وداعا رمضان
أ. البـــدر فارس */
مرت أيام رمضان مُسرعة، وتركت في نفوسنا لوعة في قلوبنا، آملين أن نحقق قيمة التقوى؛ المقصد الأسمى منه كما قال ربنا عز وجل: «يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكُم تتقونَ» (البقرة: 183)، إلى جانب مجموعة من المقاصد الروحية والمادية. مضى شهر رمضان، ومرت نفحاته مر السحاب، ولم يبق إلا دروسه، فدوام الحال من المُحال، وكل شيء إلى زوال… لقد وجدنا في رحابه أنقى الأيام، وأروع الليالي… رمضان… أيام مضت، صفحات طُويت، حسنات قُيّدت، صحائف رُفعت.
لقد كان شهر رمضان ملء أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا… شهر رمضان، كان حديث منابرنا، وزينة منائرنا، وبضاعة أسواقنا، ومادة موائدنا، وحياة مساجدنا، واليوم، صار رمضان في ذمة الماضي، بعد أن كان حقيقة تملأ السمع والبصر، وبعد أن كان حديثا يُروى وخبرًا يُؤثر، وستمضي أيام الحياة كلها إلى أجل لا ريب فيه.
مضى رمضان، وشهد على المُحسن بإحسانه، وشهد على المُسيء بإساءته، وتحصل كل من الفريقين على ما قد قسم له من ربح أو خُسران، فيا هناءة من قد ربح، ويا حسرة على الخاسر… رحل رمضان، ومضى مُسرعا وكأنه طيف خيال.
ولنا في انقضاء رمضان بهذه السرعة الفائقة عِبرة وعِظة، فقد كُنا نعيش روعة أيامه وأنس لياليه، ثم انقضت تلكم الأيام وتلكم الليالي؛ لنقطع بها مرحلة من حياتنا لن تعود إلينا أبدًا، وإنما يبقى لنا ما أودعناه فيها من خير أو شر، وهكذا الأيام التي تمر علينا تنقص من أعمارنا، وتُقربنا من آجالنا. قال «الحسن البصري» -رحمه الله-: «ابن آدم! إنما أنتَ أيامٌ مَجموعة، كُلما مضى يومٌ مضى بعضُك».
رمضان شهر القرآن الكريم
في هذا الكوْن العجيب الذي نعيش فيه، تظهر جليًّا حقيقة بديهية مفادها: أنّ الإنسان لو خُليَّ بينه وبين عقله، دون أن يقوم بينهما أي حاجز من الميول النفسية أو الأغراض الدنيوية، أو وسوسة الشياطين من الإنس والجن، لما عاقه أي شيء عن الإيمان بالله، ولَوجد هذا الوجود كُله مَشحونًا بالبراهين والأدلة الناطقة بوجود الخالق العظيم الله الأحد، ثم لَوجد في القرآن الكريم وحده الملجأ الصحيح إلى أعلى درجات الإيمان واليقين؛ فما كان يحتاج عندئذٍ إلى حُجة ونقاش وبرهان وجدال، ولَعاشَ في غنى عن أن يُفكر في أدلة وبراهين تُؤدي به إلى معرفة حقيقة حقائق هذا الوجود.
وهذا القرآن العظيم الذي أُنزل في هذا الشهر الكريم؛ له الفضل العظيم على المؤمن به، وما أدراك ما القرآن الكريم ثم ما أدراك القرآن الكريم، فهو سر الحياة وملاذ البشرية، وبفضله تحولت أُمة ترعى الغنم إلى أُمة ترعى الأمم… والصائم يفرح بما اكتسب من معاني القرآن الكريم وتدبره والسياحة في عوامله في هذا الشهر الكريم، يقول الشيخ «ابن القيم الجوزية» في كتابه «مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة»، الجزء الأول، ص: 186: «فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومَقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى إذا مر بآية وهو مُحتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مئة مرة، ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن».
وكان سيدنا وأمامنا وقُدوتنا محمد (ص) يُواظب على قراءة القرآن الكريم في شهر رمضان ليلًا ونهارًا، ويحث أصحابه على قراءته في هذا الشهر الكريم؛ فلنتأس بسيدنا بمحمد (ص) ونُداوم على قراءة آيات هذا الكتاب العظيم بتدبر وتفهم في رمضان وفي باقي سائر الشهور، لِنكون من الفائزين يوم الدين.
فرحة العيد
وفي العيد، يلتقي المسلمون على الحب والإخاء، ويحمدون الله عز وجل على نعمة الإسلام التي شدت بعضهم إلى بعض، فأصبح مثلهم في التسامح والتعاطف مثل الجسد الواحد أو البناء المرصوص، ولو كبرت قلوب المسلمين كما تكبر ألسنتهم لكان لهم أعظم الشأن، ولو تصافحت نفوسهم كما تتصافح أيديهم لكانوا خير أُمة.
مضى رمضان، وأقبل العيد، والعيد ولادة جديدة من رحم شهر التربية والاستقامة؛ فيخرج منه المؤمن بقلب جديد… تتسارع أفئدة المؤمنين إلى أحب البقاع، وتلهج ألسنتهم بذكر الله، وعلى وجوههم ترتسم البسمة، وفي قلوبهم تكبر المحبة… تتلاقى الأعناق، وتتصافح الأيدي، وتزهر بينهم عبارات التهنئة.
في العيد تبتهج النفوس، وتنداح دائرة السرور، فأكمل الناس حظا من أدخلوا المسرة إلى قلوب البؤساء، يمسحون دمعة يتيم، ويخففون وجد أرملة، ويمدون أغصان الإحسان إلى مسكين، فينبعث من أكفهم السخاء، ويسمع من نواطقهم قول المعروف.
وفرحة العيد إنما هي لأهل الاجتهاد في رمضان، الذين بذلوا وقدموا وصبروا، فحق لهم أن يبتهجوا بيوم الجوائز للفائز. وكأنّ حالهم في هذا اليوم كحال المؤمنين يوم القيامة؛ الذين صبروا ابتغاء وجه الله في الدنيا، وعملوا لذلك اليوم، فهنيئًا لهم أن يُقال لهم: «الذين تتوفاهم الملائكةُ طَيبينَ يقولونَ سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كُنتم تَعملونَ» (النحل: 32) ، فيطيرُ الواحدُ منهم فرحًا، ولسان حاله يقول: «فأما من أُوتيَ كِتابهُ بِيمينه فيقول هاؤمُ اقرءوا كِتابيه، إني ظننتُ أني مُلاق حِسابيه، فهو في عيشةٍ راضية، في جنةٍ عالية، قُطوفها دانية، كُلوا واشربوا هنيئًا بِما أسلفتُم في الأيامِ الخالية» (الحاقة: 24-19).
ماذا بعد العيد؟
ينبغي للمؤمن أن يكون على حذر من مداخل الفتن، فيمضي في طريق الهدى حتى يجد من أيامه كلها عيدا. يوم العيد الحقيقي أن يشعر المؤمن بالطاعة، وأنه قريب من الله تعالى، بعيد عن المعصية؛ بعيد عن الشيطان، يشعر بالحاجة المُستمرة إلى ذكر الله تعالى، فيرى تجليات الله عليه. والعاقل من يجعل من رمضان توبة تكون له بابًا إلى محبة الله ورسوله مما سواهما، فيحب ما أحب الله ورسوله ويبغض ما أبغض الله ورسوله، ويختار ما قضى الله ورسوله، وينصر الحق ويدعو إليه ولا تأخذه في ذلك لومة لائم. ويفرح المؤمن بأهله وبيته وأقربائه وبالمؤمنين عندما يختارون الله ورسوله، يفرح عند أمنهم وطمأنينتهم، ويحزن عند تفرقهم وتنازعهم، يقول الله تعالى: «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهبَ ريحكم واصبروا إن اللهَ مع الصابرين» (الأنفال: 46)، وأن تدعو الله تعالى أن يُوحِّد صفوفهم، وأن تشيع الأخوة، ويؤلف بينهم، ويلين قلوبهم بالحق، وبه يعدلون.
العيد دعوة للمسلمين لذكر الله حقيقة في قلوبهم، والتحاكم إلى أمره ونهيه «إنِ الحُكمُ إلا لله يقصُّ الحق وهو خيرُ الفاصلينَ» (الأنعام: 57)، وأي فرح يحمله المؤمن في قلبه وله من أخيه المسلم شحناء أو ضغينة وشحناء أو قطيعة، يقول الله تعالى: «فهل عسيتم إن توليتم أن تُفسدوا في الأرض وتُقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم اللهُ فأصمّهم وأعمى أبصارهم» (محمد: 23-22)، والنبي (ص) يقول: «ثلاثة لا يدخلون الجنة: مُدمن خمر، وقاطع رحم، ومُصدق بالسحر» (سنن ابن ماجة). أي سعادة يُريد أن يحصلها وهو مقطوع عن الله، مقطوع من رحمته؟! فليتب هذا وأمثاله إلى الله تعالى، وليتحلل من كل مظلمة قبل أن ينزل به ملك الموت، فيقول: «أن تقولَ نفسٌ يا حسرَتى على ما فرَّطتُ في جنبِ اللهِ وإن كُنتُ لَمِن الساخرينَ» (الزمر: 56 ).
خُلاصة عامة
المؤمن الحقيقي يفرح بصومه الذي تزود منه من دُنياه لآخرته، يفرح لأنه اكتسب فيه قيّمًا إنسانية كونية قرآنية، واستطاع من خلاله أن يُفجر قوة روحية داخلية تجاوزت أثقال المادة الذاتية، فتحرر من قُيود النفس وشهواتها وحظوظها، وتنزه عن الوقوع في مساوئ الفعال والأقوال، لِيرتقي إلى ربه بلباس التقوى.
إن رمضان مدرسة الأخلاق الفاضلة بامتياز، تُزكي النفس وتُهذبها، وتُعالج انحرافاتها وتُسدد خطواتها، وتُقوِّم سلوكها، فتنطلق النفس بإرادة قوية إلى مَعالي أنواع البر كلها.
فعلى المؤمن العاقل أن يكون له من تصرم أيام رمضان ولياليه وقفة تأمل، ينظر إلى قلبه ومقامه ونشاطه في أنواع العبادة، وينظر إلى بره وإحسانه وأخلاقه، وينظر إلى علاقته مع ربه، وعلاقته مع ذاته، وعلاقة مع غيره من الناس والكوْن، ويقول ما أسعد الفائزين برضا الرحمن وما أشقى المحرومين من توبة يظفرون بها للعيش إلى جوار المنان، والمؤمن يرجو أن يكون ممن قبل الله صيامهم ويخاف أن يكون من الخاسرين.
يأخذ المسلم من رحيل رمضان عِبرة لِمُحاسبة النفس، فينظر يمنة ويسرة إلى ما قدم من أعمال في شهر كان ينتظره، ثم إنه ارتحلت أيامه مُسرعة لتذهب ببعض عمره ولِتُقربه من أجله. إنَّ رمضان لِمن اعتبر فُرصة العمر، فُرصة لا تكرر، وقد لا تُمنح للإنسان إلا مرة واحدة… فليُداوم المسلم على هذا المنوال من الأعمال الصالحة في باقي سائر شهور السنة والله المُستعان.