التسييج المعرفي للإسلام وعقائده وتاريخه أثقل في ميزان العلم
د. مسعود صحراوي/
ما كانت المستشرقة الفرنسية اليهودية جاكلين شابي Jacqueline Chabby لتنال إشادة بعد إشادة وإطراء بعد إطراء من أشخاص معروفين بإنتاجهم التشكيكي (أمثال محمد أركون وهاشم صالح والمستشرق الفرنسي أندريه كاكو André Caquot)… نشاطهم الذي هو في جوهره تابع لنشاط المستشرقين إلا لأنها تواصل نشاط المستشرقين الطاعنين في المعتقدات الإسلامية وفي نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام، ناهيك بإشادة الإعلام الفرنسي بها وأنها سيدة عظيمة… أقول ما كانت لتنال كل ذلك إلا لأنها أحيت هذا النشاط لكن بعُدة معرفية أكثر تطورا وعلمية، أعني بأدوات معرفية مختلفة؛ باعتماد مناهج لم يعرفها المستشرقون الأوائل إلا قليلا.
في حملة التشكيك في العقائد وفي القرآن الكريم وفي نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وظّف المستشرقون الجدد مناهج وطرائق مستحدثة لا يمارسها المفكرون المسلمون إلا قليلا، أما الجامعات الإسلامية العريقة وكليات الشريعة، فتكاد تكون في غفلة عنها: كطرائق التحليل الأنتروبولوجي (Approche anthropologique)، ومناهج التحليل للبيئة الجاهلية، وطرائق التحليل المستحدثة للسيرة النبوية، وأدوات التحليل اللساني للنص، وطرائق أسماء الأماكن والمواقع (الطوبونيمي… toponymie)، ومفاهيم الذاكرة الجماعية، ومفهوم المخيال الاجتماعي (Imagination sociale) ، ومفاهيم تسييق المفردات القرآنية (Mise en contexte)، ودراستها في سياق التلقي الأول، ولا تعني به إلا «السياق القبلي» أو «لغة القبائل» كما تعبّر في أشرطتها المسموعة.
إن نقل الباحثين المسلمين وطلبة العلوم الإسلامية والجامعات الإسلامية من مجرد الإيمان التقليدي إلى آفاق العلم والتسييج المعرفي للمعتقدات وتمرسهم بهذه المناهج الحديثة يقتضي وجود باحثين واعين بطرائق الصراع الفكري متشبعين بعقيدتهم الدينية متسلحين بمناهج العلم المعاصر، وواقعنا يشهد بأن هناك نقصا واضحا تعانيه الأمة في عصرنا في هذا المجال؛ فإلى متى تبقى جامعاتنا (الإسلامية خصوصا) بعيدة أو مبعدة عن دراسة مناهج العصر واعتمادها في مراجعة تاريخ الثقافة الإسلامية، وإن التسييج المعرفي للإسلام وتاريخه وتراثه أولى وأحكم في ميزان العلم من التسييج الإيديولوجي أو العاطفي الساذج، ويتم ذلك باقتحام المناهج الحديثة وأدواتها المعرفية…الخ، وهي أدوات صالحة لفهم النص إذا ما أُحْسِن استثمارها بذكاء منهجي وتدقيق في الفكرة العبارة مع الوعي بأبعادها، وإذا لم تتعدّ تلك النظريات والمناهج حدودها العلمية أثناء التطبيق.
ومثل هذه البحوث أولى وأنفع في ميزان العلم والواقع من عودة لفيف من الأكاديميين إلى مسائل متجاوزة: مثل خلافات الأشاعرة وأهل الحديث في الصفات، ومثل نزاعهم في عقيدة صلاح الدين الأيوبي هل هي عقيدة الأشاعرة أم عقيدة أهل الحديث…؟ وما شابه ذلك من أسئلة تجاوزها الزمان وطوتها الأيام.