبدان من عوائدها الشيطانية.

5. الوسائل التي اعتمدها الإبراهيمي لإذكاء النخوة الوطنية :
والجدير بالذكر، هو أن الشيخ الإبراهيمي راهن على عدة وسائل وأساليب قصد تجسيد مشروعه النهضوي للحفاظ على الشخصية الوطنية الجزائرية، وإذكاء النخوة الوطنية لدى الشعب الجزائري عن طريق بناء المدارس والمساجد وتشكيل النوادي والجمعيات، وتنشيط الحركة الصحفية، كل ذلك بهدف توعية وتربية أبناء الشعب الجزائري على الدين واللغة والوطنية الصادقة، لإفشال المخططات الاستعمارية، وتحرير العباد والبلاد من براثين الاستعمار.
نجد الشيخ الإبراهيمي يعتبر التعليم نوعا من الجهاد ويعتبر المعلمين مجاهدين يستحقون أجر الجهاد، لأن التعليم هو عدو الاستعمار الألد وهو أساس الوطنية (محمد الدين صابر، محمد البشير الإبراهيمي والدعوة القومية، (بشير تركي، ص117.)، والأداة الأضمن للمحافظة على الروح الوطنية الجزائرية التي كانوا يعتقدون بأنها مهددة بالابتلاع من قبل الثقافة والفكر الفرنسي، لهذا حرص الإبراهيمي على بناء المدارس والإكثار منها والإلحاح على المعلمين في وضع البرامج المناسبة، والقيام بمهمة التربية والتعليم على أحسن قيام ، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، وبناء الوطنية على قاعدة الإصلاح السلفي وللحفاظ على المقومات الشخصية للأمة الجزائرية من الطمس والتشويه والتزييف وغرس الروح الوطنية والفضائل السامية في هذا الجيل لتحرير بلاده وعباده من الاستعمار.
ولهذا اهتمت جمعية العلماء المسلمين بقيادة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بتشييد المساجد والنوادي الثقافية والاجتماعية والجمعيات من أجل هيكلة الفئات الشبابية وتنظيمهم في منظمات قومية كالجمعيات الرياضية والفنية والكشافة، بقصد ربطهم في شبكة محكمة من العلاقات الاجتماعية والدينية والوطنية، بهدف حماية الشباب من الانحراف الديني والفساد الخلقي، وتربيته تربية عربية إسلامية بعيدا عن تيار الفرنسة والتغريب والتبشير والإدماج، الذي كان يهدد الوطن الجزائري، واستغلال الشباب استغلالا ناجعا يعود عليهم وعلى الأمة والوطن بالنفع والفائدة.
وللإشارة إلى أن أهم دور قام به الشيخ الإبراهيمي هو إعادة إصداره جريدة البصائر عام 1947م، والإشراف عليها، حيث كان يعتبر صوتها صوت العرب ، وإحدى الألسنة الأربعة الصامتة لجمعية العلماء المسلمين.
وعليه نجد أن الشيخ الإبراهيمي راهن على هذه الوسائل من المساجد والمدارس والنوادي والجمعيات والصحف لبعث الروح الوطنية الإسلامية للجزائريين وقد أثمرت هذه المساعي في تكوين أجيال جزائرية مسلحة بالعلم والفضيلة والوطنية الصادقة، وكانت عماد النهضة الوطنية الجزائرية وأدت إلى تحرير البلاد والعباد من قبضة الاستعمار وإحياء الأمة الجزائرية التي ظن الاستعمار سنة 1930م أنها ماتت إلى الأبد من خلال إعادة زرع بذور الوطنية الصحيحة فيها.
فالوطنية التي يدعو إليها الإبراهيمي هي إحياء الشخصية الجزائرية في ذات نفوس الجزائريين، خاصة عندما رأى أن الذاتية الجزائرية هي التي يجب أن تكون على رأس أولويات أعماله، من خلال جهوده في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والتي تدافع على الذاتية الجزائرية، حيث يرى الإبراهيمي أن العروبة والإسلام قضيتان متلازمتان وهما أساس متين من أسس الوطنية.
لهذا ركز الإبراهيمي على الأمة كطريق إلى الدولة، لأن وجود الأمة الجزائرية يقود بالضرورة إلى وجود الوطن الجزائري عن طريق اجتماع تلك المقومات والتي لا تكون الأمة أمة إلا بها، ولا تكون وحدة متماسكة الأجزاء إلا بالمحافظة عليها، لأن الوطنية هي أشرف الروابط للأفراد والأساس المتين الذي تبنى عليه الدول القومية والممالك الشامخة، ولترسيخ هذه المقومات في نفوس الجزائريين يجب تربية الجماهير وفق عنصرين هما الإسلام والعروبة، مما جعله يصطدم بقوتين متضادتين وهما الأحزاب والجماعات السياسية الأخرى، وقوة الدولة المستعمرة من جهة أخرى والحق أن الشيخ الإبراهيمي، نجده يهيب بأبناء وطنه إلى جمع الشمل، وضم الصفوف، وتجاوز الخلافات والنزاعات من خلال كتابته لمقالين في نهاية 1947م، أحدهما بعنوان: “دعوة صارخة إلى اتحاد الأحزاب والهيئات والآخر بعنوان: دعوة مكررة إلى الاتحاد ، ويخاطبهم قائلا: “وها نحن أولاء نرى خصوم القضية الجزائرية من أئمة الاستعمار، قد جمعوا صفوفهم وأجمعوا أمرهم على حرب قضيتنا في منبتها … إنهم قد تداعوا جهرة إلى الاتحاد هنا كما اتحدوا هناك … على إحباط برامجكم فنجحوا، وعلى تخييب مطالبكم فأفلحوا…” وهدفه من ذلك هو توحيد الأحزاب السياسية بمختلف اتجاهاتها، والتي تحمل تصورات مختلفة للعمل السياسي، لأنه من الأجدر تقديم مصلحة الوطن على مصلحة الحزب والاتحاد والتعاون على ما فيه مصلحة للوطن من أجل مواجهة العدو بصف واحد ورأي واحد وبأسلوب وهدف واحد.
ونظرا لمساعي الشيخ الإبراهيمي الحثيثة لتقريب وجهات النظر بين الأحزاب، ونبذ التفرقة والتشتت، ودعوتهم إلى الاتحاد عن طريق مفاوضات دامت عدة أشهر، وكانت شاقة بين حزب انتصار الحريات الديمقراطية وحزب أحباب البيان ، والتي أثمرت في نهاية المطاف بتكوين أول جبهة موحدة ضد فرنسا.
ومما لاشك فيه أن سعي الإبراهيمي في توحيد الجزائريين، وإقرار المصالحة بينهم لدليل قوي على غيرته على وطنيته الصادقة.
ومن صور اهتمام الإبراهيمي بمسألة الوطنية من خلال مراسلة نشرتها البصائر في عددها 81 الصادرة سنة 1949م بعنوان: “كتاب مفتوح إلى رئيس الجمهورية الفرنسية، يحذر فيها من مغبة تذويب هوية الشعب الجزائري وطمس معالمها، ورغم ذلك فإن الشعب الجزائري حسب الإبراهيمي أصبح: “لا يؤمن إلا بأركان حياته الأربعة ذاتيته الجزائرية وجنسيته ولغته العربيتين، ودينه الإسلامي… ، لذلك نجده ينتقد كل ما كانت تروج له السلطات الفرنسية في أوساط أبنائه والجزائريين معا حول مسألة “الوحدة الفرنسية”، لأنها لا تصلح بين جزائري وفرنسي وبين عربية وفرنسية وبين مسيحية وإسلام، وبين المسجد والكنيسة .
والجدير بالذكر أن السلطات الفرنسية تمادت بصورة كبيرة في موقفها تجاه الشيخ الإبراهيمي، لهذا نجده يسلك طريق آخر من خلال سفره إلى فرنسا سنة 1952م، والذي صادف مناسبة انعقاد جمعية الأمم المتحدة بها، حيث اتصل بالوفود العربية والإسلامية وأقام على شرفهم عشاء باسم جمعية العلماء المسلمين، وألقى خطبة بليغة أثرت في نفوس الحاضرين، حيث يعد هذا اللقاء التاريخي فرصة لتوثيق الصلة بالبلاد العربية والإسلامية والتشاور حول ما يخدم مصلحة العرب والمسلمين.
ومن صور اعتزاز الإبراهيمي وحبه لوطنه وتقديسه، خاصة عندما استقر بالقاهرة قبيل اندلاع الثورة التحريرية الكبرى، إذ أنه لم يشتغل إلا بوطنه، فكتب عنه مقالا بعنوان “تحية الغائب كالأيب”، والتي نشرت في البصائر في عددها 229 الصادر في 15 ماي 1953م، حيث يخاطب فيها الوطن، من شدة تعلقه به أيها الوطن الحبيب بقوله: “لو تبرجت لي المواطن في حللها … لتفتنني عنك لما رأيت لك عديلا، ولا اتخذت بك “بديلا” ، ثم يحي الجزائر من هناك ويخاطبها: قل للجزائر الحبيبة هل يخطر ببالك من لم تغيبي قط عن باله؟ وهل طاف بك طائف السلو، وشغلك مانع الجمع وموجب الخلو عن مشغول بهواك عن سواك” .
وهكذا كانت وطنية الشيخ الإبراهيمي مخلصة لعقيدته ومبادئه ولإيمانه الصادق بالإسلام دينا وباللغة العربية لغة وبالجزائر وطنا والتي اتضحت بشكل صارخ عند اندلاع الثورة التحريرية الكبرى، من خلال النداءات. الموجهة إلى الشعب الجزائري بالالتفاف حولها، بهدف تحريك الوطنية في نفوسهم، لتحرير البلاد من الاستعمار، وترسيخ الروح الوطنية، ولهذا تؤكد على أن الهم الوحيد عند الشيخ الإبراهيمي هو الحفاظ على الذاتية الجزائرية، وعلى مكتسبات الثورة التحريرية وضرورة الاتحاد وعدم التفرقة.
كما ظل الشيخ الإبراهيمي يحي ذكرى أول نوفمبر 1954م ، كلما أتيحت له الفرصة، وذلك للتعريف بالقضية الجزائرية والثورة التحريرية وتذكر المشارقة بواجبهم اتجاه إخوانهم الجزائريين الصامدين في وجه الاستعمار.
والجدير بالذكر أن الشيخ الإبراهيمي لم يكتف بالنشاط الدبلوماسي والتعريف بالقضية الجزائرية والثورة التحريرية بل تعداه إلى مراهنته على النشاط الإعلامي لخدمة القضية الوطنية، وذلك من خلال أحاديثه التي كان يلقيها في الإذاعات العربية، وخاصة إذاعة “صوت العرب” سنة 1955م، من أجل تحسيس الشعوب العربية بالقضية الجزائرية والمسارعة إلى دعمها ضد الاستعمار الفرنسي، إضافة إلى تأثيرها على نفوس الجزائريين للالتفاف حول الثورة التحريرية، ولبعث الحماس والغيرة للدفاع عن القضية الوطنية، إنه أسمى وأرقى معنى لفكرة الوطنية التي يؤمن بها الشيخ الإبراهيمي.

الخاتمة :
نخلص في النهاية إلى أن سبب التخلف والتراجع الفكري والمادي والروحي الذي يعاني منه الشعب الجزائري، حسب الشيخ الإبراهيمي يعود إلى الاستعمار الفرنسي وأعماله الشنيعة والاضطهادية، والتي تهدف إلى سلخه من مقوماته الشخصية العربية الإسلامية، وتزييف تاريخ أجداده المجيد، وإنهاء وجود الإسلام وإحلال محله الدين المسيحي، وتذويبهم وصهرهم في بوتقة الكيان الفرنسي، فهو قد عمل على محو آثار الإسلام في النفوس بقتل أخلاقه المتينة وعقائده الصحيحة، وعلى محو عزة العروبة من النفوس، ومحو بيانها من الألسنة والقرائح، وقد كاد ينجح، ولو نجح لكان له ما يريد بعد مائة سنة أخرى من فرنسة الجزائر، وجعلها مسيحية الدين لاتينية الجنسية.
لهذا رأى الإبراهيمي أن الحل الوحيد للانتهاء مما في المجتمع من جمود وركود وانكماش عقائدي وثقافي واجتماعي هو التخلص من الاستدمار اللائكي الأجنبي، وهذا لا يتأتى إلا بنشر الوعي الكامل، وتعميم الثقافة الحقة والتمسك بالتقاليد الإسلامية والتعلق بالشخصية العربية.
ولإحداث نهضة شاملة حسب الشيخ الإبراهيمي، كان يرى في ضرورة توفر دعائم رئيسية لإنقاذ سفينة المجتمع الجزائري من وحل الجهل والأمية والعودة بالأمة الجزائرية إلى ما كانت عليه قبل مجيء الاستعمار الفرنسي من تدين وتعلم وتقدم وإعادة ربطها بأصول الإسلام، “الكتاب والسنة النبوية الشريفة وسيرة السلف الصالح، والاسترشاد بتعاليمه وتعزيز مكانة الموروث في النفوس وتجسيده في السلوك، على أساس من الفهم الصحيح والسليم”.
وبناء على ذلك خطا الشيخ الإبراهيمي بخطوات ثابتة لقيام مشروعه التغييري الحضاري على أصول الكتاب والسنة بمعية رفيق دربه الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس، نائبه ثم خليفته في رئاسة جمعية العلماء المسلمين الذي دعا الشعب الجزائري إلى التمسك به والاهتداء بهديه، كما كان عليه السلف الصالح.
كما عمد الإبراهيمي إلى دعوة أهل العلم والصلاح الجهابذة إلى الاجتهاد في نص فيه من الكتاب أو من السنة أو من الإجماع، خاصة وأن الوضع العلمي يومها في الجزائر، قد تميز بالجمود والركود، والتقليد الأعمى لاقتناع أهلها بأن الاجتهاد محظور، نتج عنها تحجر العقول، وجفاف العلم، لا سيما أن الحركة العلمية يومها على شقين أولها يتميز بالجمود وشقها الثاني يتميز بالتيه والضلال الأمر الذي حبس الجزائريين في دائرة التخلف والانغلاق على الذات فمسألة إحداث التغيير وسط الشعب الجزائري في ظل هذه الظروف مهمة صعبة جدا حملها الإبراهيمي ورفقائه على عاتقهم من أجل توعيتهم وتنويرهم وتربيتهم، فهذا العمل يخول له فعلا صفوة الأمة الراسخين في العلم، وأصحاب العقول النيرة والبصائر الوقادة على شاكلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي من تصوراته وأفكاره لإحداث نهضة وطنية عربية إسلامية وإنجاح مشروعه الإصلاحي، ومن ثمة تحرير العباد والبلاد وترسيخ الروح الوطنية، وذلك من خلال إعادة زرع بذور الوطنية الصحيحة فيها.
* جامعة محمد بوضياف بالمسيلة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com