عبد العزيز كحيل/
كانت الكلمة الأولى «اقرأ» إيذانا بقدوم عصر الفهم، فهي مفتاح الفهم الصحيح للدين والإنسان والكون والحياة، ومقتضياتها الضرورية هي بالدرجة الأولى المدرسة والكتاب والقلم.
البداية لم تشر إلى تحطيم الأصنام المحيطة بالكعبة، ولا إلى الصلاة وهي عماد الدين، ولا حتى إلى معرفة الله وأصول العقيدة والتوحيد لأن بناء صرح التوحيد يستند حتما إلى العلم والمعرفة لا إلى الوراثة والتلقين، وبعد الكلمة المفتاحية الأولى أقسم الله تعالى بالقلم وليس بالسيف، وذكر الكتاب الذي لا ريب فيه، فقرأ المسلمون، وفهموا أن البداية الصحيحة تكون بهدم الاصنام الفكرية وتحرير العقول منها، وكوّنوا جيلا قام بإزالتها من القلوب والواقع بكل سهولة ويسر، لذلك استنبط علماؤنا من الوحيين أن العلم ليس حقا من حقوق الإنسان فحسب بل هو واجب ديني تجاوز فرض الكفاية إلى فرض العين، به تُبنى أمة شاهدة بإيمان مبني على العلم…كل هذا جميل لكن عن أي علم نتكلم في واقعنا الحالي ونحن نعرف حال المدرسة والكتاب والقلم، حيث طغى الكم على الكيف، والكرة على الكتاب، وأدوات اللعب على القلم؟
أي علم هذا الذي يعمل على تجفيف منابع التديّن، وقد أفرغت المناهج الدراسية من حقائق الإسلام ومكارم الأخلاق، لصالح لما يسمى «القيم الإنسانية» أي أدبيات الماسونية التي تركز على نظرية التطور (وتعدّها حقيقة علمية قطعية) والتحرر من الإيديولوجيا (أي من الدين) واعتماد الحرية بمفهومها المتجذر في الفكر الغربي، أي حرية التحلل من الثوابت بل التمرد والبهيمية والعدمية، حتى غدونا – وبكل قسوة المشهد البائس – أمام منظومة تربوية تنتج جيلا فاسدا مخمورا مدمنا، وأخيرا قاتلا لا ينجو من طعناته أستاذُه.
عندما تمّ إفراغ المناهج من البُعد الديني والقيمي والأخلاقي أصبحت المؤسسات منقطعة تماما عن التربية، وغدت هياكل للتعليم أو قل لمحو الأمية كما يؤكد الواقع، وغزتها السجائر والمهلوسات والمخدرات وتبرج الفتيات وانحراف المراهقين والشباب، وظاهرة حمل الأسلحة البيضاء في المتوسطات والثانويات، واللباس الفاضح وقصات الشعر الشيطانية، وغاب الاهتمام بالعلم والنهل من المعارف.
والمناهج التربوية بهذا الشكل المشوه كفيلة بتحريف العملية التربوية بأكملها، فكيف إذا تضافر ضدها إهمال الأسرة للتربية، وانشغال الأستاذ بالدروس الخصوصية، وتفنّن الإعلام في إفساد الأخلاق والأذواق، وبقاء المسجد في زاوية الرتابة والسلبية؟ إنها مأساة العلم في أمة «اقرأ».
العلم منوط بالدرجة الأولى بالمعلم، والمعلم طُعِن طعنة غادرة في الظهر عندما أصبح لا قيمة له في مجتمع يرفع أصحاب الأقدام ويضع أصحاب الأقلام، لكنه يتحمل – من جانبه – جزءا كبيرا من مسؤولية التردي حين تكاسل عن أداء الواجب المهني بذرائع شتى وأصبح ينفق جهده بالليل والنهار في الدروس الخصوصية أي تخلى عن المهمة النبيلة وانخرط بلا تحفظ في الدورة المادية التي لا قيم فيها ولا مقاصد تربوية ولا تعبدا لله تعالى.
أما الجامعات فقد تحولت إلى ثانويات كبيرة، ففقدت الجامعة دورها في التكوين العلمي رفيع المستوى، وأصبحت تصدر شهادات التخرج التي لا تعكس مستوى أصحابها، بل هي أدنى إلى شهادات بطالة لا حظ لها في البحث العلمي والابتكار والانجاز المعرفي وترقية المجتمع، ووصل الحال بالصرح العلمي العتيد إلى احتضان السلوكات والعادات والتقاليد المكتسبة من البيئة المحلية المتصفة بالانغلاق والخشونة، حملها أصحابها معهم إلى قاعات ومدرجات الدراسة، بعد أن كانت الجامعة تٌحلي الطلبة بالسلوكات الحضارية… فقدت الجامعة بريقها وحتى وظيفتها، وما قيمة جامعة ليس فيها لا نقاش ولا حوار ولا تفكير بل تلقين وترديد من جهة، واهتمام مفرط بمسائل الإيواء والتغذية والنقل من جهة أخرى من طرف الطلبة ونقاباتهم والإدارة وجميع الأطراف؟ ولنا أن نسأل على سبيل المثال: أين الفقهاء التي خرّجتهم جامعة الأمير عبد القادر؟ هناك فئة منهم قليلة العدد تشفي الغليل وتشرّف العلم والجامعة، أما البقية فمجرد موظفين قتلتهم الرتابة، وقل نحو ذلك عن باقي التخصصات، لذلك نلاحظ بكل أسف أن العلماء فقدوا المصداقية إلى حد بعيد.
إن الوفاء للشيخ عبد الحميد بن باديس وجمعية العلماء يقتضي حتما إعادة الاعتبار العاجل للعلم إن لم يكن على المستوى الرسمي فبإحياء العمل الشعبي الموازي.