التنافس من شيم النفوس
أ.د. مولود عويمر/
يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب بالمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.
عمر بن قدور الجزائري ولد في عام 1886 في مدينة الأربعاء (ولاية البليدة حاليا).
درس في مسقط رأسه ثم واصل دراسته في مساجد ومدارس مدينة الجزائر التي كان يدرّس فيها آنذاك العلماء المعروفون أمثال الشيخ عبد القادر المجاوي والشيخ محمد السعيد بن زكري.
سافر عمر بن قدور إلى تونس واتصل برجالها في الفكر والإصلاح واستفاد من علمهم وتجاربهم، وكتب في الصحف التونسية: «التقدم»، «الحقيقة»، «المشير»، و«الوزير»…الخ. وسافر أيضا إلى مصر حيث تعرف على علمائها وقادتها السياسيين، وتأثر بمصطفى كامل رئيس الحزب الوطني وأعجب بنشاطه السياسي وجريدته «اللواء» التي صار لها من بعد مراسلا من الجزائر.
وبعد عودته إلى الوطن اشتغل رئيس تحرير للقسم العربي في جريدة «الأخبار» التي أصدرها المستعرب الفرنسي فيكتور باروكان. وفي فبراير 1913 أصدر جريدة «الفاروق» ليعبّر فيها عن آرائه بقسط أكبر من الحرية، ويدافع عن مواقفه بمزيد من الاستقلالية، وقد نجح في جعل «الفاروق» من أهم الصحف العربية التي ظهرت في الجزائر في الثلث الأول من القرن العشرين شكلا ومضمونا، كما أدار لفترة قصيرة جريدة «الصديق» التي صدرت في سنة 1920.
وحرر أيضا مقالات في عدة جرائد جزائرية أخرى: «الإقدام»، «التقدم»، و«وادي ميزاب»…، وراسل صحفا عربية وإسلامية مثل جريدتي «اللواء» و«المؤيد» بمصر وجريدة «الحضارة» بتركيا، بالإضافة إلى الجرائد التونسية التي أشرت إليها سابقا…
ودعا في كتاباته ورسائله إلى إنشاء جامعة الصحافة الإسلامية وتأسيس جماعة التعارف الإسلامي لعلماء شمال إفريقيا، وطالب بفرض التعليم الاجباري في المرحلة الابتدائية ونادى بإنشاء النوادي الثقافية والمدارس الحرة، ولم يكتف بالدعوة إلى ذلك بقلمه فحسب، وإنما بذل جهدا كبيرا لتجسيد أفكاره على أرض الواقع، وهكذا ساهم في إنشاء مدرسة الشبيبة الإسلامية العصرية التي درّس فيها كوكبة من علماء الجزائر وتخرّج منها نخبة من الأدباء والمثقفين الجزائريين، ومازالت هذه المدرسة الرائدة تؤدي رسالتها إلى اليوم.
وقد تعرض عمر بن قدور إلى مضايقات عديدة من طرف سلطة الاحتلال الفرنسية بسبب نشاطه الإعلامي والفكري، والتي لم تتردد في نفيه إلى الصحراء الجزائرية (عين ماضي والأغواط) بعد أن عرقلت مرارا طبع جريدته في الجزائر ومحاصرة انتشارها في البلاد وخارجها، ولقد عاش سنواته الأخيرة منعزلا بعيدا عن الحياة الثقافية والأدبية حتى التحق بالرفيق الأعلى في عام 1932 تاركا وراءه مقالات كثيرة مبثوثة في الصحف الجزائرية والأجنبية تنتظر من يجمعها ويخرجها في كتاب أو في كتب لينتفع بها الناس، ومن المفيد أن أذكر هنا أنني بادرت إلى جمع وتحقيق مقالاته التي نشرها في جريدة «الحقيقة» وصحيفة «الأخبار» تحت عنوان «منبر العبر»، وآمل أن تصدر في هذا العام، كما أتمنى أن يهتم غيري بكتاباته الأخرى حتى ترى النور من جديد وتعم فائدتها دائما.
نشر عمر بن قدور هذا النص المرفق في العدد 13734 من جريدة «الأخبار» الصادر في 6 جويلية 1913. وقد ظهرت هذه الصحيفة التي أسسها المستعرب فيكتور باروكان في عام 1839 واستمرت في الظهور إلى غاية فبراير 1934. كانت تصدر باللغة الفرنسية فقط ثم أضاف لها صاحبها صفحتين وأحيانا أربع صفحات باللغة العربية، وكان يشرف على القسمين معا، ثم أوكل مهمة الإشراف على القسم العربي السيد عز الدين القلال، ثم معمر زردومي الذي لم يدم في منصبه إلا 3 أشهر ليعوضه بعد ذلك عمر بن قدور في رئاسة تحرير القسم العربي لمدة 4 أشهر فيستقل منها ثم يعود إليها في جويلية 1910 ليعمل في نفس المنصب إلى غاية جويلية 1914.
وكانت مساهمته الأساسية منشورة في الصفحة الأولى، وهي تتمثل في مقالات قيّمة تعالج القضايا السياسية والاجتماعية والتربوية والفكرية، ونجد في الجريدة من حين إلى آخر منشورات نثرية أو قصائد شعرية قليلة أو رسائل لبعض الكُتاب الجزائريين والعرب، وأذكر هنا: الطبيب محمد بن العربي والكاتب عمر راسم من الجزائر، والعالم محمد رشيد رضا، والمؤرخ محمد الخضري من مصر…الخ.
وكعادته اهتم الشيخ عمر بن قدور الجزائري بقضايا التنوير على مستوى الفردي بمعالجة القيم السامية التي ترتقي بالإنسان وتدفعه للعمل الجاد والتميّز الخالص وعلى المستوى الجماعي بالتضامن الصادق والاتحاد المرصوص ليرتقي المجتمع في مدارج النهضة والازدهار. ولا يكون التغيير نحو الأفضل على المستوى الفردي أو الجماعي إلا بالتنافس الشريف الذي يبتعد عن الأنانية وحب الظهور والنفاق النفسي والاجتماعي والمنفعة الضيقة. وقد لاحظ عمر بن قدور أن هذا هو التنافس الذي هو فطرة في الإنسان والجماعات يتطلب الالتزام بالأخلاق والضوابط المسطرة؛ ففي هذه الحالة فقط يقدم كل واحد أفضل ما عنده، ولا ينجح في المنافسة على الخير والبناء والتنمية إلا المتفوِّقون الأصفياء والمتميِّزون الأكفاء فيتركون بصماتهم في الواقع ويؤثرون في حركيته ويساهمون في تقدمه بما يبذلونه من جهد ويتقنونه من عمل ويخلصون للهدف النبيل المنشود الخاص والعام.
*** *** ***
«منذ امتلأ وجه الكرة بالخلق وانتبهت قرائحهم لمتاعب المعيشة واصطدموا بكوارث الحياة ونكباتها وهم يتآمرون على استئصال جرثومة المهالك من حيث أنهم لم يزيدوها إلا نفوذا على نفوذها وقوة على قوتها، وربما حنوا إلى وقت يضمحل فيه الخلاف ويقوم فيه الوئام والالتئام ويكون فيه الناس أمة واحدة على حين أنهم يتنافسون ويختلفون في حنوهم المذكور، ولم تأت عليهم برهة من الدهر ساد فيها الاتحاد على نفوسهم نحو هذا الحنو الخيالي؛ فهم والحالة يتراوحون ويدورون حول نقطة مجهولة لا يعرف لها مكان.
وبتهورهم في ذلك المضمار يصطدمون فيعودون والدماء تسيل من أثر ذلك الاصطدام، وما حصل ذلك بينهم إلا لأنهم أحبوا السلم وبحثوا عنه!
افترق الناس بهذا شيعا وتباينوا أحزابا وهـو الأمر الذي فطرهم الله عليه وهداهم إلى سبيله من حيث لا يشعرون أنهم مجبورون علی ذلك. وقد يصبح أن يقال أن بعض الناس يستعملون حنوهم وشوقهم إلى نير السلام حجة يضمون إليهم بها مصالح شتى وفوائد كثيرة ويدفعون عن أنفسهم أوصافا يتقونها.
هناک نفوس إذا وجدت منفذا إلى حالة وقتية تسميها سلاما وما هي من السلام في شيء تتوغل في سبيل التجبر والعناد ظنا منها بأنها تغلب وجيشها لا يهزم، فتخرق في الحين نطاق ما كانت تسميه سلاما، وتهرق من الضعفاء الدماء بحجة أن أولئك الضعفاء آفة على السلم وخطر على الراحة والاطمئنان !! فإذا تورطت في مزالق الفوضى وأخذت الدوائر تدور عليها سكنت واستكانت كأنها لم تكن البلية العظمى على راحة وسلام فئة غافلة هادئة.
تسكن وتركن إلى الخمول ولكن تلك النار الموقدة نار التنافس والتزاحم تدفعها إلى انتهاز الفرص والسوانح حتى تنهض كرة أخرى مطالبة بحق السلام الذي هضمه غيرها وضيّعه وتضحي في سبيل ذلك قربانا دماء وأموالا.
كن للسلام صبغة غير صبغته الأصلية أو صورة غير صورته الحقيقية. وما هي إلا النفوس تتنافس وراء غاياتها بإدعاءاتها أنها الباطلة تمويها وتضليلا.
إن الإنسان اتخذ لتنفيذ أغراض نفسه الأمارة بالسوء آلات متنوعة منذ القدم، فلم يبرح منافسا لأبناء جلدته بتشويه سعادتهم وإرغامهم على الخضوع له والإقرار بأفضليته عليهم.
اتخذ أولا مرعى دوابه وأنعامه حمى لا تقر به أموال غيره وقدح زناد العصبية الوطنية بين بني البشر فسارت أهواؤهم في ذلك مسير البرق وكادوا لا يذكرون غير حمل تلك الأسلحة الفولاذية والتصادم بـها في البيــــداء لتلطيخ أزهارها ورياضها بالدماء المسفوكة ظلما ضحية أغراض النفوس.
لم يقف بنو البشر عند هذا الحد من تشخيص أسباب الإيقاع ببعضهم البعض بل جعلوا دياناتهم المختلفة التي نبغت بإرشادات بعض رجالهم منهم الصادقون (وهم الرسل دعاة التوحيد) والكاذبون (وهـم دعاة الوثنية) وسائل لبلوغ أغراض نفوسهم من بعضهم واللحوق بالتنافس في ذاك إلى الدرجة العليا من القوة والكبرياء.
ولقد مزجوا وسيلة نشر الدين مع وسيلة الدفاع عن الوطن في الظاهر وإن كان الباطن إلا محض تنافس النفوس وحبها للظهور والظهر على الأغيار فعاث القوم في بعضهم وتلاطمت أمواج جيوش جـرارة بأسنان رماح تهوى خطف الأرواح وسيوف تأبى الصدور لتشفي غليل ما في الصدور.
فضم التاريخ على تلك المسجلات الضخمة المظلمة بما حوت من تلك المواقف التي وقف بها الإنسان ويداه تشخبان دما وعيناه كالجمرتين تنظران إلى غاية يرى دونها قرع الحديد فيهوي ذلك الصوت ويرتاح له ضميره غير مبال ولا مكترث بالمثال.
جاء هذا الإنسان العصري مستعدا جبــارا فاق سلفه المذكور وفاته بمراحل اخترع الآلات المهلكة على قدر أغراضه في القوة والمتانة لينالها في الوقت القصير وينافس أقرانه بالسلاح الصعب العسير. ولنا معه جولة عند الفرصة، والله ولي التوفيق».