بمناسبة اليوم العالمي للمرأة “المسلمات المؤمنات المحجبات في الغرب قابضات على الجمر …!”/ محمد مصطفى حابس
لا تزال قضية ما يسمى بتحرير المرأة تمثل محوراً أساسياً في حوارات المثقفين والمثقفات خاصة في ديار الغرب، تخفتُ حيناً لتعود إلى الظهور حينا أخرى، مواكبة لحركات المد والجزر في التحولات السياسية الأخيرة في أقطار العرب من المحيط إلى الخليج، لمَ لا والأخبار أصبحت مؤكدة وتعاش وترى أمام أعيننا؟
ففي العديد من عواصم العالم العربي، بمناسبة اليوم العالمي لحرية المرأة المزعومة، أو اليوم العالمي للمرأة، نحن لن نناقش في هذه العجالة كيف وجد هذا اليوم؟ ومن أوجده؟ وما هي خلفياته الحقيقة وأسبابه الموضوعية التي دعت كوكبة من النسوة للتظاهر طلبا لمزيد من الحقوق المادية والمعنوية؟ ولم يعترف لهن رغم ذلك ببعض هذه الحقوق إلا في القرن الحالي، اعترافا لمزيد من العري والفساد، وإلا كيف نفسر الحرب المعلنة على المرأة المحجبة في فرنسا وغيرها من الدول الغربية، بقوانين وضعية لمنع الحجاب، فمنهن من ثبت وصبر، ومنهن من افتتنت في دينها، فنزعت كل شيء والله المستعان.
وللتاريخ نذكر، أنه منذُ أكثرَ من نصف قرن، كان الحجاب أو ما يعرف حينها حسب الجهات بـ” الحايك” أو “الغمبوز” أو “الملاية” أو “السفساري” في صلبِ الانتِفاضة الجزائريّة التي أدَّت إلى سقوطِ الجمهوريّة الفرنسيّة الرابعة، ووصول شارل ديغول إلى سدّة الحكم. وكان خلعُ الحجاب قضيّة استراتيجية بالنسبةِ للمحتل الفرنسيِّ الذي بسَط على الضفّةِ الأخرى من المتوَسِّط سلطةً لا تعلو عليها سلطة، وكان الهدفُ من هذه الاستراتيجية تقريبُ فرنسا من قلوبِ مليونَي امرأةٍ جزائريَّة…!
إذ بإيعاز من عسكر فرنسا وأذنابها، خلعَت مجموعةٌ من الجزائريّات المُسلمات الحجابَ “الحايك” في الساحة الرئيسية في قلب الجزائر العاصمة، محاطاتٍ بالمصوِّرين وتحتَ حماية الجنود الفرنسيين الخفية، رغم ذلك لم يكن إلا فلكلورا، لأن اللاواتي خلعن الحجاب لم يكن سوى فرنسيات الأصل والفصل، أو جزائريات “مستقورات”.
صراع السفور والحجاب متجذر في تاريخ فرنسا
لا ننسى، أن قضية صراع السفور والحجاب متجذرة في تاريخ فرنسا الاستعمارية، ففي عامِ 1871م – مع حلولِ الجمهوريّة الثالثةِ وتقسيمِ المستعمَرة أي أرض الجزائر إلى ثلاثِ محافَظاتٍ [قسنطينة – وهران – الجزائر] بعدَ أن تمَّ التخلُّصُ من العَسكر، بات كلُّ السكّان مُواطِنين فرنسيّين وبالتالي )كان المفروض لهم الحقُّ نظريّاً بانتِخابِ ممثِّليهم في مجلسِ النواب( – رفضَ الأوروبيّون ذلكَ بشراسة، مشتَرِطين على المُسلمين التخلّي عن قانون الأحوالِ الشخصيَّةِ إن أرادوا أن يصبحوا مواطنين لهم حق في الانتِخاب، عِلماً أنَّ قانونَ الأحوالِ الشخصيّة عادي للغاية هو عبارةٌ عن مجموعةِ قوانينَ لإدارةِ شؤون الزواج والإرثِ والقانونِ العائليِّ، تستنِدُ إلى الشريعة الإسلامية، عموما وفق مذهب الإمام مالك السائد في ربوع دول المغرب العربي؛ وقصد التعبيرِ عن رأيِهم الحادِّ والترويجِ له، رفعَ المستعمِرون شعارَ ضرورة نزع الحجابِ أو “الحَايك” الذي يغطّي الجسم، وأحينا والوجهَ والذي طالما رَمَز في أوروبا إلى “الآخر”: “سيكون بمقدورِكم الانتِخابُ حين تخلعُ نساؤكم الحِجاب”. انصاعَت باريس للأمرِ الواقعِ ومنعت المسلمات من حقِّ الانتِخاب الكامل، أما الجارة تونس فركبت الموجة، وعرت نساءها، واستفحل هذا العري، حتى بعد استقلالها في عهد بورقيبة، ولازال المشاهدون العرب يذكرون تلك اللقطة التلفزيونية التي ينزع فيها بورقيبة خمار نساء تونسيات أمام الملأ.
هذا اليوم العالمي، لم يعد له وزن حتى في الغرب…!
فالمسلمة في بعض الدول بما فيها العربية ممنوعة من الحجاب بشكل أو بآخر، وكذلك في الغرب ممنوعة من ممارسة عملها في العديد من الوظائف كالتعليم بالحجاب مثلا في جل الدول الأوروبية، وهي مشكلة تتعرض لها العائلات في الغرب يوميا، مما حدا بأحد الإخوة الأساتذة بقوله “إن المحجبة قابضة على الجمر في عصرنا هذا” وحكى لي تجربته الشخصية دون تردد، في مجابهة المشكلة هو وزوجة بالتضحية براتب بدل راتبين، حيث أخبرني أن زوجته الأستاذة المدرسة سرحت من عملها بسبب حجابها منذ سنوات، واشترطت عليها الإدارة خلع الحجاب للعودة للشغل، علما أن حجابها لباس ساتر للجسم لا غير، وليست منقبة ولا مجلببة – على حد قوله- بينما وظفت بدلها أستاذة متدربة ليست فقط متبرجة، بل متزوجة مثليا..!! فأي قدوة تكون هذه السيدة لطلبتنا وللأجيال مقارنة بمؤمنة محجبة؟
فاضطر هذا الأخ لقسمة راتبه مناصفة مع زوجته إلى يوم الناس هذا، قائلا لي “من الناحية المالية شددنا أحزمتنا لأبعد حد وما زلنا، أما من ناحية راحة البال فأنا مرتاح للغاية، داعيا الله أن يبارك لنا فيما أعطانا”، وهناك أمثلة عديدة يضيق الوقت لشرحها.
لكن هذا اليوم العالمي، لم يعد له وزن في الغرب، إلا في بعض المؤسسات الرسمية، أمام ما تتعرض له النسوة من تحرش جنسي حيواني، على كافة الأصعدة، وما الحملات الأخيرة أو “هاشتاقات” الفنانات ونسوة الموضة والإعلام، اللاتي استيقظن مؤخرا من سباتهن العميق، للإبلاغ عن عمليات اغتصاب، وقعت لهن منذ سنوات مقابل وظيفة أو دور في فيلم أو مسرحية ما غير أضعف الأدلة على ذلك.
لماذا هذه الحرب على المرأة العفيفة؟
فلماذا هذه الحرب على المرأة العفيفة؟ حتى في دولنا العربية، لا يختلف اثنان أن المرأة نصف المجتمع؛ هذه حقيقة يعرفها العاقل، ويؤيدها الواقع. ماذا لو يرجع حكام العرب في تونس والسعودية والجزائر وغيرهم إلى القرآن الكريم، ليجدوا أنه قد رسم للمرأة شخصية متميزة، قائمة على احترام الذات، وكرامة النفس، وأصالة الخلق، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “النساء شقائق الرجال“، فإنه يستمد هذا من هدي القرآن الكريم، ففيه آيات كثيرة منه تشعرنا بالمساواة البشرية في الحقوق الطبيعية بين الرجل والمرأة، فهو يتحدث عنها بما يُفيد مشاركتها للرجل، وتحملها للتبعة معه، فيقول عن النساء والرجال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة: 228]. ويقول تعالى:{لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ}[النساء:7]. ويقول تعالى:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}[آل عمران: 195]. ويقول تعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}[الأحزاب: 35].
كما نجد القرآن الكريم ـ من إشعاره لنا بشخصية المرأة وكيانها الذي يجب أن يُصان ويرعى ـ يُسمي سورة من طوال سوره باسم “النساء”، يتحدث فيها عن كثير من شؤونهن، وها هو ذا القرآن الكريم يُسمي سورة أخرى باسم “المُجادلة” يفتتحها بالحديث عن استماع الله عز وجل من فوق سبع سماوات إلى امرأة تجادل النبي صلى الله عليه وسلم وتحاوره، فيقول في بدء هذه السورة:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[المجادلة:1].
فالقرآن الكريم عرض علينا نماذج رائعة، سامية لفُضْليات النساء في تاريخ البشرية، فهو يُحدثنا عن نساء ضرب بهن المثل في الإيمان والصبر والعفة، والاعتصام بحبل الله المتين، فكان لهن على الأيام تاريخ مُخَلَّد، وذكر مُمَجَّد.
فلنستمع إلى قول الله تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ*وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}[التحريم: 11/12].
ويعود بنا القرآن الكريم في مواطنَ كثيرة إلى الحديث عن مريم البتول العذراء، وتكريمها بطهارتها وعِفَّتِهَا وصيانتها لنفسها، فيقول عنها مثلًا:{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}[آل عمران:37].
ويُحَدِّثُنا القرآن الكريم عن أم موسى التي تمثلت فيها عاطفة الأمومة بأجل معانيه، وفي القرآن الكريم إشارة إلى أن المرأة استطاعت أن تبلغ في بعض العصور السابقة منازل مرموقة سامية، فهو يُحدثنا عن “مَلِكَة سَبأ” التي تحلَّت بالذكاء وبُعْد النظر، كما قص القرآن علينا مواقفها مع سليمان لتنتهي ملكة سبأ إلى الإيمان بالله وحده، وتُرَدِّد قولها كما حكى القرآن الكريم عنها:{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[النمل: 44].
“الأم مدرسة إذا علَّمت ابنتها فقد علمت أمة”
إن المرأة تستطيع بشخصيتها الأصيلة، وأخلاقها الطيبة، وأعمالها الجليلة، أن تُقيم البرهان على أنها شطر المجتمع الذي لا يُستهان به بِحَالٍ من الأحوال؛ وهذا كلام من ذهب للشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله الذي قال ذات يوم من عام 1929م، للذين يلهثون وراء الغرب قصد تعرية بنات المسلمين في أربعينيات القرن الماضي كلمة خالدة ذهبية لحكام فرنسا عن البنات الجزائريات: “إذا أردتم إصلاح المرأة الحقيقي ارفعوا حجاب الجهل عن عقلها قبل أن ترفعوا حجاب الستر عن وجهها، فإن حجاب الجهل هو الذي أخرها، فأما حجاب الستر فإنه ما ضرها في زمان تقدمها، فقد بلغت بنات بغداد وبنات قرطبة وبنات بجاية مكانا عليا من العلم وهن محجبات”.
وهذا الإمام عبد الحميد ابن باديس – عليه رحمة الله، يفحم من ينسبون خطأ أمورا ليست من الدين في شيء يطالب بتعليم الاثنين البنين والبنات على حد سواء، بل ويفضل تعليم البنات على البنين بقوله:
“إذا علمت ولدا فقد علمت فردا، وإذا علمت بنتا فقد علمت أمة…!”
وهذا شاعر النيل – حافظ إبراهيم- في قصيدته البليغة التي يجب أن يحفظها كل عالم ومتعلم:
من لي بتربية النســــــــاء فـإنها في الشرق علة ذلك الإخفـاق
الأم مدرسة إذا أعــــــــددتــهـا أعددت شعباً طيّب الأعـراق
الأم روض إن تعهّد بالحــــــيــــا بالـري أوْرَقَ أيّـــــــما إيـــــراق
الأم أستاذ الأسـاتـــــــذة الأُلَى شغلت مآثـــرهـم مـدى الآفاق
أنا لا أقول دعوا النساء سوافراً بين الرجال يَجُلْــن في الأسـواق
يَدْرُجن حيث أردن لا من وازع يـحــذرن رِقْبتــــه ولا مــن واق
يفعــلــن أفعـــال الرجـــال لواهــياً عن واجبات نواعــس الأحـداق
في دُورِهن شؤونهـــن كثيـــــرة كشؤون رب السيف والمــزراق
ويأتي في آخر القصيدة ليشدو بعظَمَته المألوفة في الشعر ليقول:
ربّوا البنات على الفضيلة إنـــهـا في الموقـفـين لـــهن خــــير وِثـــاق
وعليكمُ أن تستبيــن بنـــــاتــكم نور الهـــدى وعــلى الـحـياء الباقي