على بصيرة

قراءة صوفية في الانتخابات التركية

أ.د. عبد الرزاق قسوم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/

لست أدري لم طاف بي طائف الفقه الصوفي وأنا أتابع الحملة الانتخابية التركية. فلسان الانتخابات التركية، أعجمي سياسي، ولسان الفقه الصوفي روحي عربي، ألم يقل قطب التصوف التركي جلال الدين الرومي (1207- 1273م) «أمسيت كرديا، وأصبحت عربيا» (ديوان المثنوي –ج 1- ص2). فأين فقه التصوف التركي، وسبحات جلال الدين الرومي، من شطحات المرشحين للاستحقاقات الرئاسية؟

إن عبَق الروح الصوفي، الكامن في أعماق الشعب التركي، لم يَدُر بخلَد المتسابقين نحو كرسي الرئاسة في أنقره، فكل يغني على ليلاه، وتختلف ليلى كل مرشح باختلاف توجهه العقدي.
فهناك من ليلاه العلمانية الأتاتوركية العازلة لشعب تركيا عن محيطه الإسلامي الطبيعي.
وهناك من ليلاه الديمقراطية على النمط الغربي، يتخذ الغرب نموذجا له في كل شيء حتى في إسلاموفوبيته.
وهناك من ليلاه تركيا بكل مكوناتها الحضارية، مع تفتحها على الصالح من التجارب الإنسانية، فهو مخضرم يجمع بين القبعة الغربية، والطربوش التركي، ويحمل السبحة في يد، وكأس الويسكي في اليد الأخرى.
والغائب المغيب في الانتخابات التركية هم أهل الله وخاصته، الذين وصفهم جلال الدين الرومي، القطب الصوفي: بأنهم أولو البصائر الربانيون، الروحانيون، السَّمائيون، العرشيون، النوريون، السكوت النظّار، الملوك تحت الأطمار، أشراف القبائل، أصحاب الفضائل، أنوار الدلائل».
وإن تعجب فاعجب، لبحر متلاطم الأمواج، غاب فيه السبّاح الروحاني الماهر وحضر فيه الباز، الطائر الحائر، ومثل هذا كمثل الناي الذي ظل قطعة خشب، لم تنفخ فيها روح؛ ذلك أن الروح الخالية من المعنى، هي بلا شك، هذا الجسد، وكأنه السيف الخشبي في غمده (المثنوي- ص41).
ولك –يا قارئي العزيز- أن تضع نفسك في موضع المواطن التركي، الذي هو مدعو، إلى أن يقوم بالفرز بين هذا الخليط من السابحين ضد التيار، ليبحث بينهم عن أقل الملوثين من الأتراك الأحرار.
إن الواقعية السياسية، والموضوعية الإعلامية تقتضينا، أن ننصف الناس، فنبين بأن المثالية في السياسة، قد غابت في عالم طغت فيه الكياسة، وتغلبت فيه المادية الحساسة، وتلون الجميع بما أصبح بعرف بمذهب النخاسة.
وإذا كان ليس من طبعنا التدخل في شؤون الأشقاء، والإمساك عن الحلب في الدلاء، والزعم بتقديم الناجع من الدواء، فإن القاعدة التي ننطلق منها في هذا المستوى من التحليل، هي أن السياسة فن الممكن، والمستحيل ليس من السياسة.
هذا وإن الناظر إلى تركيا اليوم، بغض النظر عن بعض السلبيات التي لا تزال تطفو على السطح، والتي هي من بقايا العهد العلماني المتطرف الأفضع، فإن الزائر لتركيا، يدرك، وثبة عمرانية لا ينكرها إلا مكابر ذليل، أو أعشى فاقد لكل دليل.
فالنهضة العمرانية تفرض نفسها من المطار، إلى السوق، ومن هندسة المساجد إلى بسط الحقوق.. فكل ذلك يمثل إشراق الشروق.
ومن العدل أن ننصف المترشح المنتهية عهدته، فنذكر إلى جانب هذه الإنجازات، انفتاحه على المستضعفين، الذين ضاقت بهم أنظمة بلدانهم، فوجدوا في تركيا الحالية، الحضن الدافئ، والتحصين الأمني الناشئ.
كما نذكر لهذا المترشح المنتهية عهدته ازدهار الخطاب الإسلامي بأذانه المتميز، وآذان شعبه المتحيز، وقد رأينا بأم أعيننا، وسمعنا بآذاننا، تلاوة القرآن من الرئيس، ورفع الآذان بنفَس نفيس.. ألا يستحق ذلك نوعا من التقديس، والتأسيس؟
لسنا في موقع من يقدم النصح لأشقائنا الأتراك، والإشارة عليهم بمن ينتخبون فهم أدرى بمصلحة وطنهم ومواطنيهم، ولكننا، نقول لهم، إياكم أن تدور بكم الدوائر‍!
فالغرب العدو الطبيعي للحضارة الإسلامية ينصحكم بعدم الانتخاب على الرئيس المنتهية عهدته، وفي ذلك إشارة ضمنية إلى أنه المهدد للمصالح الغربية في تركيا.
ورحم الله أبا الطيب المتنبي في قوله:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص   فهي الشهادة لي بأني كامل
غير أن ما نتوق إليه، نحن أشقاء تركيا من الاستحقاقات الجارية، هو أن يقدم المسؤولون عن الشأن التركي، للعالم صورة جميلة عن سير الانتخابات، وحريتها ونزاهتها، وتمكين كل مترشح من حق التعبير، وكل مواطن، من حق التصويت وأن تخلو الانتخابات من لوثة التزوير التي ألصقت بالعالم العربي والإسلامي الكبير.
فعندما، تحاط الانتخابات بكل هذه الضمانات، يومها مرحبا بمن يقرره الصندوق ويخرجه المواطنون للدفاع عن الحقوق.
إن الأنظار متجهة إلى تركيا، على أمل، أن تقدم تركيا صورة إسلامية سياسية نموذجية، يمكن أن يقتدي بها العالم العربي الذي هو في أشد الحاجة إلى الشفافية المفقودة، والنزاهة الموؤودة، والحرية المنشودة.
عندها يمكن القول بأن الصوفية السياسة الواقعية قد انتصرت، وأن كل أنواع التدجيل والتضليل قد اندثرت، ويومها يفرح الأتراك بنصر الله ينصر من يشاء.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com