في الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة
د. يوسف جمعة سلامة*/
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبينٍ}.
ذكر الإمام القرطبي – رحمه الله- في تفسير هذه الآية الكريمة: [{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}ختم السورة ببشارة نبيّه محمد – صلّى الله عليه وسلّم- بِرَدِّه إلى مكة قاهراً لأعدائه، وهو قول جابر بن عبد الله وابن عباس ومجاهد وغيرهم. قال القتبي: معاد الرجل بلده؛ لأَنَّه ينصرف ثمّ يعود. وقال مقاتل: خرج النّبي – صلّى الله عليه وسلّم- من الغار ليلاً مُهَاجراً إلى المدينة في غير الطّريق مخافة الطَّلب، فلما رجع إلى الطّريق ونزل الجُحْفة عرف الطّريق إلى مكة فاشتاق إليها، فقال له جبريل إِنَّ الله يقول: «{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}أي إلى مكة ظاهراً عليها. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالجُحْفة»،كما ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره: «قال البخاري في التّفسير من صحيحه: حدثنا محمد بن مقاتل، أنبأنا يعلى، حدّثنا سفيان العصفري عن عكرمة عن ابن عباس{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال: إلى مكة].
تَمُرُّ بنا في هذه الأيام الذّكرى الخامسة والسّبعون للنّكبة، ورغم مُرور هذه السّنوات الطّوال على نكبة فلسطين، وتهجير أبنائها وتشريدهم، إِلاّ أَنَّ أبناء شعبنا الفلسطيني- في أماكن تواجده كَافَّة- بعقيدتهم مُتمسكون، وعن أرضهم مُدافعون، ولفلسطين المُباركة مُحِبُّون، فذكرى النّكبة تُشَكِّل لوناً من ألوان الظُّلم والعدوان، حيث طُرد شعبنا الفلسطيني وهُجِّر من أرضه ووطنه قسراً، هذه الأرض المباركة – أرض المُقدّسات والنّبوات-، وجاء المُحتلّ الإسرائيلي مكانه.
فلسطيـن أرض مباركة
إِنَّ فلسطين أرض مُباركة مُقَدّسة، مجبولةٌ بدماء الآباء والأجداد، وهي أرض الإسراء والمعراج وأرض المحشر والمنشر، وقد أخذت مكانتها من وجود المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين بالنسبة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، حيث جعله الله سبحانه وتعالى توأماً لشقيقه المسجد الحرام بمكة المُكرمة كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، ففلسطين أرض النّبوات، وتاريخها مُرْتبط بِسِيَرِ الرّسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام-، وهي عزيزة علينا، ديناً ودنيا، قديماً وحديثاً، ولن نُفَرّط فيها أبداً مهما كانت المُغريات ومهما عَظُمت التّهديدات، فهي الأرض التي وُلدنا على ثراها، ونأكل من خيرها ونشرب من مائها ونستظلّ بظلِّها.
حقُّ العودة … حقٌّ مُقدس
انطلاقاً من قول رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – وهو يُخاطب وطنه مكة المكرمة: «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ»، فقد أحبَّ الفلسطينيون وطنهم اقتداء بنبيّنا محمد – صلّى الله عليه وسلّم–، الذي عَلَّم الدنيا كلّها حبّ الأوطان والأماكن المُباركة والوفاء لمسقط الرّأس، حيث يُظهر حُبَّه – صلّى الله عليه وسلّم – لوطنه مكة، وحرصه على البقاء فيها لا يبرحها، لولا أَنّه – صلّى الله عليه وسلّم – أُخرج منها مُضطراً مُرْغَماً.
إِنَّ حقّ العودة إلى فلسطين أرض الآباء والأجداد حقٌّ شرعيٌّ مُقدّس لن يسقط بالتّقادم، وستبقى أرض فلسطين المُباركة لأهلها ولجميع المسلمين إن شاء الله سبحانه وتعالى حتى قيام الساعة.
وبهذه المناسبة فإننا نُؤكّد على تمسُّكنا ببلادنا فلسطين بصفة عامة، ومدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك بصفة خاصة، وكذلك بكلّ مُقدَّساتنا في فلسطين، كما نُعلن تمسّـكنا بحقنا في العودة إلى أرض الآباء والأجداد ، هذا الحقّ المُقدس لملايين الفلسطينيين في مُختلف أرجاء المعمورة، كما نُعلن عن حقّنا في إقامة دولتنا الفلسطينية المُستقلة وعاصمتها القدس، وخروج جميع الأسرى من سجون الاحتلال؛ لِيتنفَّسوا نسائم الحرية، وَلِيُسْهِموا في بناء هذا الوطن، كما أَسْهموا في الدّفاع عنه.
الوحدة … طريق العودة والانتصار
إِنَّ وحدة شعبنا الفلسطيني المرابط وتمسّـكه بدينه كفيلة بإفشال جميع المُخططات التي تستهدف شعبنا ومُقدّساتنا وأرضنا، فشعبنا الفلسطيني الآن يمرُّ بمرحلة دقيقة تحتاج مِنّا جميعاً إلى الوحدة ورصّ الصفوف وجمع الشمل وتوحيد الكلمة، فالقدس لم تُحَرَّر عبر التاريخ إلا بالوحدة، ولن تتحرّر إلا بالوحدة.
إِنَّ ديننا الإسلامي الحنيف يفرض علينا نحن الفلسطينيين أن نَتَّحد ونجتمع كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)، فَسِرّ قوتنا في وحدتنا، وإِنّ ضعفنا في فُرقتنا وتخاذلنا، فالوحدة فريضة شرعية وضرورة وطنية؛ لذلك يجب أن يكون شعارنا دائمًا الوحدة… الوحدة…الوحدة، كما يجب علينا أن ننشر ثقافة الوحدة والمَحَبَّة والأُخوة والتّسامح بين أبناء شعبنا الفلسطيني، وذلك في جميع وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة، وفي أدبياتنا وَخُطَبنا ومُحَاضراتنا، فشعبنا الفلسطيني شعب واحد له هدف واحد وهو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي.
الدفــاع عـــن الوطن واجـــــبٌ
لقد حثت السُّنّة النبوية الشريفة على حُبّ الوطن ووجوب الدفاع عنه والمحافظة عليه من كيدِ الكائدين واعتداء المعتدين، وجاء ذلك في مواطن كثيرة، ومن المعلوم أنَّ مَنْ دافع عن وطنه فهو شهيد، ومن قُتل دون وطنه فهو شهيد، كما جاء في الحديث الشريف عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –يَقُولُ: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيد، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)، كما أنّ مَنْ تَوَلَّى وأعرض عن الدّفاع عن وطنه فقد ارتكب إثماً عظيماً؛ لِمَا جاء في الحديث: عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبقَاتِ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصِنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ).
لذلك فإننا بحاجة إلى العَالِم والمُعَلِّم و العامل والمُفَكِّر القدوة المُحِبّ لوطنه، الذي يعتزّ بانتمائه له، وَيُؤَدّي واجبه نحوه على أكمل وجه.
فما أحوجنا اليوم إلى تربية الأبناء منذ الصغر على حبّ الوطن كما علّمنا ديننا الإسلامي، ويتحقّق حبّ الأوطان بغرس الانتماء الإيجابي للوطن، وتقدير خيرات الوطن وَمُعْطياته، والمُحافظة على مُقدّراته ومُكتسباته.
فلسطين أمانة في أعناق الأمة
إِنَّ الواجب على الأمتين العربية والإسلامية مُساندة الشّعب الفلسطيني الذي يتعرَّض لهجمة شرسة طالت الأرض والإنسان والمقدسات، حيث إِنَّ سلطات الاحتلال الإسرائيلي تعمل على طمس الطّابع العربي والإسلامي لفلسطين، وَمَحْوِ معالمها التاريخية والحضارية؛ لتصبح دولة يهودية، حيث نرى في كلّ يوم جرافات الاحتلال تدفن جزءاً من تُراثنا، كما تتهيّأ مَعَاوِل الهدم لتقويض جُزء جديد من مُقدّساتنا؛ لذا يجب على كلّ الأيدي الشّريفة أن تمتدّ لِنُصرة القدس بصفة خاصة وفلسطين بصفة عامة في محنتها، وأن تعمل كلّ ما في وُسْعها لوقف جرافات الاحتلال عن الاستمرار في تدمير مُقدّساتنا وقرانا ومدننا، وارتكاب المجازر بحقّ أبناء شعبنا، وضرورة دعم المرابطين في بيت المقدس للحديث النبوي: عن ميمونة مولاة النبي – صلّى الله عليه وسلّم- قَالَتْ: «يَا رَسُوَلَ اللهِ، أَفْتِناَ فِي بَيْتِ الْمَقِدْسِ، قَالَ: «أَرْضُ َالْمَحْشَر ِوالْمَنْشَر، ائْتُوهُ فَصَلُّوا فيِه، فَإِنَّ صَلاَةً فِيِه كَأَلْف صَلاَة فِي غَيْرِهِ»، قَلتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَتَحَمَّلَ إليه؟ قال: «فَتُهْدِي لَهُ زَيْتاً يُسْرَجُ فِيهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذِلكَ فَهُوَ كَمَنْ أَتَاهُ).
فبلادنا المباركة فلسطين ومدينة القدس تنتظر بشغف المواقف العربية والإسلامية التي تحميها من الضَّياع والاندثار وَتُحافظ عليها ؛ لتبقى هذه البلاد المباركة عربية إسلامية، كما أنّ المسجد الأقصى المبارك يُخاطب الأمة قائلاً: أدركوني قبل فوات الأوان، فهل من مُجيب؟!.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحفظ شعبنا وأرضنا ومقدساتنا وأمتنا من كلّ سوء وصلّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com