ملف

الذّكرى الثانية والتّسعون لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

زبير عمامري/

في الذكرى الواحدة والتّسعين لميلاد جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين كتبت مقالا جمعت فيه بين النّقد والاستشراف وبين مخاطبة العقل واستثارة العاطفة، وكان قصدي أن أحرّك في رجال الجمعيّة ونسائها روح التّوثب إلى المعالي ليراجعوا المسار والمسيرة معا، لأنّ الحركة التي لا تنظر بعين البصيرة إلى منجزاتها فتدفع بها إلى الطّليعة، ولا تنظر بصرامة العقل إلى إخفاقاتها فتعيد تصويبها أو الاعتبار بها؛ هي حركة تصادم طبيعة الاجتماع الإنساني، وتدير ظهرها لسنن العمران البشري فلا هي تتوثّب إلى الحياة فتحيي روح المجد في الأمّة، ولا هي تدفع في معتركها فتذكي جذوة النّار الملتهبة في كينونة رجالها وقبسة النّور الهادي من كتاب ربّها.. فـ «إنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى»…

وفي ذلك المقال كتبت أنّنا سكارى بمجد الجمعيّة ومنجز رجالها؛ ما أذهلنا عن واقعنا، فلم ندرِ أنّنا نراوح مكاننا ونحن نعتدُّ بالسّير المتطلّع إلى ذلك المجد، وقلت حينها:
(فعلى رجال الجمعيّة ونسائها:
*- أن يستلهموا تاريخها بعقل ناقد على بصيرة، ورأي ناصح على علم، فيعيدوا للفكرة وجودها المنسجم مع المكان والزّمان والإنسان، وللخطّة حركتها المواكبة للحاجة والإكراه، والمحققة للمصلحة والقصد، والمدركة لطبيعة المرحلة وعلائقها المتشابكة محلّيا وعالميا.
*- أن يرسموا خطّا زمنيا يؤسّس فيه لمشروع قائم على الميزان، يُقلَّب فيه النّظر بتأنّ وصبر، نهايته ملتقى العاملين في الجمعية العامّة القادمة.
*- أن يعيدوا بناء الهيكل التّنظيمي للجمعيّة بما يعطيها من الفاعليّة، والقوّة المثمرة، ويعينها على أداء الرّسالة، وتحقيق الأهداف.
*- أن يدركوا أنّ الجمعيّة يوم وُلدت، وُلدت لغاية عظمى هي بناء جيل صحيح الفكرة، ولو بقليل من العلم، واليوم هي الغاية العظمى نفسها التي على الجمعية أن تحوم حولها علما، وعملا، وتخطيطا، وحركة، ولن تتحقّق هذه الغاية العظمى إلاّ إذا وضعناها في صلب مشروع مقصده إقامة الدّين بإقامة الدّنيا، وإقامة الدّنيا بإقامة الدّين))
وها أنا ذا أعيد الكّرة في ذكراها الثّانيّة والتّسعين ونحن مقبلون على عقد جمعيّتنا العامّة السّادسة بعد بعثها إلى الوجود، لأردّد مقولة الشّيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله: (يا أبناء- الجمعيّة – هكذا كونوا أو لا تكونوا)، نعم إمّا أن نستجيب لحركة الحياة التي لا تقبل الفراغ، أو نركن إلى السّكون الذي ينتشي صاحبه بمجد مزيف، وطمأنينة مزوّرة؛ حتى إذا وجدنا لذّة بلوغ الغاية، وتحقيق الإنجاز، أدركنا حجم الوهم الخادع {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}.
هكذا إمّا أن نكون أو لا نكون، فأمامنا منعطف ذو شأن؛ – وبقدر ما هو لقاء عادي نجتمع فيه لنجدّد العزم، ونجدد القيادة، ونرسم ما اعتدنا على رسمه مما هو مألوف الرّسم، والتّطلع – فهو كذلك يأتي هذه المرّة والجمعيّة أمام مفترق طرق، تبحث عن ذاتها، ورجالها يتشوّفون إلى غد مشرق نتبيّن فيه النّهج والمنهج، وتزيّنه الرّؤية القاصدة والعمل المرصود.
إنّ جمعيتنا اليوم مدعوّة – في شخوص رجالها ونسائها – إلى أن تستجيب لخط الرّسالة كما استجاب مؤسّسوها لذلك الخط الذي يرتسم في أفق الوحي وهو يرفل في زينته، ويتمثّلون الدّعوة الإسلاميّة الأولى وهي تواجه طغيان الشّرك وباطله، فاستجابوا حينها كما استجاب السّلف لنهج: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، وحقّقوا:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}، فالدّعوة الأولى تحرّكت تحت ظلال النّبوّة يرشِّدها الوحي وهو يتنزّل مفرّقا طيلة ثلاث وعشرين سنة، بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وصاحب الرّسالة يتلو على النّاس الكتاب ويعلّمهم الحكمة ويزكيهم، حتى إذا بلغت الحجّة وانقطع العذر كان للدّفع نصيبه بالعدل والإحسان، فأقام البنيان وبنى الإنسان ثمّ نادي: (ليَبْلُغَنْ هذا الأمرُ ما بلغَ اللَّيلُ والنَّهارُ…) ….
تأمّلوا حركة الرّسالة وسعي النّبوّة في سيرة المصطفى -صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم- ستلمحون بوارقها مرسومة خطوة خطوة، وستدركون مسيرها راتبا متراكبا كالعقد المرصوف يجمع بين جمال الفعل وجمال البلوغ لا يتخلّف فيه شيء عن محله أوعن مُقامه، كل فعل يحقق مقاصده وكلّ قول يحدث أثره فإذا كان النّصر فرح به المؤمنون وإن كان غيره كان درسا وعبرة يشدّان بناء يثمر فيما بعده لأنّ القائد المسدّد بالوحي أو بالمشورة يحسن إحكام السّنن ويعلم أنّ البلوغ لا يتخلّف عنها إلا إذا قضى الله أمرا كان مفعولا .. {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
كرّروا النّظر في مثل هذا وتدبّروه:
– …أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كلّه…
– …فإذا عزمت فتوكّل على الله…
– …ليَبْلُغَنْ هذا الأمرُ ما بلغَ اللَّيلُ والنَّهارُ…
إنّها دعوة لا تتحرّك خارج سنن الله التي أحكم بها هذا الكون بما فيه ومن فيه، وكلّ حركة لا تتمثّل هذا النّهج وتتخذ من هدي النّبوة، وخط الرّسالة صراطا مستقيما، فتفقه سنن التّغيير وتعي سطوتها على الحياة، فتحسن إدارتها فهما وتخطيطا وحركة؛ فهي حركة مخذولة وإن ظنّ أصحابها أنّهم يحسنون صنعا.
إخواني في جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين لقد أطلت وأنا أمهّد لما سألقيه عليكم من رأي ونظر لأننا قبل كلّ شيء نحمل دعوة ربّانيّة تستمد شرعية وجودها من انتسابها للدّعوة الأولى منطلقا وغايّة، ونستمدّ منها الشّرعة والمنهاج، ولأنّنا نحمل همّ أمّتنا وهي تتطلّع إلى حياة العزّة والعلوّ، ولأنّنا نسعى إلى تحرير الإنسان عسى أن نخرجه من الظلمات إلى النّور. ومن ثمّ فلا عذر لنا إن آثرنا السّلامة الزّائفة عن الرّشد المكين، فجمعيتنا وهي تتجه إلى محطة مفصليّة في تاريخها؛ ونحن ملزمون بأمر الله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}، ومدينون لرجال أخذوا العهد على أنفسهم: «أن يعيشوا للإسلام، وأن يعيشوا للجزائر» فهل نحن مستجيبون لأمر الله؟ وهل نحن موفون بالعهد لهؤلاء؟، إنّها والله لأمانة وإنّها يوم القيامة خزي وندامة لمن لم يوفّها حقّها، ومن حقها أن نسعى لها سعيها الذي يحقّق شرطها، ويلزم رشدها، ويبلغ قصدها، وينجز وعدها، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
ملامح جمعية العلماء المسلمين التي نريد
إنّ الجمعيّة التي وصفها رئيسها الأوّل مؤمّلا أن يعيش رجالها للإسلام وللقرآن وللجزائر كما أخذ العهد على نفسه أن يعيش هو للإسلام وللقرآن وللجزائر، وصفها قائلا: (أنّ هذه الجمعية متضامنة في جميع أعمالها لا يشذّ عنها إلا من شذ)، وهي جمعيّة (ثابتة الأركان مشيدة البنيان باسقة الأفنان دانية الثّمار وارفة الظلال- لا على الجزائر وحدها بل على الشّمال الإفريقي كله-)، وهي جمعيّة (على اسم الله نخطو هذه الخطوة نحو الغاية التي نعمل إليها من ترقية المسلم الجزائري في حدود إسلاميته التي هي حدود الكمال الإنساني، وحدود جزائريته التي بها يكون عضوا حيّا عاملا في حقل العمران البشري) ، و(ينبغي لكل قوم جمَعهم عملٌ أن يفهمَ بعضُهم بعضًا، كما ينبغي أن يفهموا العمل الذي هم متعاونون عليه؛ ليكونوا في سيرهم على بصيرة من أنفسهم وعملهم، فقد يجتمعُ قوم على عمل مع اختلاف منازعهم فيأخذ كل واحد يجذب إلى ناحية فتقع الخصومة ما بينهم وينقطع حبل عملهم، وربما انتهى بهم الأمر إلى افتراق وعدوان، ولو أنهم في أول الأمر تفاهموا، لما تخاصموا).
ويقول رئيسها الثّاني: (لا يطلق- في هذا المقام- لفظ حركة في العرف العصري العام إلّا على كلّ مبدأ تعتنقه جماعة وتتساند لنصرته ونشره والدعاية والعمل له عن عقيدة، وتهيئ له نظامًا محددًا وخطة مرسومة وغاية مقصودة).
هكذا أيها الأحباب هي جمعيّتكم لمّا أقامها الرّواد: «جمعيّة متضامنة، أهلها يفهمَ بعضُهم بعضًا ويفهمون العمل الذي هم متعاونون عليه؛ ليكونوا في سيرهم على بصيرة من أنفسهم وعملهم، ويجتمعون على مبدأ ينصرونه ويعملون له عن عقيدة، ويتحرّكون لنشره في نظام وخطّة وغاية مقصودة، تمكّن من ترقيّة المسلم الجزائري في حدود إسلاميته التي هي حدود الكمال الإنساني، وحدود جزائريته التي بها يكون عضوا حيّا عاملا في حقل العمران البشري».
وهي اليوم تتطلّع إلى أفق جديد يرتكز على الملامح نفسها ولكن بنفس جديد وروح تواكب العصر وتستشرف المستقبل، هذا التّطلّع يدعونا إلى:
*- أن نجعل من اختلافنا قوّة لا ضعفا، وتنوّعا لا فرقة، فإنّ الاختلاف سنّة الله الماضيّة في الكون، وسرّ الله في الخلق، فمن رام رفعه صادم ناموسه وحادّه في أمره ونازعه في ملكه، وفي محكم التّنزيل نهانا ربّنا عن التّنازع والبغي والافتراق وحذرنا من عاقبة ذلك فقال: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وقال جلّ شأنه{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}.
*- أن نتحرّر من التّعصّب للرّأي أو الشّخص أو الطّائفة مهما كانت الدّواعي والأسباب وليكن حالنا كحال أسلافنا فهذا عمر بن عبد العزير رضي الله عنه يقول:(ما يسرني أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يختلفوا) وأن ندرك أنّ الاختلاف نوع من التّدافع اللازم لتثوير الحركة وتفجير التّحدي الذي يحقّق الإنجاز ويعطينا مفاتيح معرفية مهملة في مجتمعاتنا.
*- أن ننتصر للقيم والمبادئ وأن نحتكم للمناهج والأصول وأن نتأدّب بأدب الاختلاف بعد فقهه وفهمه، فليس عيبا أن تدافع عما عندك من فكر أو رأي أو قضية؛ إنّما العيب أن تجعل ذلك مسألة شخصية تسلك فيها رديء الطّبع وقبيح القول وتفْجُر في الخصومة؛ وأنت تظهر الورع وتدّعي التّقوى وتباهي برساليّة المعركة الواهمة.
*- أن نحفظ لهذه الجمعيّة وجودها فهي أمانة في أعناقنا، ويا ويحنا إن فرّطنا فيها، فنهدم صرحا هو عين هوّيتنا، وعندها يقال لنا كما قيل يومها «لأبي عبد الله الصّغير: ابك كالنّساء ملكا لم تحافظ عليه كالرّجال». ومن تضييعها أن تبقى عنوانا باهتا يتفيّأ ظلالها الكسالى والعاطلون الذين يقتاتون على بقايا مجدها الآفل.
*- أن ندرك أن سنن الله في الأفراد والجماعات حاكمة علينا وعلى جمعيّتنا، فهي سنن لا تحابي المؤمن لإيمانه ولا تخذل الكافر لكفره، وإنّما هي جادّة من سلكها بلغ، وما التّأييد إلّا سنّة خص الله بها أهل الإيمان لمّا اتقوْا وصَبروا وأعَدّوا.

جمعيّة العلماء في بعثها الجديد
هكذا نأمل ونحلم أن تكون الجمعيّة العامّة السّادسة لحركتنا منطلقا لبعث جديد يقوم على العدل والإحسان ويتطلّع إلى أفق من العمل الموزون الذي يبلغ الغايات ويحقق المقاصد بإذن الله.
ولتحقيق هذا الأمل فقد وضعت وثيقة مرشدة حاولت فيها مجتهدا أن أضع الإطار النّظري الذي أحسب أنّه كفيل – إن صدقت نياتنا وتجردنا للحق وأدركنا إيمانا أننا نعيش للإسلام وللقرآن وللجزائر – برسم المنهج وضبط الرّؤية وتسديد الحركة ثم ينبثق المشروع؛ ومن كلّ ذلك يُصنع البناء التّنظيمي ويرشّد السّير المالي والإداري ليكون كلّ عامل على بيّنة من أمره يدرك خط سيره ويعي مقاصده ويفرح بمنجزه.
هذه الوثيقة عالجت أهم الجوانب التي يجب أن يتّجه إليها النّظر والتّدبير، تشخيصا ورسما لملامح المنهج والرّؤية والحركة، وتنبيها لمعالم السّياسة المالية الرّاشدة جمعا وإنفاقا وضبطا، وبيانا لضرورة البناء التّنظيمي المناسب للمرحلة، وتذكيرا بأهمية صناعة القرار ، وصناعة الموقف وغيرها من القضايا اللازمة لسير منضبط راشد يجمع بين العلم والعمل وبين الحكمة والرّشد وبين التّخطيط والتّنفيذ …
(وفي تصوري أن خطّة المراجعة والتّشخيص وإعداد المشروع يجب أن تتأطّر بهذه المعالم حتى نصل إلى المبتغى الذي نريده:
1/- لنفهم الجمعيّة فكرة ومنهاجا:
أ‌- فجمعية العلماء المسلمين الجزائريين حركة إصلاحية بالمفهوم القرآني للإصلاح:
فإذا أردنا أنْ نعيد للجمعيّة ذلك الزّخم الذي أهّلها برجالها لتحقيق المنجز العظيم الذي تعالت به حتى غدت أمّ الجمعيات، ورائدة النّهضة، فعلينا أن نفهم منهجها فهما دقيقا وأن ندرسه بعناية وعمق بعيدا عن الربّط بالرجال مهما كانت مكانتهم ودورهم تاريخيا أو في الحاضر، ثم نترجمه إلى منهجية شاملة تمثّل الرّؤية المحدّدة للممارسة والعمل في مرحلة محدّدة زمنيا، المنهجية المناسبة والملائمة لمتطلبات العصر والنّوازل التي نعيشها في زماننا ..
ب‌- منجزات الجمعية التاريخية:
إنها تمثّل جهد رجالها الأوائل في تمثل المنهج تنفيذا وممارسة واجتهاداتهم في الإجابة على التّحديات التي اعترضت حركتهم لتحقيق الأهداف والغايات، وكلّ ذلك يُستأنس به ويستفاد منه في تلمّس الرّشد المحقّق للمنهجيّة التي ترتبط بالمنهج دون أن تبتعد عن الواقع وعن العصر.
ت‌- طبيعة الجمعية:
هل جمعية العلماء تنظيم جمعوي محدود الأهداف والمقاصد، أم كيان فكري يستخدم المؤسسية كأداة فقط لضمان استمراريته وضمان فعاليته؟ أم الاثنين معاً؟ وما هي غايات الجمعية وأهدافها الآن؟ وما هي وسائلها الآن؟ وما هي مراحل مشروعها؟ وما الذي أنجز منه وما الذي لم ينجز؟ وهل كان مشروعها ناقصا أم مكتملا؟ وما الفراغ الحضاري الذي ملأته الجمعية؟، كل هذه الأسئلة وغيرها ، إذا استطعنا أن نجيب عنها فإني أظنّ أنّه يمكننا أن نقول «قد فهمنا الجمعية».
2/-رسالتنا الكبرى التي تهيمن على أعمالنا وتوجّهاتنا هي إقامة الديّن :
قال الله تعالى: {وأن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}، وإقامة الدّين هي النّهوض به وإظهاره وتوفيته حقّه بالعلم والعمل، وبالبيان والبلاغ، والنّهوض بالدّين الكامل عمليّة طويلة المراس ومحفوفة بالصّعاب، وتتطلّب فقه الدّين أولا وفقه التّنزيل ثانيا وفقه التّدين ثالثا، وبقدر نجاحنا في تمثل هذه الحقيقة واستلهامنا هذا المعنى وترسّخ هذا المفهوم القرآني في نفوسنا وعقولنا ليهيمن على روح مشروعنا نكون على منهاج النّبوة فكرا وسلوكا وعملا ونحقّق بذلك ما يجنبنا ويجنب أمتنا معارك استنزفت وماتزال قدراتنا وأوقاتنا وأرواحنا ..
—-وقال الشيخ الإبراهيمي رحمه الله: (وأنّها- في حقيقتها- شيء واحد، هو الدّين، وهو الإسلام، وأن ضياع بعضها مؤذن بضياع سائرها، أو هو ذريعة له، فلا يقوم دين الله في أرضه إلا بإقامة جميعها، وإذا قال القرآن: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} … (الآثار ج4/ص110).
وقال: إن محمدًا – صلى الله عليه وسلم – يطالبكم بإقامة الدّين لا بإقامة المولد، وإنّ دينكم دين الحقائق والأعمال والنُّظم فارجعوا إلى تلك الحقائق وانصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم. (4الآثار، ج4/ ص144).
فإذا أقمنا الدّين وأحسنّا السّعي لإقامته في النّفوس وفي واقع النّاس، حققنا التّمكين في الأرض، وأنشأنا حكم العدل وسياسة الرّشد والإحسان.
3/- استبعاد عقيدة المنقذ:
تفكيرنا في المشروع وفق منهج إقامة الدّين يجب أن يضع نصب أعيننا استبعاد فكرة المنقذ التي هيمنت على كثير من الحركات الإسلامية، وعلى كثير من دعاتها وقادتها، فإذا كانت غايتنا إقامة الدّين انتفى عن نفوسنا، وعن جمعيتنا التّعالي المقدّس عن النّاس، ولم نتحرّك بوعي المنقذ المخلّص والفرقة النّاجيّة الذي يتصف بالخيرية الكاملة، واعتقاد السّمو والطّهارة وامتلاك الحقيقة المطلقة.
فيكون بذلك مشروعنا برجاله ومؤسساته خادما للأمّة يتقدّمها في التّضحية والعطاء، غير متميز عنها ولا مقصيا لها.
4/- مشروع يقوم على مبدأ ‘’وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان’’
وهو من صميم إقامة الدّين أنْ نتعاون مع الآخرين ومع غيرنا، فيتحوّل المشروع من مشروع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين المحدود إلى مشروع أمة في مقاصده الكبرى وغاياته العليا.
5/- المهام الكبرى للجمعية:
وهي مهام محوريّة مركزيّة، تلقي بظلالها على المشروع وتهيمن على تفاصيله، بل إنّ المشروع يهدف في الحقيقة إلى الإنجاز الذي يحقّق هذه المهام الثّابتة الكبرى، وقد تضمّنتها الآية الثّانيّة من سورة الجمعة يقول ربّنا تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.
وهذه المهام الكبرى هي:
–  الدّعوة إلى الله أو البلاغ المبين [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ].
– التّربية والتّكوين[وَيُزَكِّيهِمْ].
– الإعداد[وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ].(التّأهيل، التّدريب، إعداد القيادات والكفاءات المتخصّصة، المفكرون، العلماء…).
فهذه المهام الكبرى ثوابت تندرج تحتها وضمنها كل أعمال الجمعية المتنوعة والمتجدّدة، الثّابتة والمتخصّصة والظرفيّة، فما من نشاط إلّا وله علاقة ما مع واحدة أو أكثر من الثّلاثة المذكورة.
6/- تناغم المشروع وانسجامه مع المهام العليا للجمعيّة:
من الضّروري أنْ يتناغم المشروع في مراحله المختلفة مع ضبط الأعمال والأنشطة المتخصّصة الخادمة للمهام الكبرى. وهذه الأعمال يراعى فيها الأولويات والإمكانات واحتياجات المرحلة من ذلك: الأعمال المتعلّقة بالأسرة والطفولة، الأعمال المتعلقة بالشباب والرياضة…إلخ
7/- هيمنة فقه التّحرر والتّحرير على المشروع:
المشروع في كلياته وجزئياته ومراحله وخططه يجب أن تهيمن عليه هذه المقاصد العليا في تصوّرنا، وأنْ نعمل بكل جدّ على ترسيخها والانتصار لها دون خوف أو تردّد:
Ⅰ- الحريّـة
Ⅱ- النّقــد
Ⅲ- البعد الإنساني في مجالي:
 – فهم الدّين.
 – فهم التّدين.
IV- الإبداع والتّجديد.
V- التّرشيد: ترشيد الفكر، الفقه ، السّلوك ، العمل…
8/- البعد الأمني:
ونقصد به الأمن الفكري والثّقافي للمجتمع، فتحدّيات العولمة، والمركزية الغربية المهيمنة، وانحسار الخصوصيّة أمام هذه الهيمنة، خصوصا لما أصبح الزّمان والمكان شبه ملغى في ضوء الانفجار التّكنولوجي وطغيان الرقمية والفضاء الأزرق، جعل من قضية الأمن الفكري والثّقافي أولويّة مركزيّة تفرض نفسها على أي مشروع للنّهضة.
9/- التّخطيط الاستراتيجي:
ترجمة هذا المشروع في مخطط استراتيجي قابل للتّنفيذ، دقيق وواضح يحقّق جملة من المخرجات الأساسيّة نحدّد بعضا منها في الآتي :
*- إطلاق حركيّة فكريّة تعيد تشكيل العقل المسلم في بلادنا بما يحقق انطلاق المشروع المؤسّس للنّهضة.
*- إثارة حوار قوي وصادق يناقش كل شيء بروح متحرّرة ناقدة تعطي لكلٍّ من العقل والنّقل ما يستحقه ويليق بشأنه ودوره ومجاله.
*- أنْ نتوصّل إلى وضع معالم الانسجام والوحدة في إطار الاختلاف والتّنوع والتّعدد الفكري والمذهبي.
*- العمل على بعث حركة تأليف وإنتاج فكري منظر ومبدع في المجال: العقدي، الشّرعي، الفكري، السّياسي، الاجتماعي، التّاريخي، الأدبي، النّقدي، الفني، التّربوي،…).
وفي ختام هذه الأسطر أذكّركم ونفسي بكلمات أرسلها الإمام الرّئيس محمّد البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى فقال:
(أيّها الإخوة الكرام إنّي لم أر مثلا أضربه لجمعيتكم هذه وهي لم تزل في المهد إلاّ شيئا نسميه تباشير الصّبح ــ هو تلك اللمع المتفرقة من النور في الشرق قبل أن ينشق عمود الفجر؛ يرتاح لها الساري في ظلمات الليل لأنّه يرى فيها العنوان الصّادق على قرب الخروج من المعاسف والخبط في مضلات السبل ويرتاح لها المهموم السّاهر الذي يبيت يراعي النّجوم لأنّه يرى فيها متنفسا لهمه وسببا لسلواه وإن لم تكن حدا لبلواه، ويرتاح لها المقرور الشّاتي لأنّه يرى فيها مخايل من آية النّهار، ويرتاح لها الناسك لأنّه يسمع فيها الداعي المثوب بعبادة ربه، ويرتاح لها الشاعر لأنّه يرى فيها مسرحا لخياله وأفقا لروحانيته، ويرتاح لها العامل الملتذ بعمله لأنه يرى فيها الأمارة المؤذنة بقرب وقت العمل، ولكن هل يدرك النائمون شيئا من تلك اللذة؟ نعم إنّ جمعية العلماء هي تباشير الصّبح وسترونها تتصدّع عن فجر صادق ثمّ عن شمس مشرقة) .- بإذن الله –
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} .

مداوروش في: 09 من شوال 1444هـ الموافق لـ 30 من شهر أفريل 2023م

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com