بين مستعمر فرنسي شديد بليد وشعب جزائري مكافح رشيد: قراءة في منارين : «منار» العروة الوثقى في باريس و«منار» جزائر بن باديس
أ. محمد مصطفى حابس جنيف/سويسرا/
ونحن نستعد للاحتفاء بالذكرى الـ 92 لتأسيس جمعية العلماء، أو على حد تعبير أستاذنا سي الهادي الحسني “خير جمعية أخرجت للناس”، الذي يصادف هذه السنة يوم الجمعة 5 ماي، حري بنا أن نعود للتاريخ لنتأمل، ما عاناه رجال جبال، من هذه الأمة من المعاصرين الذين عاشوا في الغرب وأوروبا خصوصا قبلنا بعقود، منهم على سبيل الذكر لا الحصر، من رجال الجزائر أمثال الفضيل الورثلاني (1900–1959)، ومالك بن نبي (1905- 1973 م)، وشيخنا العلامة محمود بوزوزو (1918- 2007م)، وقبلهم من غير الجزائريين أمثال جمال الدين الأفغاني (1838-1897م)، ومحمد عبده (1849 – 1905م) رحمة الله عليهم جميعا، وما يعانيه من حصار ذوي القربى لحد الساعة بعض مشايخنا وأئمتنا وبعض مفكرينا، أمام هذه القامات مع قلة عتادها ووسائلها، لا يسع المنصفين إلا أن يستصغروا جهود أبناء جيلنا اليوم، ونقول عن أنفسنا أين نحن من أولئك الأسود الفحول!. أقولها صادقا لا تزلفا، لما أقرأ ما كتبه شيخنا العلامة محمود بوزوزو في جريدة “المنار” في خمسينيات القرن الماضي، وأيضا ما كتبه رفيق دربه الشيخ سعيد رمضان في مجلة “المسلمون” لسان حال المركز الإسلامي بجنيف، فأجد بونا شاسعا، بين رجال اليوم ورجال الأمس القريب!!
بين جهادين رجال اليوم ورجال الأمس القريب
وهذا الشيخ سعيد رمضان المدير الأسبق للمركز الإسلامي بجنيف، يكتب هذه اللطائف غاية في الأهمية، عن تاريخ المسلمين- حتى في أحلك عصوره- كان عامرا بسير “الرجال” الذين جددوا لهم أمر دينهم ووهبوا لهذا الدين خالصة نفوسهم وزهرة حياتهم، وبقيت سيرهم نماذج من أعز التراث وأنفسه للعاملين من بعدهم: يستوحونها، يعتزون بأخبارها، ويصلون جهادهم بجهاد سلفهم الصالح، عملا بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم):” إنَّ اللَّهَ يبعثُ لِهَذِهِ الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها” صحيح أبي داود/ الرقم: .4291.
من هؤلاء “الرجال” من كان مجيئهم على موعد مع ظروف تاريخية مواتية أحسنوا فهمها، والتفاعل معها، فاستطاعوا ركوب مدها الصاعد إلى حيث أعزوا الإسلام وأهله، ومنهم من قاد معارك التجديد الفكرية في فترات “الجزر”- حين استحكم طغيان العدو وفشت روح الهزيمة وانقطعت جمهرة الأمة، أو كادت، عن الشعور بذاتيتها المتميزة في محض دينها وتاريخها وتراثها، فكانت مهمتهم تحديا كاملا لتيار العصر، وإصرارا باهرا على إثبات مقدرة الإسلام في الغرب على استخلاص كيانه وتجديد شبابه وإحقاق حقه رغم زخرف الباطل وصولة المبطلين.
تاريخ “الرجال” حقيق أن يكون أجل في العبرة وأصعب في التوثيق :
والتاريخ لهذا الصنف الثاني من “الرجال” حقيق أن يكون أجل في العبرة، وأصعب في التوثيق:
أجل في العبرة لأن المسلمين اليوم في حالة “جزر” لم يسبق لها في التاريخ مثيل – وإن لوح المسئولون عنها وعن عواقبها بشعارات الإسلام ولبسوا لباس الحريصين على جمع شمل أهله ومدارسة قضاياه، أصعب في التوثيق لأن الحركات التي قادها هؤلاء الرجال- في عهود الانتكاس وغلبة الباطل- قد حيل بينها وبين التحدث عن نفسها ودحض إرجاف أعدائها، بل قد أمعن هؤلاء الاعداء في تلبيس الحقائق وتزوير الوثائق، كي يطمسوا معالم جريمتهم في الحاضر والمستقبل – كأنما لم يكفهم تضليل الأحياء فأحكموا ربقة طغيانهم حتى لا يفلت منها جيل يأتي من بعد، وكأنما سولت لهم سكرة البغي أن مسامع التاريخ – كمسامع المستضعفين– لا ينبغي أن تسمع إلا منهم، ولا يسوغ أن يبلغها إلا قولهم من دون الناس كلهم، اليوم وغدا وبعد غد !
وتجلية الحقائق وتمحيص الوثائق عمل ضخم لابد له من عنصر الزمن مع عنصر التحقيق التاريخي معا، وأصدق ما يصدق ذلك في الحركات الحديثة التي لا تزال ترزح تحت أغلال أعدائها الضارين في التلبيس والتزوير، مهما تسترت هذه الأغلال بغلالات من الشرعية المفتراه كذبا على الله والناس والتاريخ، ولكن عين الله لا يعزب عنها مثقال ذرة، ووعي الناس في مداه الممتد، عبر الزمان لا يحكمه سلطان بشر مهما بغى واستطال، ومرصد التاريخ الشاهق لا يلبث أن يكشف الخبيء ويحصي الشوارد والأوابد ويضيئ المعالم التي طمرها إفك البغاة إلى حين.
من سير “الرجال الكبار” الذين بذلوا من العرق الغزير والدم العزيز وكابدوا الجزر والمد للغة المخالب والأنياب:
فلا عجب أن يعاني العاملون للإسلام من قلة ما أدركته جهود المؤرخين – الأمناء!- في تحقيق سير “الرجال الكبار” الذين تحدوا التيار وكابدوا “الجزر” الغالب دون أن يواتيهم، إبان حياتهم، “مد” سانح يركبونه إلى ما أرادوا – رغم كل ما بذلوا لإدراك ذلك من الكدح المضني والعرق والدم العزيز. والعجب لا شك أقل حين يتصل الأمر بقادة الحركات الحديثة التي لا يزال أعداؤها يعيثون عيث الضباع الهائجة في غابة تتغشاها غواشي الروع من شرعة الغدر والغاب وهيجة النهم ولغة المخالب والأنياب.
وإذا كانت سير هؤلاء “الرجال الكبار” لا تجد ما هي جديرة به من التحقيق العلمي ولو إلى حين، ويتأثر بذلك جورها في إزجاء العبرة وتركيز الأسوة عند من يأتي بعدهم من العاملين، فإنه لا يقل عن هذا التخلف آخر يقع فيه كثير من مؤرخي السير حين تشغلهم جوانب المعركة مع أعداء الإسلام، وما تقلب عليهم فيها من صنوف الأذى والكيد والعدوان، فيغفلون عما ابتلي قادة هذه المعركة من مسارات قومهم وبني دينهم، بل رفاقهم الذين أعطوا بيعة الولاء والجهاد، وهو جانب من الابتلاء ما أكثر ما يكون أحز في النفس وأشد مرارة في المعاناة وأقصم للظهر- ذلك أن نوازله تدهم المبتلين بها من حيث يظنون الحماية والأمن، وتفجعهم في أعز ما يسكنون إليه- بعد فضل الله – من مشاعر الثقة والتناصر والوفاء بالعهد، على حد قول الشاعر :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
وأشد ما ينكب به “الرجال الكبار” على أيدي الذين عولوا عليهم في أمانة البلاغ وفي مكافحة عوادي السوء أمران :
أن ينتكس أفق الدعوة الفسيح المشرق في أفهامهم القاصرة، فيستحيل إلى عصيبات ما أنزل الله بها من سلطان، وأن ينتكس ولاؤهم لله والحق فتخالف بينهم الأهواء ويتنازعون على زيف الجاه والمتاع .
بين منارين: “منار” العروة الوثقى من باريس و “منار الجزائر” من شباب ابن باديس
من هؤلاء “الرجال الكبار” الذين ربط ورابط بين المنارتين الإعلاميتين، تلميذ بن باديس العلامة محمود بوزوزو وصحبه، الذين أسسوا جريدة المنار في الجزائر في خمسينيات القرن الماضي، مستلهمين دروسا وعظات على نسق بنيان “تفسير المنار”، لصاحبه جمال الدين الأفغاني، الذي تعلم منه الشيخ بوزوزو خيرا كثيرا، على حد تعبيره، رحمة الله عليهم جميعا.
معلوم أن الشيخ بوزوزو حُكم عليه بالنفي والإعدام في الجزائر من طرف المستعمر المغتصب وبعض عملاء الحدود فهاجر للغرب، كما حُكم قبله على الإمام محمد عبده بالنفي فهاجر إلى بيروت، ثم لحق بأستاذه وصديقه السيد جمال الدين الأفغاني إلى باريس وفيها أنشئت جمعية العروة الوثقى، وأصدرت صحيفتها، بنفس الاسم “العروة الوثقى”، التي أعجب الشيخ بوزوزو بخطها الافتتاحي الثوري وهو شاب في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وهنا يستوقفنا العلامة بوزوزو، مدافعا على اختياره لعنوان جريدته “المنار”، أنها “منارة”، جزائرية خالصة، لذلك تجده في افتتاحية تعريفه بها في عددها الأول، لا يخرج على الخطوط الحمراء التي تعلمها من الشيخ العربي التبسي والشيخان الإبراهيمي وبن باديس، موضحا أن جريدته لا تخرج عن روح ورسالة جمعية العلماء: أي عربية اللسان، إسلامية الروح، جزائرية الطرح والمنهج، قائلا لنا:” أن فرنسا كانت تتربص بنا، وبما نكتب وما نقول، وإلا وجدت مبررا في تهورنا أو غفلتنا، فتسارع إلى توقيف (المنار) وإجهاض مشروعها في مهدها من أعدادها الأولى !!.”
إدارة المنار تغربل الأقلام وترحب بما يخدم قضية الإسلام وحرية الأوطان:
كما يعترف الشيخ بوزوزو أنه كان متفتحا على كافة المصادر والمجلات الإسلامية، للاستئناس بطرحها، لكنه يغربل بما يخدم قضية الإسلام في الجزائر مرحبا بالأقلام الجزائرية أولا والعربية ثانيا، راجيا منهم عدم خذلان تجربته الفتية الواعدة، لذا نلمح تلك الافتتاحية الأولى للمنار خالية من أي تدخل خارجي !!..
«جمعية العروة الوثقى {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}»
وقد ذكر لنا يوما ما، أن فرنسا تريد أن تربط “منارنا” بمنار الأفغاني (الإرهابي في نظرهم)، لتجمد لنا عملنا الإعلامي الثقافي التربوي في أول أعداد المنار (الجزائرية)، لأن فرنسا ندمت لسماحها بميلاد “جمعية العروة الوثقى” أو “جماعة العروة الوثقى” بترابها أيام الأفغاني وعبدو في باريس، إذ تطالب هذه الأخيرة ضمنيا بتحرر الشعوب دون قيد أو شرط في المستعمرات الفرنسية خصوصا والغربية عموما، بأسلوب إسلامي ذكي مبطن، مراوغ للسياسة الفرنسية والبريطانية في البلاد المستعمرة !! ..
ثم يبين لنا الشيخ بوزوزو معنى وأبعاد العنوان في القرآن الكريم، فيقول رحمه الله:” لقد ذكرت كلمة (العروة الوثقى) في موضعين من كتاب الله تعالى، الأولى في سورة البقرة، في قوله تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:256]، والثاني في سورة لقمان، في قوله تعالى:{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}[لقمان:22]، وهي في كلا الموضعين قد فسرت بعدة تفسيرات، فقد فسرها بعض المفسرين بـ (لا إله إلا الله)، وقال آخرون هي الإيمان، وقال آخرون هي الإسلام، وقال آخرون هي القرآن، وكل هذه الأقوال – في نظر الشيخ – لا تعارض بينها لأن من تمسك بلا إله إلا الله فقد تمسك بالإيمان والإسلام والقرآن، والمقصود أنه تمسك بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت أركانه وكان المتمسك به على ثقة من أمره لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها أي لا انقطاع لها.. والله أكبر ولله الحمد”.
من أبعاد نص قَسَم الانضمام لعضوية هذه الجمعية الدعوية الربانية العجيبة
ويجد القارئ الكريم معنى وسبب ذلك دون عناء في نص قَسَم الانضمام لعضوية هذه الجمعية (العروة الوثقى)، وقسم الانتماء لهذه الدعوة الربانية العجيبة، وفيه يرى كيف قاد الإسلام حركات التحرر منذ فجرها، وكيف أعجب حتى الإمام بن باديس بمنهجها في عمومه.. وكيف كان الأفغاني يُذكِي شعلتها، من بعيد، من هناك في باريس !!
كان- أيامها – لابد لمن يريد الانخراط في سلك العاملين بجمعية “العروة الوثقى” أن يقسم اليمين الغليظ الآتية، وهي من وضع الإمام محمد عبده وكان نائبا للأفغاني، ويقول في هذا القسم :
” أقسم بالله العالِم بالكُلِّيِّ والجُزئِيِّ، والجَلِيِّ والخَفيِّ، القائمِ على كل نفسٍ بما كسبت، الآخذ لكل جارحةٍ بما اجترحت، لأُحَكِّمَنَّ كتاب الله تعالى في أعمالي وأخلاقي بلا تأويل ولا تضليل، ولأُجِيبَنَّ داعِيَهُ فيما دعا إليه، ولا أتقاعد عن تلبيته في أمرٍ ولا نهيٍ، ولأدْعُوَنَّ لنُصرته، ولأقومَنَّ بها ما دمت حيا، لا أفضل على الفوز بها مالاً ولا ولداً..
أقسم بالله مالك روحي ومالي، القابض على ناصيتي، المصرِّف لإحساسي ووجداني، الناصر لمن نصره، الخاذل لمن خذله، لأبذُلنَّ ما في وسعي لإحياء الأخوة الإسلامية، ولأنزلنها منزلة الأبوة والبنوة الصحيحين، ولأعرفنّها كذلك لكل من ارتبط برابطة العروة الوثقى وانتظم في عقد من عقودها، ولأراعينّها في غيرهم من المسلمين، إلا أن يصدر عن أحد ما يضرّ بشوكة الإسلام، فإني أبذل جهدي في إبطال عمله المضر بالدين، وآخذ على نفسي في أثره مثل ما آخذ عليها في المدافعة عن شخصي..
أقسم بهيبة الله وجبروته الأعلى، أن لا أقدم إلا ما قدمه الدين، ولا أؤخر إلا ما أخّره الدين، ولا أسعى قدما واحدة أتوهم فيها ضررا يعود على الدين، جزئيا كان أو كليا، وألاّ أخالف أهل العقد الذين ارتبطت معهم بهذا اليمين في شيءٍ يتفق رأيُ أكثرِهم عليه، وعلى عهد الله وميثاقه أن أطلب الوسائل لتقوية الإسلام والمسلمين عقلا وقدرة بكل وجه أعرفه، وما جهلته أطلب علمه من العارفين، ولا أدع وسيلة حتى أحيط بها قدر ما يسعه إمكاني الوجودي، وأسأل الله نجاح العمل وتقريب الأمل وتأييد القائم بأمره، والناشر لواء دينه، آمين ..”.
الكلمات التي أفاضت كأس “المنار” وأغضبت الاستعمار
بهذا الفهم الشمولي والخصوصي في بعض أبعاده، يسر الله للإمام العلامة محمود بوزوزو، مع كوكبة من أقرانه وأصحابه، لتفادي التصادم المباشر مع فرنسا ولو بعد حين، آخذا بعين الاعتبار الأسباب التي حُلت من أجلها بعض جرائد جمعية العلماء والتيار الوطني عموما قبيل الخمسينات، لتعمر المنار(الجزائرية)، بما يقارب الأربع سنوات من المهنية والعطاء – وهذا يعد سبقا إعلاميا محترما – حتى جاء اليوم الذي صودرت فيه “المنار” بعذر أوهن من بيت العنكبوت، ومنعت من الطبع والتوزيع بجرة قلم استكباري، علما أنها منعت أن توزع في المغرب وتونس مرات معدودات، أما هذه المرة فكانت الضربة القاضية في نظر الأعداء، لما كتب رئيسها وصاحب الامتياز فيها في العدد الأخير(رقم : 51) بتاريخ الجمعة فاتح جانفي 1954، مقالا، أقلق فرنسا وأتباعها، خاصة أن الجزائر كانت مقبلة على مخاض مصيري عسير أي على اندلاع حرب التحرير المباركة التي أعد لها الشيخ بوزوزو فكريا كوكبة من العلماء والوطنيين الخلص بسلسة من الاستفتاءات سنعود لها بحول الله قريبا، في قراءة خاصة، وكان عنوان افتتاحية العدد الأخير يومها:” معنى جهاد وعبرة واستسلام”، بمناسبة ذكرى 23 ديسمبر 1848، لنفي الأمير عبد القادر، مبينا بقوله” :التاريخ يعيد نفسه، وما هو إلا إقرار لسنة إلهية ثابتة تعبر عنها الفلسفة والعلم التجريبي بارتباط الأسباب بالمسببات. ومن تحصيل الحاصل أن يقال: لكل علة معلول، ولكل سبب مسبب، وكلما وجدت الأسباب وجدت المسببات وهي وليدة إرادة الإنسان ومشيئة الله، ولئن كانت مشيئة الله فوق كل شيء فلإرادة الإنسان دخل كبير في صنع التاريخ وإلا بطلت مسؤوليته، ومن هنا تتجلى الحقيقة الخالدة الواردة في الآية:{إِنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} وهي تفسر ارتباط الإرادة الإنسانية بالمشيئة الإلهية الوارد فيها:{قُلِ اللَّـهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. فالإرادة الإنسانية تنحصر في الأخذ بالأسباب إبراءً للذمة، والمشيئة الإلهية تتعلق بوضع المسببات مع الأسباب إقرارًا للعدالة السامية التي جعلها الله من حقوق المؤمنين عليه {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} حين يأخذون بالأسباب {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}..(نعود لهذا الموضوع بحول الله في مقال مساقل).
المنار تفرض نفسها بأهدافها النبيلة
عرف الشيخ محمود بوزوزو، جريدته وأهدافها في السنة الأولى، العدد الأوّل، بتاريخ الجمعة 21 جمادى الثانية 1370، 29 مارس ، 1951متوجها للقارئ العربي والمسلم عموما، بهذا النداء النضالي في مقال افتتاحي طويل جامع شامل، نقتطف منه ما يلي:
أيها القارئ الكريم، كانت في النفس أمنية قديمة ترمي إلى خدمة الرأي العام الجزائري في نطاق واسع، ولكن حالت دون تحقيقها حوائل صرفت الهمة إلى خدمة الأمة في ميدان خاص…
وكانت هذه الأمنية تحوم حول إصدار مجلة تشمل جميع ميادين الحياة الجزائرية، بحيث يجد فيها العالم ما يزيده إيمانا بالحقائق العلمية، والسياسي ما ينبه حاسته السياسية، والأديب ما يذكي قريحته، والشاعر ما يلهم عبقريته، والفنان ما يشجعه، والتلميذ ما يزيده شغفا بالدرس، والمرأة ما يقوي شعورها بمسؤوليتها، والمتدين ما ينعش روحانيته، والشاب ما يزيد همته علوا.
وما زالت الأمنية تلح في البروز للوجود حتى يسر الله تحقيقها، وها هي اليوم تبرز في ثوب جريدة، ريثما تتيسر الأسباب للمجلة المرجوة.
وقد سميتها “المنار” تفاؤلا ورجاء أن يؤتيها الله نورا من لدنه تنقشع به الظلمات الحالكة التي تخيم على أمتنا في جميع الميادين، وسيرسل “المنار” أشعته تطارد الظلام أينما حل، وتنير السبل للمارين أنى كانت وجهتهم؛ السياسة أو الثقافة أو الدين أو الحرية.
المنار جريدة سياسية ثقافية دينية حرّة
المنار جريدة سياسية، وللسياسة رسالة وهي السير بالمجتمع إلى إقامة أسمى نظام يكفل لجميع أفراده، ذكورًا وإناثًا، الأمن والهناء وحفظ الكرامة، ونمو المواهب بحرية تامة والعمل في ظل الطمأنينة.
المنار جريدة ثقافية، وللثقافة رسالة وهي السير بالفكر البشري إلى إدراك حقائق الأشياء والأحياء واستغلالها لفائدة الإنسان.
المنار جريدة دينية، وللدين رسالة وهي السير بالبشرية إلى تحقيق معاني الرحمة والحب وتسخير الحقائق الأرضية للحقائق السماوية.
المنار جريدة حرة، وللحرية معنى كثر مدّعيه وقلّ واعيه، وهو عدم التقيد بإرادة أحد، وعدم الخضوع لجبروت أحد، والسير بالاختيار المطلق مع الوقوف عند حدود حرمة الغير.
المنار يرى أن رسالة الصحافة هي خدمة الحق وتنوير الأفكار وإنعاش الضمائر ورفع مستواها وتوجيهها إلى الخير.