حوار في التاريخ مع الدكتور خير الدين سعيدي
د. بن سالم الصالح/
ناقش مؤخرا بجامعة استانبول التركية الباحث الجزائري خير الدين سعيدي أطروحة دكتوراه في التاريخ الحديث حول (النشاط الدبلوماسي خلال الاحتلال الفرنسي للجزائر 1847-1827مـ)، وتعد الأطروحة الثانية التي ناقشها الباحث بعد تلك التي ناقشها بجامعة قالمة (الجزائر) منذ أربع سنوات طرق فيها موضوع (الأوبئة بالجزائر العثمانية خلال القرن الثامن عشر والثلث الأول من القرن التاسع عشر). خير الدين سعيدي يعد من الباحثين الجزائريين الواعدين والطموحين والمقتدرين في تخصص التاريخ العثماني، هو من مواليد مدينة العلمة وخريج قسم التاريخ بجامعة سطيف2، حاز على شهادتي الماجيستير والدكتوراه في التاريخ الحديث من جامعة قالمة، واستفاد من منحة الدولة التركية للدراسة هناك قبل سنوات، وبحكم احتكاكه بمراكز البحث التركية والأوروبية وتحكمه في مختلف أدوات وآليات البحث الحديثة من لغة ومناهج فقد انعكس ذلك على أعماله البحثية من مقالات ومؤلفات على غرار: تحقيقه لمخطوط (الزهرة النائرة فيما جرى في الجزائر حين أغارت عليها جنود الكفرة)، وتحقيقه لمخطوط (نسيم النفحات في ذكر جوانب من أخبار توات ومن دفن فيها من الأولياء والصالحين والعلماء العالمين الثقات)، كما صدر له كتاب (كيف فككت القومية الدولة العثمانية)، وكتاب آخر حول (الأوبئة بالجزائر العثمانية)، وبهذه المناسبة ارتأينا أن نفتح معه حوارا حول تجربته البحثية بتركيا، وأهم ما تضمنته أطروحته للدكتوراه.
– العلمة مدينة تجارية مشهورة لماذا اختار خير الدين سعيدي المسار العلمي بدل مسار التجارة كغيره من شباب هذه البلدة؟
nn بكل صراحة ذلك ليس برغبة مني، بل هو القدر، إذ ليس من السهل الدخول لعالم التجارة في مدينة مثل العلمة تحتاج فيها إلى أضعاف رأس المال الذي قد تحتاجه في مكان آخر هذا من جهة، ومن جهة ثانية أرى أن اختيار المسار العلمي لا يعني بالضرورة أن يتخلى الإنسان عن الخيارات الأخرى.
– ما هو سبب اختياركم للوجهة التركية عن غيرها من الوجهات العربية والأوروبية؟ وماهي الإضافة التي قدمتها لكم هاته التجربة؟
nn كانت الفكرة الأولى هي الاتجاه إلى سوريا، فكثيرا ما كنا نسمع عنها وعن مراكزها العلمية العريقة، ما جعلنا نحبها قبل أن نزورها، وشاءت الأقدار وحب التخصص العثماني أن يقودني إلى تركيا، فهي لمن يريد دراسة التاريخ العثماني الوجهة الأولى دون أدنى شك، كما أني منذ كنت في الماجيستير كنت أفكر في كيفية تعلم اللغة التركية والعثمانية لأني أعتقدهما مفتاحين هامين جدا للبحث في التاريخ العثماني بعيدا عن أي وصاية. فالكثير من المؤرخين درسوا في فرنسا أو غيرها لكن قلة منهم من حاول الاستفادة من تركيا للتكون والتخصص الحقيقي.
ولعل أهم شيء تعلمته في تركيا هو تقبل الاختلاف والآخر، إذ رأيت أن الإنسان يمكن أن يخدم رسالته في الحياة دون أن يجعل من نظيره أو منافسه أو مخالفه عدوا له، قد نتوافق أحيانا لكننا نختلف في أحايين كثيرة وهذا ما لم أكن استوعبه من قبل، كنت أفكر أننا نحتكر الحق المطلق سواء كشعب أو كملة في حين أنه قد توجد أمور عديدة سبب عداءنا لها أننا لم نتعرَّف عليها بالشكل الحقيقي بعد.
– لو نطلب منكم أن تختصروا لنا سر التفوق التركي مقارنة بالعالم العربي؟
nn يجب أولا أنّ أقول أنه لا يوجد تفوق خارق كما قد يتبادر إلى الذهن العربي البسيط، بل إن إمكانية النهضة وفاعليتها في المجتمعات العربية اعتقدها أوفر، لما يتوفر من ممكنات نهضة على كل المستويات، لكن التفوق التركي يمكن أن يكون تفوقا استراتيجيا، فتركيا فهمت اللعبة سياسيا وآمنت بقدراتها، لكنها قبل بلوغ هذه المرحلة وضعت آليات نهوض قوية، قد أراها أنا مهمة ويراها غيري ثانوية لكني أقول أن النهضة الحقيقية التي قامت بها تركيا لم تكن سياسية ولا اقتصادية بل كانت تعليمية بامتياز، تركيا بدأت مشروع النهضة في خمسينات القرن العشرين وليس بوصول حزب ما إلى السلطة كما تظن جموع الشعوب العربية.
النهضة الحقيقية بدأت لما تأسست مدارس الأئمة والخطباء في تركيا سنة 1956مـ امتدادا لفكر النورسي والحركة الإصلاحية، استغلت هذه المدارس الحرب الباردة ومواجهة الدولة اللائكية الليبرالية للشيوعية الماركسية فنفر عدد من المصلحين لإنشاء مدارس ذات صبغة دينية لكنها متفوقة على نظيرتها الحكومية بما تقدمه من مناهج قوية على مستويات عديدة، فجمعت بين المعقول والمنقول، ومزجت الرؤية الحضارية برؤية استشرافية، خرجت أفضل الطلبة والتلاميذ ثم اشتغلت على تطوير هذه العينات وساعدتها على توطين نفسها والثقة بهدفها في الإصلاح وبعد خمسين سنة تركيا بدأت تجني ثمار هذا الغرس. وما نراه اليوم جزء بسيط جدا أما الجزء الخفي فهو الحركية الاقتصادية والعلمية التي يقودها خريجو هذه الثانويات، ولعل خير دليل على نجاحها أن معظم القادة السياسيين في تركيا اليوم خريجو هذه الثانويات.
– من خلال خير الدين سعيدي هل يمكن أن نعرف رأي الباحثين الأتراك في الجامعة الجزائرية؟
nn مع الأسف لا يعرفونها تماما إلا ما ندر، لكن الملاحظ أن النخبة التركية مقسمة إلى شعب كل شعبة تجدها تعي جيدا ما يدور حولها، على سبيل المثال يوجد لدينا تخصص دراسات إفريقية في الجزائر صحيح؟ لكن كم عدد من يتقن اللهجات السواحلية أو يمكنه التعريف بالدراسات السواحلية في الجزائر؟ أعتقد نادرا إن لم يكن معدوما بالرغم من أهمية المنطقة بالنسبة للجزائر، في تركيا لن تجد الكثير يشتغل على منطقة الساحل بل في العموم تجد أنه يوجد جهل تام بها، لكن إن بحثت عن المختصين في الأمر ستجد معظمهم ذهب إلى إفريقيا واستقر بها مدة زمنية طويلة تعلم اللهجات بين قبائلها ثم تستعين بهم الدولة كسفراء أو مستشارين حول هذه المنطقة، وهو حال الأتراك مع الجزائر ككل لا مع الباحثين فقط، بحيث تجد متخصصين يعرفون كل شيء تقريبا عن الجزائر وجامعتها، بل يعرفون الأساتذة الذي لا يشتغلون ويحبون الزيارات السياحية، كما يعرفون الأساتذة المميزين، الأتراك مازالوا يلومون الجامعة الجزائرية بسبب تقوقعها اللغوي على الفرنكوفونية ما جعل التعاون دائما يصطدم بحاجز اللغة أيضا، وتبقى الجامعة الجزائرية والجزائر ككل عبارة عن فلاشات تاريخية لا أكثر مع الأسف.
– نعود الآن للأطروحة التي ناقشتموها مؤخرا بجامعة استانبول، فقد سبق للمؤرخ التركي أرجمند كوران أن تناول في أطروحته للدكتوراه موضوع السياسة العثمانية تجاه الاحتلال الفرنسي للجزائر والتي ترجمها للعربية المؤرخ التونسي عبد الجليل التميمي، فماذا أضاف عملكم إلى هذه الأطروحة؟ وهلا لخصتم لنا أبرز الجهود التي بذلتها الدولة العثمانية في سبيل منع الاحتلال الفرنسي للجزائر؟
nn فعلا، قام أرجومنت كورن سنة 1953مـ بمناقشة رسالة دكتوراه في التاريخ حول السياسة العثمانية تجاه الاحتلال الفرنسي للجزائر وركز فيها على تفاعل الدولة العثمانية من الناحية الرسمية مع مسألة الاحتلال الفرنسي، كما أشار للكثير من الوثائق الأرشيفية التي تتعلق بالموضوع، غير أن دراسة أرجومنت ظلت منحصرة في الجانب الخاص بالدولة العثمانية من الناحية الرسمية وهو ما حاولنا استدراكه في رسالتنا بحيث حاولنا أولا أن نرصد جميع التفاعلات الدبلوماسية الخاصة بالمسألة الجزائرية انطلاقا من أول مرحلة أي ما قبل الحصار، بحيث حاولنا معالجة تأثير الذهنية السائدة حينئذ لدى حكام الجزائر في تفاعلاتهم مع قناصل الدول الأوروبية لديهم، ثم تتبعنا جميع المراسلات التي تخص المسألة سواء منها الصادر عن حسين باشا إلى كولت قائد الحصار الفرنسي على الجزائر أو تلك المراسلات الصادرة من الجزائر إلى الباب العالي بخصوص هذه المسألة أو حتى تلك التي صدرت عن السفير الفرنسي في إسطنبول قيمينو باتجاه الباب العالي.
كما حاولنا في الرسالة أن نعرف القارئ والباحث التركي بحيثيات المسألة ما قبل الاحتلال من خلال التركيز على وجود رجال محليين سعوا إلى تفعيل النشاط الدبلوماسي مع الفرنسيين في صورة حمدان خوجه أو أحمد بوضربة. كما توسعنا في بعض الأمور التي اقتصر فيها أرجومنت على ذكرها باختصار في صورة المحاولات الدبلوماسية الأولى التي قام بها المفتي السابق للجزائر المقيم في أزمير خليل أفندي، وهي مهمة تكاد تكون مجهولة تماما وتذكرها المصادر التي أرخت للمسألة الجزائرية لماما فقط، كما توجد جزئية مساعي فرنسا لتوريط والي مصر حينئذ “محمد علي باشا” لاحتلال الجزائر وتتبعنا المفاوضات التي كانت بين الفرنسيين ومحمد علي وكيف تدخل السفير البريطاني في إسطنبول لتنبيه الباب العالي إلى خطر وجود مثل هكذا اتفاق على مستقبل الجزائر والدولة العثمانية، وتتبعنا هذه القضية في الأرشيف العثماني من خلال رصد طريقة تعامل الدولة العثمانية مع هذه المسألة والردود التي وصلتها من محمد علي باشا والي مصر.
– من أبرز المصادر التي اعتمدتموها في أطروحتكم هذه وثائق الأرشيف العثماني، فهلا قدمتم للقراء فكرة عامة عن الأرشيف العثماني بتركيا، وحجم الوثائق التاريخية التي تخص الجزائر؟
nn فعلا، اعتمدنا في إنجاز هذه الأطروحة بشكل أساسي على الوثائق الأرشيفية، حيث تجاوزت المادة الأرشيفية 85% من المادة المصدرية وهذا ما يوضحه تقرير الانتحال الذي أقرته الجامعة، ولعل أبرز أرشيف مستخدم ضمن الأطروحة هو الأرشيف العثماني، وهذا الأرشيف هو أحد أهم الأرشيفات العالمية ليس لتركيا فقط بل لجميع دول العالم وبالأخص دول المتوسط وأكثر من ذلك الدول التي كانت لها رابطة مع الدولة العثمانية، ولنعرف قيمة هذا الأرشيف يكفي أن نذكر بأنه يحتوي على أكثر من 120 مليون وثيقة وملف يعتني بتاريخ ممتد على مسار 500 سنة من تاريخ المتوسط على الأقل، منها ما يقارب 80 مليون وثيقة تمت فعليا تصويرها ضوئيا، ومن بين هذه الملايين توجد الألاف إن لم يكن مئات الآلاف من الوثائق التي تخص تاريخ الجزائر على امتداد 400 سنة على الأقل منها 300 سنة خلال العهد العثماني و100 سنة خلال الاحتلال الفرنسي، وقد اطلعت على آلاف الوثائق التي تعنى بالجزائر ومنها حتى التي تخص الثورة التحريرية وبعدها؛ لذا فإن هذا الأرشيف هو كنز حقيقي لكل مشتغل في تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر، بل يمكن أن أوكد للقارئ بأن أي حديث عن تاريخ كتابة سردية تخص تاريخ الجزائر خلال العهد العثماني دون الارتكاز على وثائق الأرشيف العثماني هو جهد يبقى قاصر، بل إن العديد من القضايا التاريخية التي تظهر كل مرة على سطح النقاش لا يمكن التعاطي معها بعمق إلا من خلال الاستئناس بما هو موجود في الأرشيفات المختلفة، سواء منها العثماني أو الفرنسي أو الإيطالي أو الإسباني، وهو ما يستوجب وجود مشروع تتبناه جهات رسمية لأجل رصد الأرشيف الذي يعتني بتاريخ الجزائر في مختلف الدول، ونقل صورة منها ثم تخصيص باحثين لنقل هذه الوثائق وإتاحتها للباحثين في تاريخ الجزائر باللغة الوطنية. ما من شأنه أن يفتح ورشات بحثية حقيقية تعمل فعلا على كتابة تاريخ الجزائر من مصادرها الأصلية.
بصراحة كل بحث تعوزه الوثيقة الأرشيفية هو بحث أعرج، وهذه الوثيقة مهما كان مصدرها هي اللبنة الأولى للبحث وليس اللبنة النهائية. كما هو معلوم.
– هناك أحكام تاريخية مجحفة في حق حسين باشا آخر دايات الجزائر مفادها أنه باع الجزائر للفرنسيين، وفضل مصلحته الشخصية لما سافر بممتلكاته وخدمه وترك الجزائر غارقة في وحل المستعمر الفرنسي، ماهي النظرة التي أخذتموها عن الرجل في هذه الأطروحة؟
nn في الحقيقة الأطروحة لم تشتغل بشكل معمق على شخصية حسين باشا، إذ الأمر يحتاج فعلا لبحث مستقل، لكن مسار الأحداث وما وقفنا عليه من وثائق يوضح بعض الجوانب الهامة في شخصية الرجل، بحيث أن استقرائنا لعدد من الوثائق وللغة حسين باشا في خطاباته مع الباب العالي توحي بأن الرجل كان يعيش مثله مثل سواد الحكام الجزائريين خلال تلك المرحلة خارج الزمني الفعلي، كان يعيش فعليا داخل ما أسميه بالزمن التاريخي، فحسين باشا من جهة تعامله مع موقف القنصل دوفال ورد فعله يمكن أن يعد طبيعي بسبب تجاوز الأخير حدود الأدب وتحقيره للداي حسين ومحاولته النيل من الدين الإسلامي، هذا الشق يمكن تفسيره برد الفعلي الآني الذي تعامل به حسين باشا، لكن ما يمكن فهمه من خلال تتبع مسار خطابات ومراسلات وأفعال حسين باشا على مدار ثلاث سنوات من الحصار يوحي بجهله لتغير موازين القوى في المتوسط بأن الجزائر التي كان يحكمها سنة 1827مـ ليست هي الجزائر التي كان يحكمها حسن باشا أو حسين ميزومورطو في نهاية القرن السابع عشر الذين قاما بوضع بعض قناصل فرنسا في فوهة المدفع وقذفوا بهم في عرض البحر.
كما أن حسين باشا لم يكن ينوي الاستسلام بل كان ممن يرى بأنه يجب إعلان الجهاد والنفير العام خاصة بعد موقعة «أسطا والي» وعقد في ذلك اجتماع مع أعيان وأهالي الجزائر وتقرر ذلك، لكن واقع الأمر وتقدُّم القوات الفرنسية جعل بعض أعيان الجزائر يرى بأن الانخراط في مواجهة فرنسا وهي على مشارف مدينة الجزائر سيعطي الفرصة للفرنسيين لاستخدام كامل وحشيتهم في تخريب المدينة، لذا حدث إجماع على أن تسليم المدينة هو أخف الضررين، أما بالنسبة لما يقال عن كون أن مغادرته من الجزائر كانت بأموال وحشم وخدم فهو أمر تنفيه الدراسات الغربية في حد ذاتها قبل مراسلاته الأرشيفية، حيث نقف في مقالة لفيكتور ديمونتي بعنوان ثلاث سنوات في المنفى على أن حسين باشا عندما خرج من الجزائر باتجاه إيطاليا ترك كل أملاكه في الجزائر ولم يرافقه إلا أهله فقط ولم يكن معه خدمه وعبيده بل أنه كان يمني النفس بالعودة إلى الجزائر بعد اتفاق الدولة العثمانية مع فرنسا، وقضى معظم سنواته الباقية في المنفى في أسوء حال مادي. فلو أنه باع الجزائر لما كانت هذه نهايته بل كانت لتكون في أفضل القصور، لكن هذا لا ينفي عنه أخطاءه وتقديراته المجانبة للصواب بطبيعة الحال.
– من الشخصيات التركية الغامضة أيضا بالجزائر شخصية حمدان بن عثمان خوجة، فهناك من يعتبره بأنه أول من رفع لواء المقاومة السياسية ضد الاستعمار الفرنسي، وهناك من يصنفه ضمن الشخصيات الانتهازية مثله مثل الداي حسين، ما هو رأيكم في هذه الشخصية؟
nn بالنسبة لي حمدان بن عثمان خوجه شخصية محورية ومتميزة جدا في تاريخ الجزائر، لعله يأتي ضمن أهم خمس شخصيات جزائرية في القرن التاسع عشر، فهو بحق نموذج نادر جدا خلال تلك المرحلة التاريخية، جمع بين الفقه والسياسة والتجارة والدبلوماسية، كان حمدان خوجه بمثابة شمعة معرفية في وسط الظلام الدامس، ولا يمكن فهم حمدان خوجه من خلال كتابه المرآة أو من خلال مراسلاته للسلطات الفرنسية، وأعتقد أن هذا هو السبب الرئيس في وجود مواقف حادة باتجاه هذه الشخصية التاريخية، بسبب قراءة حمدان خوجه مجتزأً عن سياقه العام، ولهذا لا يمكن تصنيف حمدان خوجه إلا بعد ترجمة وعرض كل أفكاره ومراسلاته مع الأطراف المختلفة، هنالك فقط يمكننا أن نتحدث عن مكانة ومركزية ونموذجية حمدان خوجه، أعتقد شخصيا بأن حمدان خوجه كان رجلا مُنخرطا بشدة في مسائل فكرية وسياسية ودبلوماسية مُعقدة تتجاوز مصالحه الشخصية وحتى المسألة الجزائرية إلى قضايا الإصلاح العام في العالم الإسلامي ومسألة التحديث والتعامل مع الآخر (الأوروبي) وأنظمة الحكم، حمدان خوجه حسب تتبعي للكثير من مراسلاته في الأرشيف العثماني يمكنني القول أنه كان رجلا متشابك مع الآخر ويحاول مجاراته وهو ما لم يستطع المجتمع آنئذ استيعابه أو فهمه، أنا أرى بأنّ الرجل كان كمن يمشي في أرض مغروسة بالألغام لذا كان يمشي بحذر وروية وخوف وهو ما فسره البعض بأنه انتهازية ومصلحية وإلا فكما قال بلسانه في إحدى مراسلاته للباب العالي: « كان يسعه ما وسع غيره ويغلق عليه بابه ويحفظ له ماله وأهله» لذا أظن أننا بحاجة لقراءات متعددة لهذه الشخصية.
– لقد سبق للدكتور خير الدين سعيدي أن ناقش أطروحة دكتوراه في التاريخ الحديث بجامعة قالمة بالجزائر قبل مناقشة أطروحة دكتوراه ثانية بجامعة استانبول التركية، هلا قدمتم لنا خلاصة التجربتين، وأهم الاختلافات الجوهرية بينهما (شكلا ومضمونا)؟
nn أعتقد أن لكل تجربة خصوصيتها ومرحلتها، والإنسان ينضج أكثر كلما كانت التجارب مختلفة أكثر، أما بالنسبة للفرق بين التجربتين فأظنها كثيرة لعل من أهمها، نظرة كل جهة للبحث، ففي الوقت الذي ما زلنا في الجزائر نشتغل على مواضيع متخصصة ذات إطار زمني واسع، فعلى سبيل المثال موضوعي في الدكتوراه بالجزائر تناولت فيه الأوبئة والمجاعات بالجزائر على مدار قرن وثلث (1830-1700مـ) في حين أن المدرسة التركية تحبذ الموضوع المتشابك العابر للتخصصات وفي إطار زمني ضيق جدا، ولهذا كان موضوع بحث الدكتوراه في تركيا هو النشاط الدبلوماسي خلال الاحتلال الفرنسي للجزائر لكن ضمن إطار لم يتجاوز ربع قرن (1847-1827مـ).
كما أن المدرسة التركية – مثلها مثل المدرسة الأوروبية – تعتبر أن قوة العمل الأكاديمي للباحث ليس في متن بحثه أو في تحليله وترتيبه للأمور بقدر ما هو في قدرته على حشد مادة قوية في الهامش، والانفتاح على وثائق غير مستخدمة من قبل؛ لذا فأني وإن استخدمت الأرشيف الفرنسي في الأطروحة الجزائرية فإنني وجدت نفسي أستخدم أضعافه عشرات المرات في الأطروحة التركية باعتبار أن الأرشيف العثماني متوفر بقوة ويحتاج من الباحث فقط الاجتهاد في العمل عليه واستنطاق مكنوناته، كما أن البحث في الجزائر مع الأسف لايزال يمشي دون حواضن وغير موجه في إطار محدد، فعندما كنت أبحث في موضوع الأوبئة – طبعا قبل شهرتها بعد 2019مـ – كان الجميع يستغرب حول الفائدة المرجوة من الموضوع، وحتى لما نشر العمل نشر مع الأسف خارج الجزائر ولم يُستفد منه سواء صانع القرار السياسي أو الإداري، بل ظل في رفوف المكاتب، في حين أنني بمجرد أن بدأت الاشتغال في موضوع حول الجزائر في تركيا حتى وجدت مراكز البحث هي من توجه لي دعوة لحضور الندوات التي تخص مجال بحثي أو تجد المراكز تستعين بخبرتي في محاولة منها لفهم العلاقات بين الجزائر وتركيا، كما أن الصحافة تهتم بما ينشر من بحث أكاديمي وتحاول استغلال المعطيات الموجودة فيه، بصراحة تجد أن البحث يخرج فعلا عن أسوار الجامعة ليتشابك مع المحيط ضمن سياقه السوسيوثقافي والسياسي.
أعتقد أن البحث في الجزائر ليست له بوصلة معينة يسير ضمنها إنما هي مسارات فردية بعكس تجربة البحث في تركيا، تشعر وكأن كل شيء يمشي ضمن سياق محدد لبلوغ هدف ما.
– ماهي التطلعات المستقبلية المهنية والبحثية للدكتور خير الدين سعيدي؟
nn بكل صراحة حاليا ما زالت لم أقرر بشكل قطعي، أحاول كل مرة ضبط الأمور ضمن السياق الذي أجد فيه نفسي أكثر عطاء، توجد عدد من المشاريع العلمية التي شرعت فيها، ومنها ما قد فرغت منه منذ سنة 2019مـ مثل كتاب مرآة الجزائر لعلي رضا باشا ابن حمدان خوجة الذي نقلته من العثمانية إلى العربية. لكن صدور نسخة من الكتاب بترجمة أستاذنا خليفة حماش، وهنا لابد من القول:
وهو بسبق حائز تفضيلا مستوجبا ثنائي الجميلا
والله يقضي بهبات وافرة لي له في الدرجات الآخرة
الأمر الذي جعلني أحاول تجويد العمل أكثر بحول الله على أن يصدر قريبا، كما توجد عدد من المشاريع العلمية التي أشتغل على إتمامها، منها كتاب حول الشخصية الإشكالية التي سبق وأن ذكرناها وهو «حمدان خوجة» الفقيه الدبلوماسي والذي آمل أن يكون جاهزا الصيف القادم بحول الله وينشر عن دار الوطن ضمن سلسة أعلام الجزائر. كما توجد عدد مِن المقالات المحكمة حول الجزائر في الأرشيف العثماني ستصدر في مجلات محكمة مختلفة قريبا. أما من الناحية المؤسساتية فإننا نحلم كباحثين بوجود مركز وطني للبحث في تاريخ الجزائر خلال العهد العثماني يكون امتداداً للمركز الوطني للبحث في الحركة الوطنية والثورة التحريرية، وهو أمر لا مناص منه لكتابة تاريخ الجزائر بسردية وطنية أكاديمية حسبما أعتقد.
– كلمة أخيرة قل ما شئت ولمن شئت:
nn والله أتمنى من كل قلبي لو يتاح للباحثين الشباب الاحتكاك بالخبرات الأجنبية، وأن يخرجوا من فكرة نشر مقال للمناقشة ومقال للترقية، لأن أقرانهم من الشباب في الجامعات العالمية يضيفون يوميا للبحث العلمي وبلغات مختلفة، لذا أظن أنه علينا أن نجتهد كثيرا لنساهم في تطوير منظومتنا البحثية، ويجب علينا كباحثين وطلبة وأساتذة أن نخرج من طور المظلومية (وهو موجود فعلا) إلى طور آخر في إثبات الذات وتقديم البديل الذي من شأنه أن يزيل الفساد في الحياة العلمية.
أتمنى أني كنت خفيفا عليكم، وبارك الله في أخي وصديقي الصالح على هذا الحوار الشيق وأسأل الله أن يصلح به ما أفسدته الرداءة وأن يتم الله علينا نعمه.