وبالوالدين إحسانا/ يوسف جمعة سلامة
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: “جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ” (1) .
هذا الحديث حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، باب مَنْ أَحَقُّ الناسِ بُحسْنِ الصُّحْبة؟
إن برَّ الوالدين فريضةٌ شرعية، فقد أوصى الله سبحانه وتعالى الأبناء ببرّ الوالدين والإحسان إليهما في حياتهما وبعد مماتهما، ومن المعلوم أن للوالدين في الإسلام منزلةً ساميةً لا تَعْدِلُها منزلة ولا ترقى إليها درجة، هذه المنزلة تقتضي الإحسان إليهما والترفق بهما والعطف عليهما في حياتهما، والترحم عليهما والدعاء لهما بعد موتهما، ومن ثمرات برِّ الوالدين: طول العمر وزيادة الرزق، والبركة فيهما، كما جاء في الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- ، قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَيُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ )(2) .
برّ الوالدين وحقوقهما
لقد حثَّ ديننا الإسلامي الحنيف على وجوب برّ الوالدين وطاعتهما، وجاءت الآيات الكريمة في القرآن الكريم تؤكد على ذلك، منها :
* قوله – سبحانه وتعالى-:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}(3).
* وقوله – سبحانه وتعالى-:{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بي مَا لَيْسَ لَكَ بهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبعْ سَبيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(4) .
* وقوله – سبحانه وتعالى- أيضاً:{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بي مَا لَيْسَ لَكَ بهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(5).
كما حثَّت السنة النبوية الشريفة على وجوب برّ الوالدين والإحسان إليهما في أحاديث عديدة، منها:
* عَنْ عَبد الله بن مَسعود – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: (سألتُ النَّبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: ” الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا“، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: “ثُمَّ برُّ الْوَالِدَيْنِ“، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبيلِ اللَّهِ)(6 ).
* وعَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ )(7).
* وعَنْ أَبي الدَّرداءِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: سَمِعتُ رَسولَ اللهَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول:( الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ احْفَظْهُ) (8).
بِرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ
أخي القارئ: كما تزرع تحصد، وكما تَدين تُدان، فمن يزرع المعروف يحصد الخير، ومن يزرع الشر يحصد الندامة، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وهل عاقبة الإساءة إلا الخسران؟ فهناك أبواب كثيرة للخير مع والديك في الدنيا من حُسْن المعاشرة والبر والإحسان، وتلبية رغباتهم، والسهر على راحتهم، فكم سهرا على راحتك، وقدَّما المال للإنفاق عليك، وأَرشداك لما فيه الخير لك في الدنيا والآخرة؛ لذلك فقد جعل رسولنا – صلى الله عليه وسلم – طاعتهما وبرهما وخدمتهما كالجهاد في سبيل الله، ولن يستطيع الأبناء مجازاة الوالدين على ما قَدَّموا لهم من عطف ورعاية وتربية وعناية إلا أن يجدَ الولدُ الوالدَ مملوكاً فيشتريه فيعتقه، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-:( لا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ)(9)، ومن المعلوم أنك ستصبح مثلهما غداً، لذلك فأنتَ بحاجة إلى أبناء صالحين يخدمونك ويسهرون على راحتك، ولا يكون ذلك إلا إذا قَدَّمتَ لوالديك الطيبات والصالحات، فكما تَدين تُدان، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم.
لذلك يجب على المسلم أن يكون بارًّا بوالديه مطيعاً لهما محسناً إليهما داعياً لهما، حتى يرزقه الله سبحانه وتعالى أولاداً صالحين بارِّين به مطيعين له محسنين إليه، لقوله – صلى الله عليه وسلم –:( بِرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ، وَعِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ)(10).
توجيهـــات للأبنــاء
وبهذه المناسبة فإننا نُذكِّر أبناءنا الكرام بضرورة الالتزام بشرع الله سبحانه وتعالى؛ ليكونوا من السعداء في الدنيا والفائزين في الآخرة إن شاء الله، وعليهم اتباع النصائح التالية:
* خاطبْ والديك بأدبٍ وَتَوَاضَعْ لهما، كما قال سبحانه وتعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}(11).
* أَطِــعْ والديــك دائمـــاً في غير معصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما قال سبحانه وتعالى:{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بي مَا لَيْسَ لَكَ بهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}(12) .
* أَكْرِِمْ صديقهما وأقرباءهما في حياتهما، وبعد موتهما، لما رُوِي عن ابن عمر – رضي الله عنهما- أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:( إنَّ أَبَرَّ البِرِّ أنْ يصلَ الرجلُ وُدَّ أبيه)(13)، فالمسلم يَبرُّ والديه في حياتهما، ويبرهما بعد موتهما؛ بأن يدعوَ لهما بالرحمة والمغفرة، وَيُنَفِّذَ عهدهما، وَيُكرمَ أصدقاءهما، لما رُوى عَنْ أَبي أُسَيْد مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ:( بَيْنَما نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ برِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ:” نَعَمْ، الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا، وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا تُوصَلُ إِلا بهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا“)(14).
* زُرْ والديك في حياتهمــا وبعـــد موتهمـــــا، وتصدَّق عنهما، وأكثر من الدعاء لهما، مُرَدِّداً قول الله سبحانه وتعالى:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ}(15) ، وقوله- سبحانه وتعالى أيضاً:{رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}(16).
إن حقوق الوالدين أمانة في أعناق الأبناء وهي واجبة الأداء، ولا يمكن للأبناء أن يَفُوا والديهم حقهم مهما فعلوا وبذلوا ومهما ضَحَّوا وقدموا، ومن المعلوم أن رِضَى الله من رضى الوالدين، وسخطه من سخطهما.
فما أحوج المجتمعات البشرية إلى الالتزام بمبادئ الإسلام الرشيدة التي تشدّ من عزم الأسرة المسلمة أفراداً وجماعات، أبناء وبنات، فعندما تتمسك الأمة بتلك المبادئ الكريمة فإنها ستفوز برضوان الله سبحانه وتعالى، وذلك هو الفوز العظيم.
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(17).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الهوامش:
1- أخرجه البخاري.
2- أخرجه أحمد.
3- سورة الإسراء الآيتان (23/24).
4- سورة لقمان الآيتان (14/15).
5- سورة العنكبوت الآية (8).
6- أخرجه البخاري.
7- أخرجه مسلم.
8- أخرجه الترمذي.
9- أخرجه مسلم.
10- أخرجه الطبراني.
11- سورة الإسراء الآية (23/24).
12- سورة لقمان الآية (15).
13- أخرجه مسلم.
14- أخرجه أبو داود.
15- سورة نوح الآية (28).
16- سورة الإسراء الآية (24).
17- سورة الأحقاف الآية (15).