رمضانيات

العلم والإيمان طريق واحد

أ.د. عبد الملك بومنجل/

هذه المقالة تعالج قضية لها صلة وثيقة بمنهج تفاعلنا مع الحياة وإدارتنا لها، ولا شك أن أعلى المطالب في هذا الشأن هو أن ندير حياتنا بطريقة سوية، تقوم على أساس من العلم، وليس المقصود بالعلم هنا ما يشاع في دوائر الثقافة الغربية والهوامش التابعة لها، وإنما هو العلم بمفهومه المطلق: ذلك العلم الذي يبنى على أسس سليمة، ويؤدي إلى نتائج سليمة، تقود إلى سعادة الإنسان العاجلة والآجلة. كما تستهدف المقالة تصحيح مفاهيم ربما كانت صحيحة في منبتها، ولكنها فاسدة في بيئتنا وفي الحقيقة الكلية، وكذا إعادة بناء العلاقة بين المفاهيم المركزية في حياتنا بناء سليما موافقا لأبجديات المعرفة الموضوعية، لينطلق الناس في حياتهم متحررين من كوابح الصراع بين الضرورات، ومن أوهام التعارض بين المتجانسات، ولأن مورد أطروحة التعارض بين طريق العلم وطريق الإيمان هو الحضارة الغربية، فإنا نبادر بالقول:

إن للحضارة الغربية –على ما لها من رذائل- فضائلَ جمة، على رأسها: منح العقل مجالا واسعا للبحث والنظر والنقد والاعتراض، وعدم التسليم بكل ما نُقل عن المتقدمين، ولو خُلع عليه عباءة العلم والحقيقة والقداسة؛ فهذا منهج نؤمن به، وها نحن نطبقه، فنسائل الغربيين وأتباعهم من «المفكرين» العرب، عن مصداقية قولهم بالتعارض أو التباين بين طريق العلم وطريق الإيمان، واسمحوا لي أن أجعل لفظ «المفكرين» بين قوسين؛ لأني أرى أن المفكر الحق هو من يفكر لا من يساير، ومن ينتقد لا من يعتقد؛ والقائلون بأطروحة التعارض بين طريق العلم وطريق الإيمان من الكتاب العرب أخذوا الفكرة من الغربيين كما هي، ولم يكلفوا أنفسهم جهد التفكير في مدى سلامة الأطروحة، ولا جهد المقارنة بين بيئتين، للعلم والإيمان فيهما وضع مختلف ومفهوم مغاير.

في ضبط المفاهيم
الانطلاق من ضبط المفاهيم مقدمة منهجية ضرورية لكل عمل علمي يتوخى الحصول على نتائج منضبطة بشروط الموضوعية، وتحديد مفهوم العلم ومفهوم الإيمان سيحل كثيرا من المشكلات المصطنعة في العلاقة بين المفهومين، وقبل الشروع في ضبط المفهومين يجدر بنا أن نصوغ الدعوى التي نحن بصدد نقضها، وقد عبر عنها طه حسين على هذا النحو:
«الخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية لا سبيل إلى اتقائها ولا إلى التخلص منها، هي أساسية جوهرية لأن العلم والدين لا يتصلان بملكة واحدة من ملكات الإنسان، وإنما يتصل أحدهما بالشعور ويتصل الآخر بالعقل، يتأثر أحدهما بالخيال ويستأثر بالعواطف، ولا يتأثر الآخر بالخيال إلا بمقدار، ولا يعنى بالعاطفة إلا من حيث هي موضوع لدرسه وتحليله».
وعبر عنها إسماعيل مظهر في مقدمة ترجمته لكتاب أندرو ديكسون وايت: «بين الدين والعلم؛ تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى»:
«لا يمكن أن يكون بين الدين والعلم تجالُد وصراع؛ لأنهما -على الرغم من الفوارق الطبيعية الكائنة بينهما والتي لا تجعل للصراع بينهما مجالا- يستمدان من ناحيتين متباعدتين من نواحي التكوين الإنساني» وخلاصة هذا التباعد بين العلم والدين «أن المعرفة والتحقيق لزام الأول، وأن الإيمان والاعتقاد لزام الثاني».
وخلاصة الأطروحة أن العلم والإيمان لهما طريقان مختلفان، ويتصلان بملكتين متباينتين: الأول طريقه التحقيق والبرهان، وملكته العقل، والثاني طريقه التصديق والإذعان، وملكته الشعور والخيال. فهل الأمر كذلك؟
ما العلم وما الإيمان؟
العلم إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع، هذا هو التعريف الذي تقدمه المعاجم المتخصصة، وهو تعريف موضوعي وليس موضع جدل، فلننظر في معنى الواقع الذي هو موضوع للإدراك، ولننظر في الجهات التي في وسعها أن تحيط علما بالواقع بعضه أو كله.
أما الواقع فمن الأفضل –حتى تستبين لنا الفكرة- أن نستعمل بدله مصطلح الوجود، والوجود كما هو معلوم يتجاوز الأرض التي عليها مستقرنا إلى الكون العظيم ما علمنا منه وما لم نعلم، كما يتجاوز عالمَ الشهادة إلى عالم الغيب، وعلى رأس عالم الغيب واجب الوجود الذي هو الله.
ينبغي بناء على هذا الاعتبار أن يُنظَرَ إلى أمرين:
الأول: أن موضوع العلم لا ينحصر في عالم الطبيعة، بل يجوزه إلى ما وراء الطبيعة، أو باصطلاح قرآني: يتجاوز عالم الشهادة إلى عالم الغيب.
الثاني: أن العلم يصدر عن جهتين متباينتين متفاوتتين تفاوتا عظيما في طبيعة العلاقة مع العلم وفي مقدار الإحاطة به؛ جهةٍ جاهلة في الأصل، وإنما تحصل على مقدار من العلم بما أودع فيها من ملكة الملاحظة والإدراك والتمييز والاستنباط، ثم بما تمارسه من النظر والتجريب والبحث، وهذه الجهة هي الكائن البشري.
وجهةٍ العلمُ صفةٌ من صفاتها الأزلية، وهو علم كاملٌ مطلق محيط بالموجودات جميعا؛ لأنه هو موجِدُها (خالقُها)؛ وهو الله العليم الخبير.
السؤال الآن: ما هي العلوم التي صدرت عن الجهتين؟ وكيف نتعامل مع هذه العلوم؟ وأيها أجدر بالتصديق والإيمان والاطمئنان؟ وبأيهما نأخذ حين ظهور التعارض؟
الجواب: أن الكائن البشري خاض في علوم الطبيعة، فتدرّج به الزمان متخبطا بين الخطأ والصواب، إلى اكتشاف حقائق طبيعية هائلة العدد لاسيما في القرنين الأخيرين، كما خاض فيما وراء الطبيعة، فخبط في الأمر على غير علم، فلامس بعض الحقائق الكبرى كوجود الله ووحدانيته، وأخطأ في أخرى، ولم يزل هذا الكائن يبحث ويجتهد طلبا لإدراك الحقائق الكونية في الطبيعتين الحية والجامدة، فيصيب مرة ويخطئ أخرى.
أما الله تعالى، وهو العليم الخبير، فقد بلَّغَ الكائن البشري، بطريق الوحي الذي نقله الأنبياء عليهم السلام، علوما كثيرة، يتعلق بعضها بعالم الغيب وبعضها الآخر بعالم الشهادة (عالم الطبيعة: أي الخليقة، الموجودات). وكل تلك العلوم موسوم بالصحة والدقة؛ إذ لا يخطر في بال عاقل أن علم العليم الخبير يمكن أن يطوله القصور.
هذا عن العلم، فما الإيمان؟
ينبغي أن نخرج عن نطاق الدلالات المصطبغة بألوان الاعتقاد المختلفة في العالم، لكي نقدم مفهوما مطلقا ودقيقا لمصطلح الإيمان، ربما وجدت المسلمين يعرّفون الإيمان بأنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ ولكن هذا ليس تعريفا للإيمان في ذاته، بل لأركان الإيمان الكبرى لدى المسلمين.
ينبغي أن نأخذ بدلالة الإيمان في اللغة لا غير، والإيمان في اللغة هو التصديق والاطمئنان، وصلته بالأمن واضحة؛ فأن تؤمن بأمر ما يعني أنك تشعر بالأمان إزاءه، أي أنت مطمئن إلى أنه صحيح، وأنه يقودك إلى الحق وإلى بر الأمان، ومعنى هذا أن المؤمن يُفترض فيه من حيث المبدأ ألا يؤمن بشيء إلا بعد اطمئنانه إلى صحته ومأمونية عاقبته، فإن لم يتحقق هذا الشرط ففي طريق إيمانه خلل، وعليه أن يراجع نفسه.
ننظر الآن في وجوه العلاقة بين العلم والإيمان.

العلم والإيمان كلاهما طريقه البرهان
خلافا لما يزعمه عدد كبير ممن يعنون بفلسفة العلم وفلسفة الدين من الغربيين وأتباعهم من المشرقيين، من أن طريق العلم هو البرهان والتحقيق، وطريق الدين هو الاعتقاد والتصديق، دونما إعمال للعقل وطلب للدليل، فإنّا نقول بأن العلم والإيمان يشتركان في الطريق الذي يقود إلى تحصيلهما، وهو طريق البرهان؛ فكيف يكون ذلك؟

لنبدأ بالعلم. كيف يحصل العلم؟
العلم علمان كما ذكرنا: بشري محدود، وإلهي مطلق. الإلهي يحصل صفةً لله تعالى ويبلغنا بطريق الوحي، أما البشري فيحصل بثلاث طرق: النقل عن الله، العقل، والتجريب.
أما النقل عن الله فبرهانه قائم ببداهة العقل؛ فالعقل يعلم بداهةً أن ما يصدر عن الله فهو صحيح كامل الصحة لأن الله كامل في ذاته وصفاته. وأما الأخذ عن العقل فمسألة معقدة نبسطها بأن الله قد هيأ في الإنسان ملكةً تؤهله لإدراك كثير من الحقائق بطريق البداهة أو البحث والاستنباط اعتمادا على تلك البداهة وعلى الحواس التي أمده بها.
وأما التجريب فهو عمل العقل والحواس في الموجودات اعتمادا على بعض الوسائل التي يهتدي العقل إلى اكتشاف صلاحيتها لتحقيق المراد.
في كل هذه الطرق لا يقوم للعلم قائمةٌ إلا ببرهان، والبرهان نوعان: عقلي وحسي، وفي كلا البرهانين قوة نسبية وليست مطلقة؛ لأن العقل قد يخطئ، ولأن الحس قد يخطئ أيضا؛ والأدلة على ذلك كثيرة؛ وإنما يأخذ العلم الناتج عن العقل والحس إطلاقيته إذا وافقه العلم المأخوذ عن الله.
هل للإيمان أيضا علاقة بالبرهان؟
هذا مؤكد، دعك مما يشيعه الفكر الغربي وبعض الفكر العربي المعاصر من أن الإيمان مسألة شعورية وجدانية وليس مسألة علمية برهانية، ودعك من التقسيم السقيم الذي قطّع به الجابري أوصال الفكر الإسلامي إلى بياني وعرفاني وبرهاني كما لو أنه لا يستقيم اجتماع البيان والعرفان والبرهان في آن، ودعك من الإيمان التقليدي الموروث الذي تتداوله الأجيال دون تفكير، فينشأ البوذي بوذيا واليهودي يهوديا والنصراني نصرانيا أخذا لذلك عن والديه أو بيئته دون مساءلة ومراجعة وتحقيق وطلب للدليل.
دعك من هذا، وتناول الإيمان بمفهومه اللغوي حيث التصديق شرطه الدليل والاطمئنان شرطه البرهان، ثم بمفهومه في بيئتنا الإسلامية حيث كل القرائن تدل على أنه لا إيمان لدى المسلمين إلا ببرهان.
كيف ذلك؟ أليس أكثر المسلمين مؤمنون بالوراثة لا بالدليل؟
لا ننكر ذلك، ولا خطر عليهم من ذلك ما دام الإسلام هو دين الفطرة وليس دينا آخر يصرفهم عن الفطرة، وقد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم:((كلُّ مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يُهوّدانه أو ينصِّرانه أو يُمجِّسانه)). ولكن الأصل الذي تدل عليه آيات القرآن الكريم هو طلب البرهان، أو المطالبة بالدليل قبل التصديق والإيمان. وكم شنع القرآن الكريم على الذين يأخذون عقائدهم بتقليد الآباء والأجداد، وعلى الذين يبنون عقائدهم على الظن لا اليقين؛ وكم طالب أصحاب العقائد الباطلة بالبراهين، وكم أورد من حجج يطمئن إليها العقل في معرض إثباته لعقائد الإسلام وأحكامه وأخلاقه، ولك أن تقرأ كتاب العقاد «التفكير فريضة إسلامية» لتدرك أن الإيمان في الإسلام لا يقوم إلا على البرهان، وإنما يكون تقليدا لدى الجاهل العاجز عن البحث والاستدلال؛ فإما سلمت له فطرته فنجا إذا نشأ في بيئة مسلمة سليمة الاعتقاد، وإما فسدت فطرته بما يرث عن آبائه غير المسلمين وما يتعلم من بيئته غير المهتدية إلى دين الله المتين.
يقول جمال الدين الأفغاني: «إن الدين الإسلامي يكاد يكون متفردا بين الأديان بتقريع المعتقدين بلا دليل، وتوبيخ المتبعين للظنون، وتبكيت الخابطين في عشواء العماية، والقدح في سيرتهم. هذا الدين يطالب المتدينين أن يأخذوا بالبرهان في أصول دينهم، وكلما خاطب خاطب العقل، وكلما حاكم حاكم إلى العقل…». «إنّ الإنسان من أكبر أسرار هذا الكون، ولسوف يستجلي بعقله ما غمض وخفي من أسرار الطبيعة، وسوف يصل بالعلم وبإطلاق سراح العقل إلى تصديق تصوراته، فيرى ما كان من التصورات مستحيلا قد صار ممكنا، وما صوره جموده بأنه خيال قد أصبح حقيقة…»
الإيمان عندنا –نحن المسلمين- إذاً يقوم على العلم. ويكفي هنا أن تستحضر قول الله تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}(محمد: 19)، وقوله: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(البقرة: 111). ويكفي أن تعلم أن الله قرَنَ الإيمان بالعلم في آيات كثيرة: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ}(آل عمران: 18)، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}(آل عمران: 7)، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}(فاطر: 28).
فالحقائق الإيمانية المبنية على أساس البرهان حقائق علمية، مثلها مثل الحقائق العلمية التي يُتوصل إليها بطريق الاستدلال العقلي أو التجريب الحسي، فقولنا: اثنان هما واحد + واحد، كقوله تعالى:{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ}(الصافات: 4)، وقولنا: التراب يتشكل من كذا وكذا، كقوله تعالى:{فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ}(الحج: 5)، وقولنا: المطر ينزل بفعل كذا وكذا، كقوله تعالى:{وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}(لقمان: 34)، وهكذا فإن حقائق العلم ثابتة كحقائق الدين، ولا تتخلف عن هذه القاعدة إلا عندما يبطل أن تكون حقائق، ويبطل العلم أن يكون حقا هو العلم: (إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع).

العلم إيمان والإيمان علم
نبلغ الآن درجة أخرى في التقريب بين الإيمان والعلم، فنفترض أن العلم هو في نهاية الأمر إيمان، وأن الإيمان هو في نهاية الأمر علم؛ فكأنما هما مفهومٌ واحد لاسمين مختلفين!
ربما استغرب القارئ ذلك؛ ولكن الواقع ليس بعيدا عن هذه الفرضية؛ فالعلم متحولٌ حتما إلى إيمان ساعة يتلقاه المتلقون فيصدقونه ويؤمنون به. والإيمان يُفترَض أن يكون ناتجَ ما يحصل من العلم؛ فهو ملابسٌ له ملابسة العلة للمعلول، وإليك تفصيل هذا الإجمال:
قليلون جدا من يعلمون بأنفسهم حقائق الطب والفيزياء والكيمياء والفلك وغيرها بطريق التجريب والاكتشاف، أما غيرهم (وهم ملايير) فيعلمون ذلك أو بعض ذلك بطريق الإيمان: بطريق السماع والنقل والتصديق. وكما يتزعزع الإيمان بالأديان لدى قوم، يتزعزع الإيمان بأخبار العلوم أحيانا، بحق وبغير حق؛ ومن الأمثلة على ذلك، الجدل في موضوع كورونا، وفي موضوع الطب البديل، وفي موضوع ما تعلنه وكالة نازا المختصة بعلم الفضاء.
إن الطبيب الذي تأخذ منه الدواء راجيا الشفاء لم يُجر هو ذاته التجارب المخبرية التي أثبتت نجوع الدواء في العلاج، ولكنه تعلمه بالقراءة؛ أي بالنقل والخبر والسماع، أي: آمنتَ بصحة معلوماته، وآمن هو بصحة المعلومات التي تلقاها خلال تعلمه. وقد لا تكون معلوماته دقيقة، ولا النتائج المخبرية دقيقة تماما؛ ولكننا لا نكاد نشكك فيها. فكيف لنا أن نشكك فيما أخبر به الأنبياء ونحن نعلم أنهم ينقلون عن الله.
النقل والإيمان طريقنا إلى العلم في الجهتين؛ ولكننا حين ننقل عن علماء الطبيعة ونؤمن بما أخبروا، ننقل عن عالمٍ كان في الأصل جاهلا، وعلِم بطريق التجريب والعقل، أما حين ننقل عن الله فنحن ننقل عمن صفته العليم والمحيط، وقد أحاط بكل شيء علما، فلا سبيل إلى الشك في قوله.
نحن إذاً، وفي الحالتين: حالة العلوم الكونية، وحالة العلوم الدينية، نأخذ العلم بالإيمان: أي بالنقل والتصديق والاطمئنان ثقةً في مصدر الحقيقة العلمية، فالعلم والإيمان لا ينفصلان إلا في حالة واحدة، هي حالة الجحود والإنكار، سواء للحقائق العلمية البشرية التي أقيمت عليها أدلة كافية، أو للحقائق الدينية التي نزل بها الوحي مخاطبة العقل بما لا قبل له برده، فترده الأهواء بجحودها بعد علمها وشهودها؛ وقد قال تعالى:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(آل عمران: 70-71)؛ فقد حصل العلم هنا ولم يحصل الإيمان. وقد يحصل الإيمان من غير أن يحصل العلم، أو بالأحرى من غير أن يقوم على ما نؤمن به برهان يقنع العقل، كما هو الحال في جميع الديانات غير الإسلام، وفي كلا الأمرين ضلال عن المنهج وضلال عن الحق.
وإذ قلنا بأن الإيمان علمٌ كما أن العلم إيمان؛ فإن السؤال الآن هو: كيف يكون الإيمان علما؟ وما صلة الإيمان الذي يختص به المسلمون بالعلم؟
والجواب: متى ما قام اعتقاد الإنسان بناء على اقتناع من العقل بقوة البراهين التي أقيم عليها خطاب الدعوة إلى حقائق الدين، فثمةَ ينهضُ العلمُ، وثمةَ يتعانق الإيمان مع العلم.
والمسلمون لا يقوم إيمانُهم إلا على أساس من العلم يتدرج على النحو الآتي:
– العقل يسلِّم بأن لهذا الكون العظيم خالقا، وأن هذا الخالقَ لن يكون إلا واحدا، ولن يكون إلا كاملا في جميع صفاته، وعلى رأسها الحياة والعلم.
– القرآن الكريم الذي نزل على آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم يقوم بخصائصه اللغوية والمضمونية المخالفة لكلام البشر، المعجزة للعرب البلغاء وغير العرب، دليلا ساطعا على أنه كلام الله تعالى ورسالته إلى البشرية جمعاء، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء.
– حياة النبي صلى الله عليه وسلم منذ أول المنشأ إلى زمن البعثة ثم إلى آخر عهده بالدنيا تقوم دليلا قويا لأهل العقول الراجحة على أنه لن يكون في دعواه النبوة إلا صادقا، وأن الكتاب الذي يتلوه على أتباعه ويدعو البشرية جمعاء إلى الإيمان به، هو كتاب الله حقا، والشريعة التي يدعو إليها هي شريعة الله العليم الخبير.
وقد درجَ العلماء المسلمون على الاستدلال على صحة الرسالة بإعجاز القرآن، وهو حق لا مرية فيه، لولا أن إدراكه قد يعسر على غير العرب، وعلى بعض العرب أيضا؛ ولكن حياة النبي صلى الله عليه وسلم تقوم لمن يتأملها بعقل راجح متجرد من الهوى، دليلا قاطعا على صدق الدعوى وصحة الرسالة. ولعل أفضل من تحدث في هذا الموضوع هو المفكر الإسلامي المعاصر عبد الحميد أبو سليمان، حين كتب، بعد أن ذكر شرطين من شروط صدق الرسالة، هما التوثيق والخيرية، ثم رأى أنهما لا يكفيان –: «إنّ حياة محمد صلى الله عليه وسلم، ونهج نموه، وتفتّح طاقاته وقدراته، على النهج الذي تمّ، أمرٌ يرى وجهَ الإعجاز فيه كل إنسان علمي منصف عاقل، وإنّ أي إنسان منا قد لا يجد غرابة في أي مفردة من مفردات حياة محمد صلى الله عليه وسلم، برغم أنها في كثير من وجوه مفرداتها فريدة معجزةٌ متميزة، ولكن المعجز المستحيل هو انتظام كل هذه المفردات في حياة رجل واحد على تلك الحال، وعلى مدى ثلاثة وستين عاما».
وذكر أن أهم ما يلفت الانتباه، ويقيم الدليل القاطع على صدق النبوة، ما وقع من تحوّلٍ في حياة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد بعثته في سن الأربعين، من الفراغ تماما من المشاغل والطموحات القيادية، إلى الامتلاء بمهارات القيادة وقوة العزيمة على أداء الرسالة رغم التحديات الهائلة التي ظل يواجهها هو وأصحابه؛ وهو الذي كان أنموذج الصدق والأمانة والعفة وحسن الخلق، فهذا التحول، في هذه السن المتأخرة التي هي سن «هدوء عواصف الرعونة عند البشر»، وليس سن اشتعالها، دليل على أنه عناية الله هي التي كانت ترعاه وتهيئه لحمل الرسالة، فتنقله نقلة عجيبة من أخلاق الرقة والوداعة، إلى أخلاق القوة والقيادة، دون أن يتخلى عن أي من أخلاقه العالية التي ظلت محل اعتراف من عاشروه وإعجابهم وتزكيتهم، يقول في ذلك:
«ما كان لبشر بما كان يلتزمه من الصدق والأمانة أن ينطوي سره على ما تفتقت عنه الأيام من قدرات وإنجازات، فلا يعلمها أحد حتى سن الأربعين، لولا أنه نشأ وأُعدّ حقا، على عين الله؛ حيث لا يتصف طوال هذه السنين بشيء من القدرات والطموحات، ولم يتمتع بشيء من الخبرات والممارسات التي يمكن أن تعدّه لما ستتفتق عنه الأيام من قدرات وإنجازات مذهلة، وحينئذٍ –وقد تجرد من كل ذلك- تصبح صفات الأمانة والصدق والاستقامة وحدها الصفات الأساسية المطلوبة لكل رسول مبلّغ.
وهكذا نجد أن هذا النوع من الدعاوى والقدرات التي انبثقت في حياته بعد سن الأربعين، وإن كانت مفرداتها في ذاتها بشرية، إلا أن اجتماعها كلها، وعلى النسق الذي تفتقت عنه، وبالقدر الذي برهنته، وخاصة في تلك البيئة البسيطة، في حياة رجل واحد بسيط، هو الإعجاز الذي يلزم العقل، ولا يخرج به عن فطرته وطبعه».
ومؤدى كلام أبو سليمان –وهو في مطالع كتابه الإصلاح الإسلامي المعاصر- أن النظر في حياة محمد صلى الله عليه وسلم بحضور عقلي باحث عن الحقيقة، سيوصل حتما إلى الإيمان بصدق نبوته وصحة رسالته، وسيتخذ من أطوار هذه الحياة، وما تمتع به خلالها من عظيم الصفات، برهانا عقليا يؤسس عليه هذا الإيمان. وهذا هو قصدنا من ربط الإيمان بالعلم؛ فالإيمان كما ينبغي أن يكون، وكما هو مشروط في الخطاب القرآني وفي الرؤية الإسلامية، لا يصح أن يتأسس إلا على ما يتأسس عليه العلم من البرهان، فطريق الإيمان هو ذاته طريق العلم: طريق الاستيثاق من الدليل، وإرجاء التصديق إلى ما بعد التحقيق، وإعمال العقل فيما يُسمَع من الأقوال، وما يُزعم من دعاوى، وما يُرى من الموجودات.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com