إصدارات

كتاب (منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير وعلوم القرآن) للدكتور فهد الرومي، نقد وتقويم

صالح سهيل حمودة*

تعرضت مدرسة الإصلاح والتجديد التي دشنها جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ورشيد رضا ، إلى هجمة شرسة، وُجهت إليها من خلالها شتى التهم المتراوحة بين درجات التكفير والتضليل، دون الاعتماد على أية أسس علمية حقيقية، وقد اشتدت وتيرة هذه الهجمة في النصف الثاني من القرن الماضي.
وما كتابنا الذي ننقده اليوم إلا حلقة من حلقات هذا الهجوم.
فعنوان الكتاب (منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير).
وهو في الأصل رسالة علمية قدمت إلى كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود لنيل درجة الماجستير في التفسير وعلوم القرآن.
والمؤلف هو الدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي، وهو أستاذ الدراسات العليا ، الدراسات القرآنية سابقا، في جامعة الملك سعود.
وأستطيع تلخيص المآخذ على الكتاب بالنقاط التالية:
المأخذ الأول: أن فيه تسمية الفرق المخالفة بغير مسمياتها تنفيراً عنها، فإن هذه المدرسة لم تسمّ نفسها بالمدرسة العقلية! وقد كان للمؤلف اسوة حسنة في القرآن الكريم الذي سمى الأديان الأخرى بمسمياتها التي ارتضته لأنفسها، فهذه فرقة النصارى، وهذه فرقة اليهود، وهكذا.
وعلى هذا الهدي مشى الكاتبون المسلمون السابقون حول الفرق، فهذه فرقة الشيعة الاثني عشرية، وهذه فرقة الأشاعرة، وهذه فرقة المعتزلة، ولم يقل احد أنها الفرقة العقلية!
والعجيب أن المؤلف أقر بأن تسمية المعتزلة وغيرها بالفرقة العقلية هي تسمية المستشرقين! فهل يرى المؤلف أن متابعة المستشرقين في هذه الطريقة أولى من متابعة نهج القرآن والمؤلفين المسلمين والإنصاف العلمي؟.
المأخذ الثاني: الاقتباس دون العزو إلى المصدر الذي نقل عنه
ومن ذلك: الأسس الحادية عشرة للمدرسة، فهذه الأسس استمد المؤلف أكثرها من كتاب الدكتور عبد الله شحاتة (منهج الإمام محمد عبده في التفسير)، دون الإشارة إلى ذلك.
المأخذ الثالث: سوء فهم الأقوال، وحمل نصوص المدرسة على غير محاملها العلمية التي ينبغي حملها عليها.
ففي موضوع الوحي، نسب المؤلف إلى رجال المدرسة أنهم قائلون بأن الوحي نابع من نفس محمد صلى الله عليه وسلم لا من الله!
ولا مراء أن هذا القول خطير جدا، وطاعن في إسلام رجال المدرسة أصلا، ومُخرج لهم من الملة بلا مثنوية، فهل جاء المؤلف حقاَ بما يصدق دعواه؟
استدل المؤلف على دعواه بتعريف الشيخ محمد عبده للوحي بأنه (عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة او بغير واسطة، والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت)، فهم المؤلف أن الفعل (يجده) يعني (يوجده)! فهو يدل عنده على أن الوحي نابع من نفس النبي!
والحقيقة أن هذا الفهم أقل ما يقال فيه: أنه لا علاقة له بفهم اللغة البتة! فالفعل هنا من وجدان الشيء وَجْداً ووُجْداً ووجودا، أي العلم بالشيء بإحدى الحواسّ أو بالعقل، وهو من أفعال القلوب في النحو، وهو العامل في (من)، فتكون (من) لابتداء غاية الوجدان بالوحي، أما (من) الثانية فهي لابتداء غاية الإرسال.


ولا شك أن النبي يعلم من نفسه بنزول الوحي عليه، ولا يعني ذلك أن الوحي نابع منه.
ولا أدري كيف يكون الشيخ محمد عبده قائلاً بالوحي النفسي وهو الذي نذر حياته لتفسير كتاب الله تعالى وبيان هدايته وإعجازه!
أما الملائكة، فيرى المؤلف بلا مواربة أن الشيخ محمد عبده مكذب للقرآن فيما ورد في شأنهم، وأنه يؤولهم بالقوى الطبيعية! ويقول بعد أن يسوق كلامه في ذلك: (ماذا يريد الشيخ عبده بهذا التأويل وهذا المفهوم؟ هل يريد أن يؤكد لنا مرة أخرى تكذيبه للقرآن الكريم؟)
والواقع أن المؤلف لم يحرف في نقله عن الشيخ، ولكن بينه وبين فهمه مفاوز تتقطع فيها أعناق الإبل! وذلك بسبب عدم إلمامه بالآراء الفلسفية التي كانت سائدة في زمان الشيخ، لذلك ظن المؤلف أن الشيخ كان يرد في كلامه عن الملائكة على الماديين، وأنه كان منهزماً أمامهم! وهذا جره إلى خطإ آخر، وهو ظنه أن الشيخ يؤول الملائكة بقوى مادية قائمة في الكائنات!
والحقيقة أن الشيخ محمد عبده لم يذكر أنه يرد على المادّيين، وإن صرّح بذلك رشيد رضا على سبيل التوسع والتسامح في التسمية، والذي تبين لي من خلال دراسة المذاهب الفلسفية المنتشرة في
عهده أنه كان يردّ على مذهب آخر، هو المذهب الروحي.
ومع أن المؤلف أشار إلى المذهب الروحي في مواضع أخرى غير هذا، إلا أن فكرته عنه، مثل كثير من الكاتبين حتى المتخصصين في المذاهب، كانت قاصرة، منحصرة في استحضار الأرواح!
والحقيقة أن فكرة استحضار الأرواح هي إحدى تجليات هذا المذهب وفروعه، أما أصله فهو قائم على أن في الكون أصلاً روحانياً عاماً قائماً إلى الجانب المادي فيه، فكل كائن ينشأ في هذا الكون تلتحق به قبسة من هذا الأصل العام، تربّيه وتدفع به إلى التقدم، وهذا الأصل الحيوي لا يمكن رده إلى العمليات الفيزيائية أو الكيميائية في الأجهزة العضوية.
وقد استثمر الشيخ محمد عبده هذا القول لدى الروحيين، وأراد أن يلزمهم بإثبات الملائكة عن طريقه، فكانت خلاصة إلزامه لهم: ونحن ثبت في ديننا أن هناك قوى روحية غير مادية أيضا، وكّل الله بكلّ منها وظائف محددة، ومن تلك الوظائف تدبير مظاهر الكون بإذن الله، فأنتم أيها الروحيون تسمون تلك القوى بالأصل الروحي، ونحن نسميها الملائكة.
ويدل على ما ذكره الشيخ ما ورد في الحديث الشريف من أن هناك ملكاً للجبال وغيرها من مظاهر الطبيعة.
وهذا الإلزام من الشيخ لا يناقض بأي حال من الأحوال حقيقة الإيمان بالملائكة عند عامة المسلمين، فإن الشيخ يقرّ بأن الملائكة (خلق غيبي لا نعرف حقيقته)، وجبريل عليه السلام هو (روح عاقل عالم يفيض العلم بإذن الله على روح النبي).
المأخذ الرابع: الخلط بين المسائل العلمية المختلفة، وسوقها سوقاً واحدا، مما جره إلى اتهام أعلام المدرسة بالتناقض، ويتجلى في ذلك في مبحث المعجزات.
فقد تعاظم الغلط من المؤلف في هذا المبحث، فالمؤلف ينقل إقرار الشيخ محمد عبده بمبدإ المعجزة ودلالتها على النبوة، وخضوعه له، لكنه تارة يستغرب ذلك ويرميه بالحيرة! وتارة يتهمه بالإقرار بالمعجزة مع إنكار دلالتها على النبوة، وتارة يتهمه مع تلميذه رشيد رضا بإنكار معجزات النبي صلى الله عليه وسلم فقط دون غيره من الأنبياء!
ويضيق المقام هنا عن تتبع كلام المؤلف، لكن مثار الغلط الذي وقع فيه المؤلف هنا يكمن في عدم التفريق بين الحد الكلامي للمعجزة، وحدّ الخارقة، فالمعجزة في رأي كثير من المتكلمين لا بد أن تقترن بالتحدي، أما الخارقة فيشترط خرقها للعادة فقط، ورجال المدرسة لا ينكرون خوارق النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى الثاني كما حسب المؤلف، كنبع الماء من بين أصابعه وحنين الجذع إليه والإخبار ببعض المغيبات، ولكنهم ينكرون وقوع التحدي بغير القرآن الكريم، خضوعاً لدلالة القرآن الكريم نفسه الذي حكى في أكثر من آية طلب المشركين الآيات الحسية، فلم يجبهم الله إلى ذلك.
أما تأويلات المدرسة لبعض الخوارق فهو اتباع للمعاني اللغوية والسياقية الخاصة بها، لا إنكار لأصلها، وهو اجتهاد سائغ دائر بين الأجر والأجرين.
المأخذ الخامس: بتر النصوص حتى يفهم منها القارئ النتيجة التي أرادها المؤلف، على حد الوقوف عند قوله تعالى (لا تقربوا الصلاة).
فقد نقل المؤلف عن رشيد رضا قوله في الأفغاني (كان يشرب قليلاً من الكونياك)، فهذا النقل يوهم أي قارئ أن رشيد رضا قال ذلك الكلام مقراً له.
لكنه لم يذكر أن هذا كان نقلاً من رشيد رضا عن سليم عنحوري، وأنه سيكرّ عليه بالرد والإبطال بعد ذلك.
وكذلك ذكر المؤلف أن رشيد رضا يستحق الإثم والمؤاخذة لأنه نشر في مجلة المنار مقالة الدكتور محمد توفيق صدقي (الإسلام والقرآن وحده).
لكنه لا يذكر أن رشيد رضا علق في ذيل المقال، ذاكراً أنه نشره (لعرضه على العلماء والباحثين، فلننظر ماذا يقولون، ثم نقفي بما نعتقده)، ثم عاجل بردّ أكثر ما ورد في المقال من الشذوذ لئلا يعلق في أذهان القراء، وهو ما يتعلق بإنكاره الصلوات الخمس.
أما في الأعداد التالية، فلم يكتفِ رشيد رضا بالرد بنفسه على أقوال صدقي، وكتابة عنوان في أعلى الصفحة (الإسلام القرآن والسنة)، بل نشر ردود غيره من العلماء على صدقي.
ثم كانت النتيجة أن صدقي -رحمه الله – تاب من أفكاره تلك، ونشرت المنار مقاله في ذلك.
فأين الإثم والمؤاخذة في ذلك يا معشر العقلاء؟
ويحق لرشيد رضا أن يتمثل هنا بقول القائل:
إذا كانت محاسنيَ اللاتي أدل بها
ذنوباً فقل لي كيف أعتذر؟
المأخذ السادس: عزو الأقوال إلى رجال المدرسة عن طريق الإلزام والاستنتاج.
ومن ذلك: أنه لما تكلم عن موقف المدرسة من الجن، قال: (وقد أنكرت طائفة من الناس كالماديين ونحوهم الجن وأحوالهم وزعموا وبئس ما زعموا أنه لا يصح الإيمان بذلك إلا بواسطة التجربة)، ثم نقل عن محمد فريد وجدي موافقته على ذلك في قبول الأصول الاعتقادية، ليصل إلى القول بإنكار وجدي للجن.
والحقيقة أنه بالرجوع إلى مقال وجدي، سنجد أنه يتكلم عن استحضار الأرواح، ودعاوى بعض الناس قدرتهم على التواصل مع تلك الأرواح، ليجعل ذلك كله شاهداً على صدق وجود العالم الروحي.
أما الجن، فلم يتعرض لهم وجدي في المقال، بل وجدنا من خلال ما كتبه في مواضع أخرى أنه يؤمن بوجود الجن، ويصفهم بـ(الأرواح العاقلة المريدة على نحو ما عليه روح الإنسان، ولكنهم مجردون من المادة)، وهذا الإيمان لا يخرم القاعدة الآنفة التي وافق عليها وجدي، لأن وجدي يجعل الإيمان بالجن مما يقع تحت سلطان التجربة، فهو يصدّق أقوال من رأى الجن من (شيوخ هذه الملة) ويستشهد على ذلك بتحضير الأرواح، فهو كان من القائلين به.
فلاحظ كيف كانت منهجية المؤلف سبباً في التجني والخطأ في عزو الأقوال!
وفي الختام، (إني لأدعو كل مسلم أن يجعل البحث عن الحقيقة هدفه، وأن لا تعميه منزلة الرجل بين النّاس عن طلبها، وان يجعل الحق ميزاناً للأقوال، لا أن يجعل الرجال ميزاناً لها)، كلمة جميلة قالها المؤلف، والأجمل أن تكون واقعاً ملموساً لا مجرد شعار.
ولم يكن من المستغرب، في ظل الأخطاء المنهجية الفادحة، التي وقع فيها المؤلف، أن يخرج بنتائج خطيرة، وأن يتهم رجال المدرسة باتهامات باطلة، ليس من أهونها (ضلالة المنهج)، والوقوع في (الزندقة)، بل تجاوز ذلك إلى تسويغه القدح في النيات، فرمى رجال المدرسة بـ(التقرب إلى أحرار الإفرنج)، و(الانهزامية).
ويشهد الله أنه لو تبين لي أن مدرسة الإصلاح والتجديد، كانت كما زعم المؤلف من الإلحاد في آيات الله، والوقوع في المكفرات والزندقة، لكنت أول المتبرئين منها.
أما والأمر على خلاف ذلك تماما، وأن تلك الدعاوى ما هي إلا بنيان على شفا جرف هار، فقد حقّ على كل قارئ اغترّ بكتاب الرومي، وبنى عليه موقفاً معادياً للمدرسة، أن يعيد النظر في موقفه ذلك، والله الموفق والمستعان.
للمقال مراجع
*جامعة العلوم الإسلامية-عمّان

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com