رد «شبهة» ولاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لسلطة المحتل الفرنسي
أ. العربي عيلان/
ورد في الجرائد الصّادرة عن الجمعية ثناء على الحكومة الفرنسية، يعلو فهمُه لدى البعض إلى ربط أواصر المودّة بها، سواء قبل تأسيس جمعية العلماء أو بعدها؛ على غرار جريدة المنتقد حيث ورد في عددها الأوّل: (ولأنّنا مستعمرة من مستعمرات الجمهورية الفرنسوية نسعى إلى ربط أواصر المودّة بيننا وبين الأمّة الفرنسوية)، وبعد تعطيل المنتقد ورد في صحيفة الشهاب ما يلي: (عجبنا أن تُعطّل جريدة تنادي بمساعدة فرنسا الديمقراطية)، وجريدة الشريعة التي أطنبت في مدح فرنسا أحيانا، ومن ذلك قولها: (فما ينقم علينا الناقمون؟ لينقمون علينا تأسيس جمعية دينية إسلامية تهذيبية، تُعين فرنسا على تهذيب الشّعب وترقيته، ورفع مستواه إلى الدرجة اللائقة، بسمعة فرنسا ومدنيتها، وتربيتها للشّعوب)، وتشهد صحيفة الشّريعة على شقيقتها الشّهاب بمدح الحكومة الفرنسية؛ من ذلك: (أعلن الشّهاب من أوّل يومه، أنه يعمل لسعادة الأمّة الجزائرية، بمساعدة فرنسا الديمقراطية، فصوّر بكلمته هذه الحقيقة الواقعة عارية من براقش الخيال، وحجب التّلبيس والتضليل)، وجريدة البصائر هي الأخرى سلكت نفس المسلك؛ ففي عددها الأوّل نشرت نفس الكلمة، التي نشرها الشيخ عبد الحميد بن باديس في العدد الأول من جريدة “الشريعة”، وممّا ورد في البصائر كذلك: (نبشّركم بأنّ الجزائر المفطورة على مبادئ الإسلام، والمتغذية بمبادئ فرنسا، أنجبت وتُنجب رجالا كما رأيتم وفوق ما تظنّون رجالا تفتخر بهم فرنسا) .
اختلف الباحثون في فهم مقصد جمعية العلماء من هذه التصريحات التي تبدو غير مبرّرة؛ فهناك من يقول أنّ جمعية العلماء تفرّق بين فرنسا الحضارية، وفرنسا الاستعمارية، وهناك من يرى أنّ العلماء (كانوا يؤكّدون على إخلاصهم الجمّ إزاء فرنسا بألفاظ يصعبُ الطعن في صدقها)، وهناك من الباحثين من فرّق بين الولاء السياسي، والولاء الشرعي، فأَوَّلَ النّصوص السّابقة على أنّه ولاء سياسي، أمّا الولاء الشرعي فأحكامه تُستسْقى من القرآن الكريم، الذي يشترط التلازم بين النّصرة العملية، والمودّة القلبية، وحسب نفس الباحث أنّ الجمعية لم تقع في الولاء الشرعي.
لكن الملاحظ على الكلمات الواردة في صُحف الحركة الإصلاحية أنّها نُشرت خصوصا على الصفحات الأولى، من الأعداد الأولى في السّنوات الأولى من الصّدور، ويعدّ ذلك مغازلة من جمعية العلماء لسلطة الطاعون الفرنسي، حتى تسمح للجرائد بالصدور، ولا تعاملها كما عاملت المنتقد، وغيرها، وحتى توافق فرنسا للجمعية على تأسيس المدارس العربية الحرّة، خدمة للثوابت الوطنية، التي تميّز الأمّة الجزائرية عن الأمّة الفرنسية، كما لـمّح الشيخُ عبد الحميد بن باديس لذلك، في سياق ثنائه على فرنسا الديمقراطية التي يستحيل أن تندمج فيها الأمّة الجزائرية، رغم اعتراض غلاة الاستعمار .
ومرجعية جمعية العلماء في معاملة فرنسا بهذه الطريقة؛ هي “قاعدة مقاصدية”، وردت في الفصل الثالث، من القانون الداخلي لجمعية العلماء المسلمين، المؤرّخ عام 1931م، حيث كتب الشيخ البشير الإبراهيمي: “تجري الجمعية أعمالها على أربع قواعد؛ وذكر منها: “درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة”، انطلاقا من هذه القاعدة الأصولية بَنَتْ جمعية العلماء أسلوب دعوتها لأجل محاصرة سلطة المحتل الفرنسي ثقافيا، من خلال افتكاك مقوّمات الإصلاح، والاستثمار فيها، ممّا أحيا في الأمة الجزائرية جذوة المطالبة بحقوقها. ولا معنى “للمصلحة” إذا لم تحقّق مقصدا من مقاصد الشريعة الخمسة؛ التي منها “حفظ الدّين”، وممّا تجدر الإشارة إليه هنا أنّه قد يُعبّر بالمصلحة عن: “جلب المصلحة”، وعن “درء المفسدة” كذلك، لأنّ درء المفسدة جلبٌ للمصلحة .
بهذا التفكير اختزلت جمعية العلماء أشواطا كبيرة في القيام بإنجازاتها، حيث كانت ترى أنّ الثناء -وليس الولاء- على “الحكومة الفرنسية”، كما سبق ذكره؛ “يجلب مصلحة” لها، ومنه التوجّه نحو تحقيق مقصد “حفظ الدّين”، الذي من مظاهره بناء المساجد، والمدارس الحرّة، والتعليم، كما “يدرأ مفسدة” -ولو كانت نسبية- البطش والتضييق على مختلف نشاطات جمعية العلماء، وعدم التعرّض لسبيلهم، وهذا يعكس رسوخ إطارات الجمعية في العلم الشرعي، والإحاطة التامة بمقاصد الوحيَيْن، يقول نور الدين ثنيو: (فهم مثقّفون يقرؤون ويدرسون كثيرا، ولا يمكن اطلاقا أن نستغربَ اطّلاعهم المدهش على قضايا ومسائل معيّنة)، ولذلك قال الإبراهيمي: (الإسلام يراعي المصالح الزمنية، ويبني أحكامه على تطوّراتها، ويَكِلُ إلى عُلمائه الرّاسخين في فقه الكتاب والسنة أن يراعوا لكلّ وقت أحواله، وأن يقيموا الموازين على أساس جلب المصلحة، ودرأ المفسدة).
وبتلك الطريقة تجاوزت جمعية العلماء أغلب التحدّيات والعراقيل، حيث انتبهت فرنسا إلى الهدف الجوهري من انبعاث الجمعية. ورد في العرض الذي قدّمه رئيس مصلحة الاتّصالات لشمال إفريقيا النقيب شادرون؛ رسالة بتوقيع السّيد بيروتون peyrouton “الأمين العام للحكومة وقتذاك”، المؤرّخة في 08 أوت 1932م وممّا ورد فيها: (الحقيقة أنّ جمعية العلماء تُخفي مرامي مريبة، حتى ولئن تذرّعت بوسائل تبدو من الناحية الشكلية معتدلة ومسالمة، لأنّها تنتقد الحضارة الغربية، من أجل النيل من القضية الفرنسية، فهؤلاء العلماء المولعون بالمثل الإسلامية الرّجعية، يبحثون في حقيقة الأمر عن الوسائل التي يناهضون بها الحضارة الفرنسية) .
وبناء على دعوة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى استقلال المفاهيم، كانت النتيجة استقلال الثوابت، ومنه -حتما – استقلال الوطن.