روح النصر بين 19 مارس وما بعده..!!/التهامي مجوري
يوم النصر الذي يصادف 19 مارس -مناسبة تاريخية وطنية- تتيح لنا في كل عام الكلام عن النصر الذي حققه شعب ضعيف فقير، يسود أغلب فئاته الجهل، على دولة تعد من أعتى قوى العالم يومها؛ فرنسا التي كانت لا تقل مستوى في إمكاناتها وهيمنتها في ذلك العصر عن الولايات المتحدة الأمريكية اليوم.
ومع ذلك حصلت المعجزة بانتصار الشعب الجزائري الفقير المستضعف على الاستدمار الفرنسي المستكبر، وهي معجزة لا يمكن قياسها بمنطق موازين القوى المادية، لأنها تأييد إلهي لمستضعف على مستكبر متجبر.
لم يكن الجزائري يملك من المادة والعدد والعدة ما يؤهله لخوض معركة لذلك الحجم، وينتصر فيها، وإنما كان يملك قوة الإيمان بالله وحده، وبشرعية القضية التي يجاهد من أجلها والإصرار على أن له حق يمكن استرجاعه، متى؟ وكيف؟
لا يملك الجزائري إجابة واضحة في ذلك، ولكنه صادق في مسعاه، ومتيقن من أنه ينتصر ولم يعبأ بالثمن الذي ينبغي أن يكون عاليا وغاليا؛ لأن المراد تحقيقه أغلى، ولا يقاس إلا بثمن الحرية التي يهون معها كل غال ورخيص.
فالجزائري كان يطالب بالاستقلال ويعمل على تحقيقه منذ عشرينيات القرن الماضي، رغم أن هذه المطالب لا تعني في عرف الاستدمار شيئا، ولم يتحقق هذا الاستقلال إلا بعد ما يقارب النصف قرن تقريبا؛ هل يعتبر ما حققه هو المطلوب؟ وهل تحقق النصر الذي كان يهدف وضحى من أجله؟
عندما كان الشعب يطالب بالاستقلال ويؤمن بما يطالب به، لم تغفل القيادات السياسية على أن مجرد “التلفظ بكلمة الاستقلال” ليس هو المطلوب لذاته؛ لأن الاستقلال ببعده التحرري ليس لفظة تلوكها الألسن، وإنما هو مشروع يهدف إلى القضاء على وصاية فوقية مفروضة على العالم المستضعف بموجب قرار دولي “الميثاق الاستعماري”، وإنما كان البعد السياسي لترديد هذا المصطلح لمدة نصف قرن مع فقدان الإمكانات لتحقيقه، جعل من الأوهام حقائقا، ومن العواطف أفكارا جادة وأفعالا متحركة على الأرض، وفرض على الواقع اندلاع الثورة من غير اعتبار لأي سبب مادي آخر، اكتفاء بذلك الوقود والطاقة الكامنة في النفوس، وما يؤيد هذا أن الرئيس الراحل محمد بوضياف عليه رحمة الله قال يوما: “أن اندلاع الثورة كان بمثابة المغامرة”، ويحكي قصة بهذه المناسبة، ويقول فيها: “كنت مع العربي بن مهيدي في سطيف في أحداث ماي 1945م والتقينا بشيخ كبير… التفت إلينا وقال لنا: هذه الجولة خسرناها والجولة الثانية لن نخسرها أو كلام بهذا المعنى؛ ويقول بوضياف: “تذكرنا هذه العبارات أنا وبن مهيدي في اللقاء الذي تقرر فيه اندلاع الثورة لقاء الـ22”.
فالنصر تحقق بالمعنويات المرتفعة والنفسيات المتعالية على الاستعمار وإمكاناته الفتاكة قبل الإمكانيات المادية. صحيح أن الإمكانات المادية لها مكانها، ولكنها ليست هي الأصل؛ ولو حاولنا أن نفهم كيف تحقق النصر؟ لما استطعنا فهمه بمجرد البحث في الإمكانات المادية. فالشعب الجزائري كان يوم اندلاع الثورة في أدنى دركات الفقر، ومستوى الشعب العلمي والثقافي متواضع، ومستوى القيادات السياسية متواضع أيضا، والوضع الدولي يكاد يكون في غير صالح الشعب بسبب تعجرف القوى الغربية بشقيه – اليمين واليسار- ومع ذلك لم يشعر المنخرط في العمل الثوري أنه دون الاستعمار أو أنه يعبث فيما يقوم به من أعمال، كل ذلك بفضل تلك القوى الكامنة التي وجَّهَت قوى الثورة إلى الفعل المثمر ومواجهة الاستدمار الفرنسي ومن وراءه.
ذلك الذي حاول العدو استثماره في استدراج القوى الثورية للنيل من تلك النفوس المستعلية، فحاول اختراق الثورة وفشل، وحاول تحريف الثورة عن مسارها باقتراحات متعددة، كالحكم الذاتي وفصل الصحراء عن الشمال، وابتداع مصطلح “الجزائر الجزائرية” بدل الجزائر الإسلامية، وفشل ولم تُسلم الثورة بكل ذلك بسبب استعلائها وإيمانها بشرعية ما تقوم به وبالتجربة الميدانية وليس بكثرة العلم.
لا شك أن العلم والفكر قبل شجاعة الشجعان، ولكن واقع الشعب الجزائري ونخبه يومها لم يكن في موقع القادر على الصبر الموازنة بين الخيارات الكثيرة، وإنما كان مستعمرا ولا بد أن يتحرر.
وفشل الاستدمار في استدراج الثورة إلى ما يريد لم يتوقف عن المحاولات، فلم ييأس ولم يملّ من استحداث الخدع والالتواءات التي تعمل على أن يكون النصر منقوصا، ولكن مع الإلحاح بالمحاولة تلو المحاولة، وجد من بيننا سلم له ببعض ما أراد، بعدما فقدت بعض القوى السياسية والنخب بالبلاد ما كانت متميزة به أثناء الثورة، حتى أصبح البعض منا يتحدث عن الثورة وكأن قياداتها مجموعات من العصب والانتهازيين، وجملة من تصفية الحسابات، وفرقا من المتآمرين عن بعضهم البعض؛ وهذا في حد ذاته كاف للانتقام من ثورة كانت مثالا يحتذى في العالم، ومبررا لشباب يتمنى لو أنه كان…!
إن المنطق الذي سيرت به البلاد بعد 19 مارس 1962م لا يمكن أن يكون – أو يشبه- الروح التي قادت الثورة إلى النصر مهما قلنا عنها وعن سلبياتها، لسبب بسيط هو أن الروح التي تعاملنا بها مع الاستعمار من أجل التخلص منه تختلف جذريا عن الروح التي سيرنا بها بلادنا بعدما تخلصنا من الاستدمار؛ فشتان بين من لا يرى الشر إلا في فرنسا، وبين من يراه في زميله الذي رافقه في المحن والإحن؟!