ملف

تمثلات الأدب الشعبي لشخصية ابن باديس السياسية (الشعر أنموذجا)

د. حشمان بن عثمان */

المقدمة
تعتبر دراسة الشعر الشعبي وتسليط الضوء على شخصية ابن باديس مكسبا مهما للباحث في مجال الأدب الشعبي، وهو ما يدعونا إلى إظهار أهم المواضيع السياسية التي عالجتها القصيدة الشعبية، ودراسة نقاط المائل الفكري في القصيدة، من حيث وجود صورة الشيخ ابن باديس في القصيدة أولا، ثم في الفكر الشعبي عامة، والسؤال المطروح هو: ما هي أهم الصور التي رسخت في الفكر الشعبي عن الشخصية السياسية لابن باديس؟ وهل وظف الشاعر عدة صور حول الشخصية أم اكتفى بتوظيف صورة واحدة فقط؟
لقد شوه الاستعمار الفكر الاجتماعي والثقافي وحتى الديني، كما زرع الفتن بين الأهالي، في سياسة سميت في ذلك الوقت بسياسة فرق تسود ، التي عرف بها الاستعمار الفرنسي، كما حاول أن يشوه الفكر الشعبي بغرس الأباطيل والخرافات، حين أنشأ بعض الزوايا وسخرها لأغراضه الاستعمارية، وحاول أن يوهم الناس بأن وجوده حماية للدين وزرع العقيدة الصحيحة، أما حريتهم فهي الأمن والاستقرار.
وكان الهدف من ظهور جمعية العلماء المسلمين، هو إصلاح المجتمع الجزائري فكريا ودينيا، وذلك بالعودة إلى منابع الدين الصافية، والثورة على البدع التي استحدثها الطرقيون، ونقد الواقع والخروج من التخلف المادي، والتحرر من الجمود الفكري.
فالشخصية السياسية للشيخ «ابن باديس»؛ شخصية فكرية صنعتها مواقفه وأعمالـه الإصلاحية، وقد تناولها الشعراء الشعبيون كرمز من رموز الإصلاح، فهو بالنسبة لهم أسطورة في المخيال الشعبي، تستحق الذكر والإشادة، كما يمكننا أن نلمس الميول الشعبي لهذه الشخصية؛ لأنه هو بين العرب والعالم كله، ذلك الانتماء العربي والإسلامي.

.1. البعد الإصلاحي الثقافي والديني
تمتاز القصيدة الشعبية بخصوصية ذكر الأبطال والتغني ببطولاتهم، وأعمالهم الفكرية والدينية وأثرهم على المجتمع، فيحسن الشاعر توظيفها بحيث لا تؤثر في جماليات القصيدة الفنية، وتعطيها صورة من الإبداع والجمال.
ومن بين المواضيع التي نجدها بكثرة في القصائد الشعرية الشعبية، التحدث عن مخلفات الاستعمار، وتأثيره على الفكر الشعبي الجزائري، حيث يبدع الشاعر في تصويرها، باستعماله الرمز الذي يوضح ثقافة الشاعر، والتي تبدو عند الكثيرين ثقافة محدودة، والحقيقة عكس ذلك؛ لأن الشاعر الشعبي قد أثبت أنه لا يختلف عن غيره من شعراء الفصيح ، فهو يملك رصيدا ثقافيا وأدبيا، يجعله يصور الأحداث بطريقة أقل ما يقال عنها أنها فائقة في الإبداع.
إن الشاعر الشعبي في ذكره للأحداث المزرية يصور مشاعره على أنها تتقطع من شدة الحزن على فراق الشخصية، وما حل بالبلاد جراء الاستعمار، يقول الشاعر عمر بن موسى في قصيدة «ابن باديس»:
أتفكر يا جيل رائد نهضتنا   وعوا رحم في انهار أن فرقناه
إمام الإصلاح حصن أمتنا   بالعلم والإيمان درسو ما ننساها
ويمكن أن يكون هذان البيتان مفتاحين للكشف عن شخصية ابن باديس وعن الوضع الاجتماعي الذي ارتبطت به الشخصية، ويمكن أن يساعدانا على فهم نفسية الشاعر، وموقفه من الاستعمار، والأوضاع التي عاشها الفرد الجزائري.
يتحدث الشاعر عن ابن باديس كرائد النهضة بوقوفه ضد تلك الأساليب الاستعمارية، ومحاولته نشرها في الفكر الشعبي، فاستعمال الشاعر للوحدة الموضوعية (رائد نهضتنا)، دليل على أن الأمر لا يخلو من الأبعاد الرمزية، التي تعبر على أن للشخصية بصمات في التغيير الفكري والاجتماعي؛ لأن المجتمع الجزائري وقت الاستعمار قد تأثر بتلك الأكاذيب الاستعمارية، وأخص بالذكر هنا ما يتعلق بالأمور الدينية والتعليمية.
والشاعر رغم نشأته وقت الاستقلال، إلا أنه يعرف جيدا أن الفكر تأثر بهذه الأساليب، والدليل على ذلك، أنه ما يزال يتمسك بمصطلح العروشة في وقتنا هذا.
ويهدف الشاعر الشعبي في تمثلاته حول الشخصية إلى عكس ذلك الشعور بالفقدان أو اليأس تجاه الحالة المزرية الواقعة، والتي أثرت في الفكر الاجتماعي للفرد، باعتبار الشاعر فردا منهم، يصارع مثلهم ويحس بمعاناتهم، فهو يرفض هذا الوضع، ويتعاطف مع أبناء وطنه، ويتضامن معهم بالوقوف ضد هذا العدو.
أما عن الشخصية التاريخية التي يوظفها الشاعر الشعبي في قصائده، «فهي التي يكون التاريخ بأحداثه وزمانه ومكانه مقومات رئيسية في تصويرها الفني، وأحيانا تتخذ من الأدب الشعبي مصدرا لأحداثها وشخوصها».
إن موضوع التمثلات، الذي نعالجه في هذه الدراسة، حول شخصية الشيخ ابن باديس يضعنا أمام صور مختلفة، قد وظفها الشاعر الشعبي للدلالة على المخبوءات النفسية والفكرية، وهي دليل على الصراع القائم بين ما هو مرفوض وما هو مرغوب به في المجتمع الجزائري على وجه الخصوص، فنلمس تلك الدلالات النفسية داخل الصورة التي يعالجهـا الشاعر الشعبي، في ذكره شخصية ابن باديس وتوظيفه للشخصية كوسيلة لردع الاستعمار وأفكاره المغروسة في فكر الفرد الجزائري، فيكون البعد الثقافي وسيلة لتحقيق المراد الذي يصبو إليه الشاعر الشعبي، حين يوظف الشخصية كوسيلة يؤثر بها نفسيا على الفرد، وهذا ما أكده عبد الله راجع حين قال: «إن نجاح الصورة الشعرية في أداء مهمتها على الوجه الأكمل، إنما يعود إلى الانسجام والتآلف الذي يحصل بين هذين المستويين»، إشارة إلى المستوى المعنوي والنفسي، فربط المستويين معا، يوصل الشاعر إلى دلالات الصورة الواضحة، أو الصورة الذهنية في فكر المتلقي يقول الشاعر محمد بوشتة، في مطلع قصيدة «ابن باديس»:
يا شعب بلادي زوخ الـيوم   وابن باديس زرع فيك روح التضحية
والعلماء جعلهم ربي مثل نجوم  ضاوين مثل المصابيح على البشرية
تستوقفنا فـي هـذه الأبيات صورة شعرية مثلها الشاعر بوشتة، للكشف عن دلالـة القصيدة الشعبية، حين وظف صورة استعارية يوحي بها إلى قيمة شخصية الشيخ ابن باديس، حيث شبهه بالعلماء، لكن في الحقيقة هي صورة ليست استعارة؛ بل هي حقيقة موجودة، كانت أعماله وآثاره شاهدا على ذلك. ويريد باستعماله هذه الصورة إبراز الجانب الحسي، القائم على علاقة بين الشاعر والشخصية السياسية من جهة، وبين الشخصية وأفراد المجتمع من جهة أخرى؛ لأننا نلمس ذلك التأثير المعنوي والنفسي، من خلال تتبع أبيات القصيدة كاملة.
ونلاحظ أيضا أن صورة الشيخ ابن باديس قد تتحقق لفظيا باستعمال الرمز الذي يعكس واقع المجتمع الجزائري، الذي يعاني فكريا ونفسيا جراء الاستعمار، فتكون الصورة الذهنية وسيلة يستعين بها الشاعر الشعبي، ليقاسم الشعب أحاسيسهم الوجدانية وارتباطهم الثوري.
أما في الصورة الثانية التي يظهر فيها الشيخ ابن باديس على أنه نجم يضيء ما حوله، فهي بنية اسمية لها دلالة عميقة، توضح شيئين أساسيين، الأول هو أن الشعب الجزائري كان يعيش في جهل وظلام، من خلال الأفكار الاستعمارية المغروسة في كيانه. والثانية أن الشخصية السياسية لابن باديس هي شخصية عالمة بأمور الدين، متفقهة في الشريعة الإسلامية، وجدت من أجل إصلاح المجتمع من الأفكار الفاسدة للمستعمر، وينقي المخيال الشعبي الجزائري من هذه الأفكار التي لا أصل لها ولا مرجع.
يقول الشاعر «حويلي» مزروع» في قصيدة «نوفمبر»
قاضونا شبان ضاعو فالشدة  كي نتفكر موتهم تبقى حاير
لكن بن باديسن كان على هدى  قال المؤمن لا يخضع للكافر
رانا مسلمين ماناش قرودة   حنايا هوما أولاد الجزائر
يتولد من خلال قراءتنا لهذه الأبيات شعور وإحساس بالغبن لفقدان الشبان، لكن حقيقة الفقدان لم تكن موت الجسد كما ذكر في عجز البيت الأول، وإنما موت العقل والفكر، والدليل على ذلك استعماله لفظة «ضاعو» ، التي ترمز إلى ضياع الفكر ، وليس ضياع الجسد، ووقت الشدة كما ذكر الشاعر هو الاستعمار وأساليبه، التي تدعو إلى ترك العقيدة، واتباع أفكار لا أساس لها. وهو ما يفسره الشاعر الشعبي في البيت الثاني، حين ذكر أن ابن باديس كان على هدى، ولم يتأثر بهذه الأساليب، هو الذي وجه الفرد ونصحه وحاول إخراجه مما هو فيه، كما حاول إصلاح فكره التائه، الذي فقد القدرة على التمييز بين ما هو حقيقة وما هو كذب، بين ما ينفعه وما يضره.
إن الشاعر الشعبي، كغيره من شعراء الجزائر يحس بمعاناتهم ويعيش ذلك القهر الذي عاشوه، لذلك فهو قريب من الشعب، ويرى أن الشعب غافل وليس جاهلا؛ لأنه لم يجد من يوجهه، ويبين له السبيل الصحيح، لذلك فهو يصور الشيخ ابن باديس على أنه العالم الذي بعثه الله تعالى، ليزرع الوعي الصحيح ويخرج هذا الشعب من ظلمات الغفلة ووضعه في المسار الصحيح، هو مسار الإسلام والعقيدة السليمة.
هذا النوع من الأشعار الشعبية يدعو فيه الشاعر إلى التحرر من قيود المستعمر، سواء أكانت هذه القيود سياسية أم فكرية، ثقافية أم دينية، عقائدية أم اجتماعية.
كما يدعو إلى رفع الظلم، والوقوف ضد أساليبه حتى ينصف الشـعب ويرجـع حـقـه المسلوب، والمتمثل في العيش الآمن والاستقرار الدائم.
وقد أبرز الشاعر عبد الحميد عبابسة * أهم الأعمال التي قام بها زعيم وإمام الإصلاح الشيخ عبد الحميد بن باديس، في قوله:
الأسبوع الثقافي في نور  عاصمة الشرق الجزائر
قسنطينة جمالها منظر   يتمتع فيها كل زائـر
سيرتها شايعه بجماها   تاريخها معروف برجالها
بن باديسن علم أبطالها    گون فيها الشعب الثائـر
عبد الحميد بن باديس   لون مدارس بالتأسيس
على العلم والفكر حاريسن  والعلم في قسنطينة زاهر
هذه صورة أخرى أعطت لشخصية ابن باديس مكانة في الفكر الشعبي الجزائري عامة والقسنطيني بخاصة، ومما لاشك فيه أن شخصية «ابن باديس» أصبحت تلك الشخصية المحبوبة والمرغوب فيها، لأن المجتمع الجزائري يدين بالإسلام، يشترط في من يؤمه أن يتصف بصورتين شاملتين: «الخلق» و «الخلق»، من هنا قدمه الشاعر الشعبي للاستدلال على الاكتمال أو الكمال، كما قدمه في أخلاقه العسكرية والاجتماعية في محاولة للاعتراف بمــا قدمه في سبيل إصلاح المجتمع من كل ما هو ضد الفرد والإسلام والوطن»
وقد سار الشاعر الشعبي «قادة قندوز» في قصيدته يا وطني العزيز بالدم نفديك»، على درب الشعراء السابقين، الذين ربطوا الشخصية بالمدينة أو البلد، حين قال:
يا وطني العزيز بالدم نفديـك   ما ننسى اللي فات والحق ينقال
يا الجيل الصاعد باغي أنعييـك  قاريين الثقافة تاريخ لجيـال
اللي أمتورخ في الكتوب ما فيه تشكيك   تاريخنا في الكتوب واعليك لقوال
تاريخ بن باديس ماهوش خافيك   الشيخ بوعمامة هو والأمير لبطال
يكتسب الوطن قيمة كبيرة في نفس الفرد الجزائري، فالوطن يشكل أحد مقومات الوجود، وأساس الانتماء، فحب الإنسان وارتباطه بالوطن، شعور إلهي ينشأ مع الفرد منذ وجوده الأول في الحياة، لكن هذا الحب قد يقوى ويتمتن حين يتعرض الوطن إلى الاحتلال، فالتجربة المعاشة في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي، هي تجربة مريرة وقاسية عرف فيها الفرد الجزائري قيمة الحرية، حين خاض صراعا مريرا مع العدو، الذي اعتبر الجزائر فرنسية، وعمل على تجريد الشعب من أرضه وتعريضه إلى معاناة الحرمان والجوع والفقر.
إن التضحيات التي قدمها أبطال الجزائر، أمثال الشيخ بوعمامة والأمير عبد القادر وابن باديس وغيرهم شكلت قوة اتصال بين الفرد الجزائري ووطنه، حيث لا يمكن لأي قوة مهما كانت أن تفرق بينهم.
وبذلك أوجد الشاعر الشعبي من هذه العلاقة موضوعات عديدة في قصائده، وذكر الأجيال بتضحيات الأبطال، وتاريخهم المليء بالمواقف، حتى وصل به الأمر إلى إضفاء نوع من التقديم على هذه الشخصيات، ومن أهم الرموز الشعرية في القصائد الشعبية معالجة القضايا الفكرية والثقافية، وربطها بالشخصيات السياسية.
2. البعد الإصلاحي السياسي
عرفت الجزائر نهضة شاملة وقت الاستعمار، ونتج عن ذلك ظهور أفكار تحررية ضد هذا التخيل، وأدت إلى ظهور ثورات يقودها رجال العلم والثقافة هدفهم الرئيسي خدمة الوطن، وكان ابـن بـاديس أحـد هـذه الشخصيات، التي أسهمت في خدمة الوطن، يقول ابـن باديس: «وأنا أشعر بأن كل مقوماتي الشخصية، مستمدة من (الوطن) مباشرة، فأرى من الواجب أن تكون خدماتي، أول ما تتصل به مباشرة ؛ لأنني كلما أردت عملا، وجدتني في حاجة إلى رجاله وماله وحاله وآماله وآلامه».
وأول الأعمال التي قام بها في مجال السياسة، البحث عن «الجماعة القائدة المفكرة، التي تقود المجتمع إلى الحضارة ، عن طريق انتخاب الجمعية وتعيين أعضائها.
وتزامن ظهور الجمعية، في وقت ضعف فيه الوعي الوطني، وزادت مظاهر الظلم والإرهاب المسلط على الفرد الجزائري، وظهور النزعة الوطنية المعروفة، «بالضعف والبساطة وانعدام التنظيمات السياسية»، ووسائل الإعلام والقيادة الوطنية، التي تحدد أهداف النضال وطرقه».
ومن هذه النقطة، يمكن القول إن الشعر الملحون عالج القضايا السياسية، باعتباره الوسيلة الإعلامية، في الوقت الذي غابت وسائل الإعلام، التي كانت تميل إلى الإعلام الفرنسي، وتبرز محاسنه.
وأهم الأعمال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي قام بها حتى يخفف معاناة الشعب من الوضع المزري الذي عاشه الشعب الجزائري، بسبب سياسة فرنسا الاستعمارية، بناء الجمعية وتسطير الأهداف الرامية إلى تحسين الوضع الأمني، الاجتماعي والثقافي لدى الفرد.
وقد وظف الشاعر شخصية ابن باديس كرمز يؤثر به على الفرد الجزائري ويحفز بـه المجاهدين؛ لأنه شخصية عالمة بأمور المجتمع، ومثقفة ثقافة جزائرية أصيلة، يعـرف التصرف ويحسن التسيير ، يقول الشاعر الشعبي في ذلك:
تكلم الفحل *** عربي ما يحملش الذل
رجل بطل *** أصلو من الإبراهيمية
يمثل الشاعر من خلال البيتين دلالات إيحائية لبعض الكلمات الرامزة، وهذا يدل على القوة الشعرية والإبداعية في الشعر الملحون، والمجسدة في تركيب الخطاب الشعري الشعبي.
فرمــز «الفحل» في صدر البيت الأول، له دلالة رمزية تمثل بها الشاعر؛ لأنهـا تـوحـي إلى الشخصية الشجاعة التي لم تكن تخشى قوة الاستعمار المدججة بالسلاح والإعلام والإمكانيات الضخمة، فهو الزعيم والقائد الذي يعرف ساعة الهجوم، وساعة الدفاع عن مصالح الوطن، فصورة الفحل هي صورة .استعارية. ومن مميزات الاستعارة أنها «ينبغي أن تكون جميلة الوقع على الأذن، جميلة للفهم وللعين أو لأي حسن آخر» ، فالشاعر الشعبي استقى صورة الفحل من الواقع المعاش، حيث أنها كلمة مستقاة من الحياة الشعبية، والتي تطلق على الجمل أو الخروف المحضر خصيصا لعملية الإخصاب، فأخذ الصورة ووظفها كرمز تتقاطع فيه بعض السمات كالقوة مثلا، وقد يدل مصطلح الفحل في المفهوم الشعبي، على الرجل الذي لا يرضى أن يعيش في الذل، ولا يسمح لأي كان بابتزازه وأخذ شيء يخصه، إذا كان بالقوة والاستبداد، ولهذا فإن إطلاق مصطلح الفحل على شخصية ابن باديس؛ لأنه يتميز بالإضافة إلى الخصائص المذكورة في السابق بالعلم والثقافة الواسعة وقوة التأثير على الفرد، ويستطيع أن يبذل له حالة الخوف التي يعيشها، إلى حالة غيرها، ممثلة في الشجاعة والإقدام. وهذا دليل على ذكاء الشاعر الشعبي، وقدرته على تصوير الأحاسيس الذاتية وتجسيدها وتحويل المشاهد، إلى انفعالات يتقمصها المتلقي عن طواعية» .
أما صورة «راج» بالتعبير العامي لها دلالات أيضا تختلف نوعا ما عن كلمة «رجل» باللغة الفصيحة، التي تطلق على كل مكر بالغ، فراجل هنا تعني الإنسان الذي لا يحب التل على نفسه، ولا يتحمل القهر، كما لا يقبل على نفسه وعلى أخيه المسلم الظلم و والإرهاب المسلط، فيقف وقت الشدة مع الضعيف، ويدافع عن شرفه وعرضه، ولا يسكت عن الحق حتى يسترجعه أو يقتل من أجله.
ومن تمثلات الشاعر أيضا استعماله لفظة «البطل» التي لها دلالة النجاح، الأمن، والاطمئنان، فالبطل» هو الصورة التي تريدها الذات ،للات من حيث التكامل، إنه تجسيد أحلام، وتجسد التطلعات إلى الخلاص، وإزالة ما لا نوده، وإسقاط ما لا نوده».
وصورة البطل هنا تدل على كمال الشخصية؛ فالشيخ ابن باديس ماهر في السياسة، عالم بأمور الدين، ساع إلى تحقيق الحرية الفكرية والجسدية داخل الوطن، يحسن التعامل مع الظروف العصيبة، قراراته صائبة وتصب في مصلحة الفرد الجزائري، باختصار البطل هو «قيمة وصورة كاملة يمتص المشاعر المثالية التي عرفتها الإنسانية، وتتشكل فيها الخبرات، إنه تعبيرات عن الأمل، وعن إمكانية الخلاص، وهذا ما ينبئ في الآن عينـه عـن واقع جارح، وقواهر نظيرة سلطة قامعة، أو لقمة غير سائغة، وبذلك يأتي ذلك البطل تغطيته لتلك الجراحات للواقع واللقمة والأمن وتوكيد الذات والمحن».
والشعر الشعبي هو الشعر القومي، الذي يعالج القضايا الاجتماعية الحساسة؛ كقضية الاستقلال مثلا، وقد استطاع الشاعر أن يصنع تفاعلا بين الفرد الجزائري وسلاح الإسلام والعروبة الوطنية في القصيدة الشعبية، يقول الشاعر الحاج لعمارة:
بن باديس قال يا جيل الأمل  هز سلاحك ما تهابش من لنذال
إن الغاية التي يرمي إليها الحاج العمارة، من خلال البناء الفتي في هذا البيت، هي إبراز دور ابن باديس في الثورة، حيث مثله في صورة القوة، وبالمقابل صور الاستعمار في صورة الضعف، حين يخاطب الشعب ويدعوهم إلى حمل السلاح ضد الدخيل الاستعماري، الذي مثله من خلال استعمال لفظة « النذل»، والتي يريد من خلالها التقليل من هيبة الاستعمار وسياسته الرهيبة، التي يمارسها على الشعب، ويستشهد الشاعر في هذا الموقف، حين يمثل الشيخ ابن باديس بالرجل السياسي والقائد العسكري، الذي يبدد دوافع الخوف واليأس، ويحاول من خلال خطابه أن يجعل من الأحزان وسيلة للتضحية، ورفض أشكال وأساليب القمع والإرهاب، «وقد أخذ نجمه يتألق في سماء الكفاح، وأخذ اسمه يكتسح ميادين النضال، وأخذت بواكير أعماله الإصلاحية تبدد حجب الظلام الحالك… وكان عبد الحميد بن باديس الحادي عشرة من ذلك الرعيل الأول، الذي بعث به عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي، لهذا المغرب العربي، يعلم الناس دينهم ويجدد إيمانهم، ويمتن أخلاقهم ويهديهم سبيل الرشاد، وقد لا يستطيع أحد وصف هذا الرجل «العملاق».
ولذلك نلمس تلك الثقة التي وضعها الشعب في شخص ابن باديس والأمل المشرق، من خلال التعلق الحاصل بينهما باعتباره رمزا ثوريا ودينيا، فـ»الشخصية المؤمنة للشيخ ابن باديس، قد تجاوبت معها النفوس، واطمأنت إليها القلوب، وتابع الشيخ بعد ذلك دوره باندفاع وحماسة شديدين، لا يتعبه الجهد ولا ينال منه التعب، ويزيد من حماسته واندفاعه ما كان يلمسه من تجاوب عميق في نفوس تلاميذه وأتباعه» (بسام ، د ت صفحة 96). وهذا ما يوضحه الشاعر محمد بوشتة في قوله:
يا شعب بلادي كافحت جيش شوم   وحققت لبن باديس هذا الأمنية
أنت اليوم ما عليك لوم بن باديس   مدحك في قصيدة شعري
يربط الشاعر هنا في هذا البيت بين الكفاح والشيخ ابن باديس وقت ما كان يزرع الفكر الكفاحي في نفس الفرد الجزائري، وكان يأمل أن ينهض بالوقوف ضد كل الأوضاع، سواء كان هذا الوقوف وقوفا اجتماعيا أو سياسيا أو دينيا.
إن في شخصية ابن باديس شيء يختلف عن الآخرين، فهو لا يرضى بما يرضى به الآخرون لأنفسهم، ينظر إلى الفرد الجزائري بمنظار القيم الإنسانية والاجتماعية، وهذا ما ولد في نفسه شعورا قويا، بالوقوف ضد الحياة المذلة والهوان الحاصل بسبب الواقع الاستعماري.
يوضح الشاعر الشعبي صورة الرضا التي قد تتولد في نفس ابن باديس؛ لأن لفظة «الأمنية»، تدل على المعاناة والضغط النفسي الواقع بسبب الأوضاع الراهنة، والتي جعلت ابن باديس يوظف كل الإمكانيات المادية والبشرية والفكرية من أجل النهوض ضد هذا الوضع الاستعماري. يقول محمد بوشتة في القصيدة نفسها:
خلـيت لستعمار حاير أيعوم   أفكـر ليل ونهار بكل عقليه
گونت شخصيات غاليين فسوم   بينتلهم سبيل الوصول إلى الحرية
(فتيحة، 2007، صفحة 131).
من بين الأهداف التي سعى إلى تحقيقها، الشيخ ابن باديس هي الحرية، والتي تعني بالمفهوم الشعبي الاستقلال، لكن لفظة الحرية أشمل وأوسع في المعنى، فهي حلـم كــل جزائري، وحق طبيعي متأصل في روحه، وارد في الأديان والشرائع، وأقرته القوانين الدولية، ووافقت وصادقت عليه الأعراف.
إن الشاعر الشعبي باستعماله لفظة الحرية في القصيدة يهدف إلى فك شفرة الموضوع، الذي يريد إيصاله إلى المتلقي، كما يحاول أن يؤثر عليه ويبرر هذا التأثير، ويحيي وجدانه قصد النهوض، وعدم تقبل الوضع الذي يعيش فيه، فهو بهذا يجسد الثورة من خلال النظم، معبرا عن آلامه ورفضه للواقع المعاش، في تلك الفترة وموظفا الرمز في التعبير عن وجدانه، مستعملا اللغة العامية البليغة، والصورة الذهنية العميقة، لينتج علاقات داخل البنية التركيبية القصيدة الشعرية الشعبية، ما يسمح بوجود أفكار تعكس الواقع المعاش، وتؤثر في نفس المتلقي، يقول الشاعر عمر موسى:
الشباب عليه نبني أملنـا   إذا كان أحنا بحكمة علمناه
وانوريه أمجاد فيها عزتا   وبالمقومات عقلـو سلحناه
الظالم من جاو قصدو يخذلنا   وجدنالـو كل أفة حاربناها
يريد الشاعر من خلال هذه الأبيات أن يبين الطريقة المثلى التي اعتمدها الشيخ ابن باديس، في بناء مستقبل الجزائر، وذلك من خلال الاعتماد على الشباب كأساس لمستقبل الوطن، فهم رمز المستقبل وأساس الدولة والأمل المشرق، الذي يخرج الوطن من المحن، إذا أحسن تعليمهم وتربيتهم سيكون للوطن مستقبل ناجح، لكن إذا لم نحسن تعليمهم، ستجني سوء العاقبة ونؤدي بمستقبل البلاد إلى الهاوية وبئس المصير.
ويقصد الشاعر في ذكره «بالحكمة علمناه»؛ أي أن يكون استمرار التجربة التي بدأها الشيخ ابن باديس، مقتديا به؛ لأنه عالم بأمور الدين، فاهمة لما هو مقبل عليه، فالشاعر يريد غرس فكرة في ذهن الشباب؛ وهي الاقتداء بأمجاد الماضي، التي كانت تسعى إلى العزة والكرامة ونبذ الظلم والاضطهاد، والمحافظة على مقومات الشعب، المتمثلة في اللغة والدين والوطن، وهذا ما يفسره الشاعر في آخر بيت من قصيدة ابن باديس» بقوله:
يحيا وطني فيه تكمل فرحتنا   عروبة وإسلام شعار أرفعناه
فدور الشباب هو حماية الوطن من الدخيل الأجنبي؛ لأن الفرحة لا تكون إلا بالاستقلال والحرية والحفاظ على اللغة والدين شعار الشيخ ابن باديس والسبيل إلى اكتمال الفرحة والعيش في سرور داخل الوطن المستقل. يقول الشاعر بن جدية محمد:
جمعية العلماء في الجزائر مشهورة قالوا   الموت أحسن لنا من ذي الحياة
أنو حدو صفوفنـا راجل وامراه   النصـر حليفنا وإلا الممات
يعتمد الشاعر في هذه الأبيات على الرمز، في إشارته إلى جمعية العلماء المسلمين، والتي يقصد رئيسها الأول الشيخ ابن باديس وأحد مؤسسيها . وأما الصورة الرمزية فتظهر بإعلان شهرتها في الجزائر، وأهم الأهداف التي تسعى إليها الجمعية، والمتمثلة في توحيد الصفوف، والوقوف إلى جانب أبناء الوطن وقفة الرجل الواحد، لإخراج العدو بكل الطرق والسبل الممكنة، حتى ولو تطلب من إخراجه التضحية بأجسادنا والاستشهاد في سبيله؛ لأن الموت بالنسبة للأفراد أهم وأرحم من العيش تحت لواء الظلم والاستبداد وعيش الحياة الفاسدة، يقول الله تعالى في كتابه الكريم:{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}(سورة التوبة) فالشاعر في هذه الصورة يكشف عن هدف ابن باديس من تأسيس الجمعية، والذي يدعو إلى التضحية بالنفس والنفيس، في سبيل إعلاء كلمة الحق وتحرير الوطن.
وهنا تتوحد شخصية ابن باديس مع فكر الشاعر، في نقاط مشتركة، ذلك عندما مثل الشخصية في الحاضر، وجعل لتجربتها وأبعادها نقطة يقتدي بها أفراد الوطن. ونلاحظ أيضا أن للثقافة الإسلامية أثر بارز جعلها الشاعر وسيلة إقناع باعتماده على الرمز الديني الثقافي والاجتماعي والسياسي، ينافس من خلاله قضية الفساد الفكري والدين والمعاناة الاجتماعية للفرد الجزائري فهو بهذا يعكس واقعة المعاش، ويستحضر تاريخ الشخصية الحافل بالأمجاد والبطولات، ليرمز إليه برموز تشع بالإيحاء، و»تستمد طاقاتها الإيحائية، من إضفائها جوا رمزيا أسطوريا»

الخاتمة
إن القراءة التحليلية التي أسقطناها على الخطاب الشعري الشعبي مكنتنا من الوقوف على بعض الخصائص التي تميز القصيدة الشعبية الجزائرية عن غيرها من القصائد العربية، والتي تبرز في البنية الفكرية والمعرفية، والتي تتحقق في حضور الرموز ودلالاتها، وتكون الشخصيات السياسية أحد الرموز الحاضرة في المخيال الشعبي رغم تنوع الأساليب اللغوية، ومن خلال هذا وقفنا على مجموعة من النتائج أهمها:
– تمثل شخصية ابن باديس السياسية في الشعر الشعبي، على أنها شخصية قريبة من الفرد الجزائري، وتسعى إلى الخدمة العليا للمواطن.
– وظف الشعراء بعض الألفاظ التي ترتبط بالموضوع نفسه، رغم اختلاف اللهجة في غالب الأحيان.
– استطاع الشاعر الشعبي أن يوصل أفكار الفرد وحقيقة حياته وصموده أمام المواجهات المختلفة رغم بساطته والحصار المفروض عليه.
– البناء في القصيدة الشعبية يقوم على أساس مجريات الأحداث والمناسبات الوطنية، والقضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية، والمواقف الثورية ضد الاستعمار وضد كل عدوان على الوطن.
– يعتبر الرمز الشعري في القصيدة الشعبية وسيلة يعتمدها الشاعر في تعبيره عن الموضوع.

للموضوع مراجع
* المركز الجامعي نور البشير – البيض – الجزائر

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com