دراســــة

قراءة من خلال جريدة البصائر الخطاب التوعوي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين من 1935 إلى 1954

الباحث / محمد الأمين بوحلوفة

مقدمة
تعتبر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إحدى أهم الجمعيات التي لعبت دورا حاسما في إعادة صياغة مقومات المجتمع الجزائري، إذ أن الفترة التي ظهرت فيها كان المجتمع يعاني ظروفا صعبة بداية بفقدان الثوابت المحددة لهويته الجزائرية والإسلامية وأصبحت الشخصية الوطنية تذوب في أفكار الاستعمار الفرنسي الداعية لفرنسة الجزائر، لكن بظهورها على الساحة تمكنت بفضل أفكارها من طرح نموذج جديد وحديث كان في مجمله المحافظة على الهوية والوطن والدين، وبذلك رسمت لنفسها مكانا تجلى في تخريج جيل من الطلبة والأفراد كانوا خزانا للثورة التي ستعلن نهاية الوجود الفرنسي بالجزائر.
لم تكن الظروف متهيئة للجمعية للعمل بشكل يخدم برنامجها حيث رغم اعتمادها من طرف الإدارة الفرنسية إلا أنها بقيت تحت منظار السلطة، في حين عمدت الجمعية إلى الاعتماد على وسائل لبث روح الوعي داخل المجتمع وأفراده المتعلمين لبث أفكار التحرر من المستعمر، فكانت جريدة البصائر بمثابة المنبر الذي استعملته الجمعية لذلك، وقد اعتمدت في طرحها على التركيز على ثوابت الأمة الجزائرية وكذا أحقية الشعب في ممارسة حقوقه، فبرزت نخبة على الساحة السياسية كان هدفها كسب أكبر نسبة من الحقوق السياسية وفي نفس الوقت لم تسلم الجريدة من توقيف عملها بسبب خطاباتها الداعية للتحرر من ربقة الاستعمار ومن خلال هذا يمكننا أن نؤسس للإشكالية التالية: كيف برز دور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في صناعة الجيل المثقف داخل المجتمع؟ وهل كانت الفكرة العامة للجمعية هي محو الوجود الفرنسي من الساحة الثقافية والسياسية؟ أين تمثل دور جريدة البصائر في بث الخطاب التوعوي؟ وهل كانت النخبة متهيئة لتقبل أفكار الجمعية؟ ما هي أهم الملامح الرئيسية التي حددت الخطاب التوعوي للجمعية؟ وهل كان لهذا الخطاب فعالية في ممارسة النخب لحقها السياسي المبني على النضال؟ كيف مهدت خطابات البصائر لمفهوم الثورة على المستعمر؟ كل هذا سنحاول الإجابة عنه وفق المنهجية التالية:
أولا: النخب الجزائرية وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين طبيعة العلاقة.
ثانيا: الخطاب التوعوي لجريدة البصائر في المجتمع – الطبيعة والهدف.
ثالثا: نماذج عن الخطاب التوعوي داخل المجتمع – رسم النضال السياسي التحرري.
رابعا: نتائج الخطاب التوعوي لجريدة البصائر ما بعد 54.

النخب الجزائرية وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين طبيعة العلاقة
يكاد يجمع الكثير من الكتاب على أن النخبة الجزائرية كانت بطيئة الظهور وترجع إلى أواخر القرن 19م، حيث يعتبر أفرادها أنفسهم أقلية ممتازة منفصلة عن المجتمع الذي يتكون من غالبية جاهلة وفلاحين، مرابطين وعلماء رجعيين وأعيان، لكن هذه النخبة تتكون من المترجمين، المحامين والأطباء والمعلمين والقضاة، وبذلك حدث الخلط بين الفئة الأولى التي تعتبر فئة برجوازية أو طبقة وسطى بينما تدل الثانية على الجماعة ذات الثقافة الفرنسية، بالرجوع إلى النخبة كمفهوم يمكن تعريفها:
لغة: كلمة مشتقة من نخب وانتخب، انتخابا ويقال: نخب الرجل الشيء نخبا وانتخبه أي اختاره وانتقاه، أما ابن منظور فعرفها في قاموس لسان العرب بأنها اشتقت من نخب وانتخب الشيء بمعنى اختاره، ونخبة القوم هم خيارهم.
إذا رجعنا لمعنى النخبة في اللغة الإنجليزية فإننا نجدها تشبه نفس المعنى المستعمل في الفرنسية غير أن المفردة في اللغة الإسبانية مشتقة من los mas selector .
أما أصطلاحا: فيرى توماس بوتومور أن أقدم استخدام لكلمة نخبة في اللغة الإنجليزية وفقا لقاموس أكسفورد كان في سنة 1823م، عندما كان يعبر عن السلع التجارية عن جودتها elit، بعدها نجد أن هذا اللفظ شمل تعبيرا آخر يتمثل في وصف الطبقة العليا من المجتمع من نبلاء وضباط.
بعد معرفتنا لمفهوم النخبة يمكننا أن نعدد أنواعها وهي: إما تكون نخبة مثقفة (انتيليجانسيا) وتكون غالبا متخرجة من الجامعات ومهتمة بالفكر والثقافة، ونخبة سياسية وهي عصب التحكم في السلطة ومنهم زعماء الأحزاب ومجالس الشيوخ والوزراء، وهناك نخبة أخرى منها البيروقراطية ويتمثلون في الإداريين ونخب رجال الأعمال وهم تجار وأصحاب عقارات يؤثرون بثروتهم في صناعة القرارات المحلية والدولية، ونخب عسكرية تتمثل أساسا في الضباط، وهناك نخب دينية وتتمثل في رجال الدين والفقهاء والمفتين الذين يؤثرون في المجتمع.
إن الإطلالة السريعة على طبيعة المجتمع قبل مجيء المستعمر الفرنسي تجعلنا نخرج بأن النخب الدينية كانت الحلقة المسيطرة على المجتمع والتي تتمثل أساسا في العلماء وشيوخ الزوايا وزعماء الطرقيين، بالإضافة إلى وجود نخب عسكرية تمثلت أساسا في رياس البحر التابعين للسلطة السياسية، لكن وبعد الاحتلال نجد بأن التركيبة الثقافية للمجتمع بدأت تتغير نتيجة السياسة الممنهجة لفرنسا بدءا بتجهيل الشعب والقضاء على دور الكتاتيب والزوايا، إضافة لهجرة العلماء الجماعية إلى الأوطان المجاورة بحثا عن الأمن، كل هذا ساعد على الرجوع إلى الوراء وساد التخلف أكثر من زهاء قرن من الوجود الفرنسي برزت على الساحة الثقافية والعلمية جمعية العلماء المسلمين الجزائريين برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس والتي كان منهجها بث الروح العلمية والقضاء على مختلف الترسبات الذهنية السيئة للمجتمع وبذلك خلق نخبة واعية متعلمة تسعى إلى استرجاع ثوابت الهوية الوطنية المتمثلة أساسا في الدين الإسلامي واللغة العربية والتاريخ القومي، بالإضافة إلى توعية المجتمع بحتمية النهوض لاسترجاع السيادة والتحرر من المستعمر.
إن جمعية العلماء المسلمين كانت قد أنتجت نخبة مثقفة ذات توجه شعبي ووطني يسعى لإعادة بث أمجاد الأمة الإسلامية في قالب المعاصرة وهذا ما يكشف تلك الطبيعة بينها وبين النخبة، فالجمعية كانت أساسا تهدف إلى تكوين نخبة تقود العمل المستقبلي الذي يتمثل في تحرير الشعب الجزائري من الاستعمار الفرنسي، فالعلاقة إذن كانت علاقة مؤسسة تسعى لإنتاج نوع من النخب منوط بدور فعال، لكن لا ننسى أيضا أن هناك علاقة أخرى تربط الجمعية بالنخب المثقفة ذات التوجه الفرنسي أو بالأحرى النخب التي أنتجتها الإدارة الفرنسية إذ نجد وبعد الاحتلال سعت فرنسا لخلق نخبة من المجتمع ذات طبيعة ولون ثقافي موال للمستعمر هدفها ربط الصلة بينه وبين الأهالي وهم من مزدوجي اللغة وأطلق عليهم اسم المدرسيين» les Medirsiens، يعرف هاته الفئة الشريف بن حبيلس أنها مجموعة الشبان المتكونين في الجامعات الفرنسية والذين كانوا قادرين بأعمالهم أن يصعدوا فوق الجماهير ويضعوا أنفسهم في مصاف ناشري الحضارة الحقيقيين، بينما يعرفهم جورج مارسي «الشبان الجزائريون هم الطبقة التي جمعت بين الثقافة الفرنسية والثقافة العربية»
بالرجوع إلى ثنائية النخب التي أنتجتها جمعية العلماء والإدارة الفرنسية نجد أن الصراع لم يظهر بين هاتين الفئتين إلا بعد مرحلة الاستقلال، فكان هناك نخبة ذات توجه موال للمدرسة الغربية وأخرى ذات توجه ديني ووطني، وقد خلف هذا الصراع تخلفا كبيرا مس بعض ثوابت الدولة الجزائرية، وأفرز منطق نشر الإديويولجية بشتى الطرق، كما أنتج سياسات ثقافية وتعليمية ومفاهيم لم تأت إلا بالسلب على الفرد الجزائري، وجعلت المجتمع بعيدا عن مشروع حضاري يعمل لتحقيقه لجزائر ما بعد الاستقلال.
الخطاب التوعوي لجريدة البصائر في المجتمع الطبيعة والهدف
أ- طبيعة الخطاب: تعتبر جريدة البصائر رابع جريدة أصدرتها جمعية العلماء وهي لسان حالها، وظهر أول عدد منها في يوم 1 شوال 1354هـ/ 27 ديسمبر 1935م، وكان مديرها وصاحب تحريرها الطيب العقبي، وصاحب الامتياز الشيخ محمد خير الدين، كما كانت تصدر بالجزائر العاصمة وتطبع بالمطبعة العربية لصاحبها أبو اليقظان وشعارها آية من «القرآن {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ…} ودام صدورها إلى غاية 1937م، وتم تغيير مكان طباعتها إلى قسنطينة وبقيت تمارس نشاطها الإصلاحي الدعوي إلى غاية 1939م، حين اندلعت الحرب العالمية الثانية، فتوقفت عن الصدور وكانت تطبع حوالي 4 آلاف نسخة.
استطاعت جريدة البصائر أن تنقل خطابا توعويا داخل النخب المثقفة في المجتمع، فعندما نطالع الجريدة نجدها مكونة من ركنين، فركن تحت مسمى الشمال الإفريقي وفيه يتناول الأحداث السياسية والاجتماعية المتعلقة بالجزائر وتونس والمغرب، وهناك ركن آخر تحت مسمى يوميات الأزمة الجزائرية وفيه يتحدث الكاتب عن الأحداث السياسية الجارية آنذاك، وحتى مع تلاحق أعداد الجريدة نجدها تركز على الثورة الجزائرية في هذا الركن بالتحليل وإبداء الرأي، كما أن هناك ركنا آخر يدرج الأحداث السياسية من وجهة نظر الصحف العالمية والفرنسية وكيف تناولت الوضع السياسي في الجزائر، ونجد هذا الركن أيضا له هدف توعوي حول نظرة الصحف العالمية للأوضاع في الجزائر.
الهدف من خطاب البصائر: يمكن اعتبار نوايا الكتاب الصحفيين الذين كانوا ينتمون للجمعية أن هدفهم كان بالدرجة الأولى إصلاحيا ثم توعويا بضرورة المحافظة على الثوابت الوطنية للهوية الجزائرية، فنجد الخطاب الخاص في البصائر تطور حسب الظروف التي عاشتها الجزائر، إذ تتابع القضايا المتعلقة بالسياسة مثل دستور 1947م والمؤتمر الإسلامي، كما نجدها تركز على النهضة خاصة في عنصر الشباب، فكانت تولي أهمية كبيرة لهذه الفئة لأنها مركز التغيير، وبالطبع ساير الخطاب خط الجمعية وهو التحرر من سلطة الاحتلال الفرنسي وبذلك يمكن أن ندرج بعض الأهداف من هذا الخطاب وهي:
– التعريف بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين وتعميم نشر الفكرة الإصلاحية في مختلف جهات القطر الجزائري.
– توضيح أصول دعوة جمعية العلماء المسلمين ومنابعها الصحيحة.
– محاربة الآفات الاجتماعية من جهل وفقر ومرض، حيث ظهرت أمراض اجتماعية ونفسية من بينها الإلحاد، والدفاع عن الشخصية الوطنية والبعد العربي والإسلامي فيها، وفضح أساليب الاستعمار الرامية إلى مسخ الهوية الجزائرية بفرنستها وتنصيرها، متابعة أنشطة الجمعية في المجالات المختلفة السياسية منها، إذ أخذ المؤتمر الإسلامي المنعقد في 1936م حيزا كبيرا من اهتماماتها.
مساندة مختلف النشاطات المتعلقة بالقضايا الإسلامية، ومنها القضية الفلسطينية، وكذا تسليط الضوء على جرائم الاستعمار التي ارتكبها في شمال إفريقيا.

نماذج عن الخطاب التوعوي- رسم النضال السياسي التحرري
إذا كان الخطاب يعني الجدل والعقل والنظام، فإن مقالات جريدة البصائر كانت موجهة لأصحاب العقول التي تميز بين حقيقة المستعمر الغاصبة للأرض والحرية وبين وعوده الكاذبة التي روج لها في تلك الفترة القاضية بمنح حريات أوسع للأهالي قصد المشاركة في الحياة السياسية، وبالعودة إلى البصائر نجد أن أول مقالة نطالعها في العدد الأول كانت بعنوان»اقتلوا الاستعمار أو يقتلكم الاستعمار» وهي لأبي محمد وهو اسم مستعار لتوفيق المدني، وفيها إشارة واضحة لانتهاكات المستعمر في العالم ضد الشعوب الضعيفة، فقد تطرق إلى انتهاكات الاستعمار الفرنسي في الهند الصينية وانتهاكات الاستعمار الهولندي في إندونيسيا، وهو يشير إلى فرنسا المستعمرة التي تنادي بالحرية والديمقراطية في حين تنتهك حرية الشعوب «كان هذا السلوك الغريب من الدولة الفرنسية الديمقراطية التي نقضت العهد وشنت حربا استعمارية على شعب…، يمكننا أن نقرأ من خلال عنوان المقال الإشارة التوعوية التي تدعو صراحة إلى النهوض والحث على محاربة الاستعمار، وإشارته كذلك إلى أنه إذا لم يتم محاربته فسوف يقضي على الشعب.
نطالع نموذجا آخر للحث على التحرر والنهوض من سلاسل الاستعمار، حيث جاء عنوان المقال «الكلمة الأخيرة للأمة» للبشير الإبراهيمي وهو يخاطب النخبة من أبناء الجزائر فيقول: «… إن الاستعمار شيطان وأن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا، وأن الاستعمار شر ومحال أن يأتي الشر بالخير …» إلى أن يقول: «إن فرنسا نبية الاستعمار وأنها ترى أنه شرع لا ينسخ وعقد لا يفسخ…». هذه المقالة صرخة كبيرة في وجه فرنسا الاستعمارية وحثّ على عدم رجاء الخير منها وبذلك على كل جزائري أن يضع في الحسبان أنها عدو كما وصفها بالراعية للاستعمار . نطالع أيضا نموذجا آخر حول تسريب الوعي بأهمية التحرر والاستقلال «العلم وسيلة الاستقلال» لكاتبها عمر بوناب يقول: إن الاستقلال معناه انفراد الأمة بحكم نفسها وإدارة شؤونها، فهذه إشارة واضحة من الكاتب إلى أن بقاء الشعب واعتقاده أنه حر إذا هو نعم بحياته تلك فذلك خطأ، لأنه لا يمكن أن يسير شؤونه التي تسيرها فرنسا، فهو شعب محتل فاقد للحرية بالمعنى الحقيقي، وبذلك يعطينا دلالة كبيرة على وجوب فهم معنى الاستقلال الذي هو تسيير شأن الشعوب كما تراه هي لا كما يراه المستعمر».
لنا نموذج آخر عن استغلالية المستعمر للشعوب «نظرة في علاقة الاستعمار بعناصر الشعوب» للمكي بن أحمد نعماني الذي يصرح أن الاستعمار ما فتئ يستغل الشعوب الضعيفة ويحرمها من حقها وأنه يتحين الفرص في ذلك، أيضا نجد مقالا بعنوان «الجزائر والاستعمار» لكاتبها معتوقي وفيها يدرج حال الجزائر قبل الاستعمار وكيف أصبحت بعده «ولما نزح إليها الاستعمار الفرنسي الحقود الكنود وتعسا له سلبها حريتها» فالكاتب يعدد مساوئ هذا الاستعمار ويدعو أبناء الوطن إلى النهوض والتحرر «قائلا: فمتى ينخرم ويتقوض هذا الاستعمار ويوضع في دار الآثار… هذا الخطاب كان جريئا وقويا لم يترك فيه صاحبه مجالا للتأويل بل حث مباشرة الشعب على النهوض إلى رفع راية التحرر. هناك مقالة توعوية أخرى بعنوان «منطق الاستعمار» لفرحات الدراجي وكذا في نفس العدد نجد مقالتين «بوادر الاستعداد في الأمة» لمصطفى الجيجلي، والثانية «من مبادئ الاستعمار التضليل» لكاتبها اليزناسي، فالمقالة الأولى يعدد فيها أساليب النهوض ويعطي الفارق بين الرجال الذين يعملون لأجل نهوض الأمة وأبنائها والمتكاسلين فيقول:» وأصبحت تدرك الفرق الكبير والحد الفاصل بين الرجال العاملين لخير… الساعين في تربية أبنائها وتغذية أرواحهم بالإسلام.
في المقالة الثانية يطلعنا صاحبها أن الاستعمار بتظليلاته ومكره لم يعد ينجح لأنه أصبح قلقا من الوعي المنتشر بين الشعب فيعبر عن ذلك وأصبحت حياته قلقة وأفكاره مبلبلة لا يعلم لتلك مستقرا ولا لهذه مجالا.. الأمر الذي يدلنا على ما يعانيه من آلام بسبب هذا الوعي السائد المتفشي في جميع الأفراد والجماعات وكذلك يشير إلى أن معظم تظليلات المستعمر السخيفة لم تعد تجدي نفعا، لأن وعي الشعب أصبح كبيرا، ولعل ما يفهم أن الوعي أصبح ينتشر من جهات أخرى غير منابر الجمعية الإعلامية، فهذه المهمة أصبحت موكلة لأصحاب الضمائر الحية الوطنية في العدد الصادر في 23 أبريل 1937 نطالع عنوان مقال «هل يجب على التلميذ أن يتجنب السياسة؟» وفيه دعوة صريحة لتلك الفئة الشبانية أن تكون أدرى بحالها وحال وطنها، وما الاشتغال بالسياسة سوى منفعة للأمة، وعدم الاشتغال بها يعني ضياع أمورها، والكاتب يدعو للاهتمام فيقول:» فمن الذي يشتغل بها ومن الذي يدافع عن حقوق الأمة أو نترك ذلك وننفض منه أيدينا فيرقص المستعمرون أعداء الحرية والعدل فرحا ومرحا، فهذه إذن فكرة زائفة وخاطئة لا نصيب لها من الصواب…» هناك مقال «بعنوان للقضاء على المستعمر يجب توحيد الجهود» لمحمد شرفه اليعلاوي وهو إعلان واضح لكل أبناء الشعب الجزائري للتكتل والوحدة لمقاومة الاستعمار الفرنسي»فهذه القوة تتكون بجمع كلمة الأمة وتنظيم صفوفها صفا واحدا في وجه الدخيل المعتدي…مع الاستمرار على الكفاح ومواصلة الجهاد رغم الصدامات والعقبات إلى أن يقع اكتساح النظام الاستعماري وتحرير الوطن من بين أظافره تحريرا تاما شاملا.
يمكن اعتبار هذه المقالة دعوة صريحة واضحة على أن الجمعية كانت تدعو في أواخر الأربعينيات إلى العمل الثوري المسلح لتخليص الشعب من تسلط الاستعمار الفرنسي، وقد رأت أنه لا سبيل سواه، وهناك إشارة أخرى يجب التنبيه لها وهي أن خطاب الجمعية لطالما كان يدعو إلى التكتل والوحدة والذي نادت به بعد ذلك جبهة التحرير، فهذا ليس بغريب عن خطاب الجمعية حيث يقول: « … فبتكتل الأحزاب الوطنية ضد الاستعمار تتمكن الأمة من الظفر بمقصودها وبلوغ مناها…».
إذا كانت الثورة التحريرية الكبرى صناعها الشباب، فهذه الفئة اهتمت بها كثيرا الجمعية في خطابها التوعوي حيث نطالع في أحد الأعداد مقالا بعنوان «إلى الشباب» لـ الشاذلي المكي بن محمد الصادق وفيه يحث الشباب على النهضة بالأمة ويبين أهمية الشباب في الأمة «فالأمة بلا شباب أشبه شيء بجند سعى للوغى وساحة الحرب بلا سلاح وطمع بالنجاة والخروج من المعركة سليما..» ثم يحث الشباب على الجد والعمل لسيادة عصره والتحرر من المستعمر فيقول:»هيا بنا أيها الشباب على الجد والعمل والاتكال على النفس لتكون من جميعنا أناسا ينظرون إلى الوطن بعين ملؤها الشفقة والرحمة ويشمرون عن سواعد الحزم والنشاط ويعيدون لأمتهم المغلولة اليد، المصفدة الرجل، المكسرة الجناح، ماضي عزها وشرفها، إلى غاية 1954م تميز خطاب البصائر برفع مستوى التوعية والحث على التحرر وهذا ما نلمسه جديا في الأعداد الصادرة في هاته السنة وقبيل اندلاع الثورة بشهور قليلة، فنجد في العدد الصادر لشهر جوان مقالا «بعنوان» لا خوف على الإسلام في الجزائر إلا من الاستعمار» وفيه ترد إدارة البصائر على الصحيفة الفرنسية «لديش كوتيديان» التي ترى أن الشيوعية تشكل خطرا كبيرا على المسيحية والإسلام؟ فترد البصائر أن «الإسلام لا خوف عليه سوى من فرنسا الاستعمارية» وهل غاب عن الجريدة أن الاستعمار هو أول قوة مادية هدامة عدت على سلطة الإسلام الزمنية «…ألا إن أخوف ما يخاف على الإسلام في هذه الديار هو أن يصر الاستعمار على معاملته الشاذة المجحفة…». الخطاب كان واضحا من حيث جاء يبين للقارئ أن التغليطات التي تقوم بها الصحف الفرنسية الاستعمارية بأن الخطر ليس من فرنسا بل مصدر آخر وبذلك رسم عدو وهمي لا أساس له في واقع الجزائريين.
كان للجرائد دور في صناعة رؤية مخالفة للواقع في صالح الاستعمار، وكما نطالع أيضا مقالا صدر في العدد 276 في نفس الشهر لكاتب لم يذكر اسمه واكتفى بالأحرف الأولى(ج-ب) «الأمة المظلومة» وفيه يستعرض الكاتب الظلم والاستبداد وكيف يقضي على الأمة وينخر وجودها فيقول:» الظلم داء عضال أصيبت به الأمم التي ترزخ تحت الاستبداد والاستعباد إذا ما جاء مستعبدوها إلا لسلب حرياتها واستغلال خيراتها ولن يصلوا إلى ذلك إلا بتجهيلها وتفقيرها..» كما أنه لا يخفى خطره عندما يقارن بين أعداء الأمة وزعمائها الذين أغرتهم المناصب السياسية «إن بلية الأمة بأعدائها لا تقل عن بليتها ببعض قادتها وزعمائها…لا غاية لهم إلا احتراف السياسة وانتحال الرئاسة.
إذا كان الفضيل الورتلاني قد مثل صوت الجمعية في مصر، فإنه لم يكف عن فضح الاستعمار الفرنسي ونواياه عندما يكتب مقالا «شهادة نائب فرنسي بمحاربة الفرنسيين للإسلام والعروبة وجهاد جمعية العلماء بالجزائر» في العدد 279، أي قبل ثلاثة أشهر من إندلاع الثورة و»يقول». إن الاستعمار على اختلاف ألوانه مرض اجتماعي بلا ريب، وهو شر محض لا يمكن أن يأتي بخير، والاستعمار الفرنسي من الطراز الأول، فهم إذا تغلبوا على قوم فإن قهرهم لا يقف عند حد، إما أن يمحوهم من الوجود قتلا وتشريدا وإما أن يعملوا على مسخهم ومحو شخصيتهم بإخراجهم من دينهم».
يبين لنا كيف استعرض الورتلاني حالة الشعب المقهور والمستعمر على لسان نائب فرنسي «إذا كنا في فرنسا نجهل معنى العنصرية فإن العنصرية في القطر الجزائري هي القانون الرسمي المعمول به»، ثم يضيف قائلا: «لقد خرجنا بحقيقة لا غبار عليها ألا وهي أن الدولة تعمل على قتل اللغة العربية وتحطيم الدين الإسلامي وعلى تجهيل الأمة».
من هذا أعطى الورتلاني مشهدا عاما لحل الجزائريين وهذا على لسان نائب فرنسي زار الجزائر ووقف على الواقع، ويضيف الورتلاني في مقال «سياسة فرنسا الاستعمارية في المغرب العربي» عدد 284 وهو حوار أجراه مع جريدة صوت العرب:» إنما الواقع الذي نعترف به هو أن فرنسا قد وجدت في هذه الديار فعلا ولكنها وجدت كمتعدية ظالمة، والظلم يجب في جميع الشرائع والقوانين أن يزول وأن يزول كله لا يبقى منه شيء، فإذا ما تعذر زواله بالجملة فلا أقل من أن يزول بالتقسيط والمعقول.

نتائج الخطاب التوعوي لجريدة البصائر ما بعد 54
للتاريخ يجب أن ننصف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي طالما دعت إلى التحرر من قيود الاستعمار الفرنسي البشع والظالم عن طريق منابرها الإعلامية، وما جاء في البصائر دليل على ذلك، فقد أثيرت ضجة كبيرة عن موقف الجمعية من اندلاع الثورة، فالرجوع إلى ما كتبه توفيق المدني عن الثورة نجده يذكر اجتماع المكتب والذي قرر من خلاله مساندة العمل الثوري ومباركته، فسارع المدني لمراسلة الإبراهيمي الذي كان في مصر فقام بإصدار بيان يوم 2 نوفمبر يبارك فيه العمل الثوري، لكن المساندة بالانضمام للثورة كأفراد جاء حتى أواخر سنة 1955م كما يذكر إبراهيم العقون وبمباركة من الإبراهيمي.
لم تتوقف جريدة البصائر عن الصدور بعد اندلاع الثورة، فيمكن أن نطالع في العدد 296 الصادر بتاريخ 5 نوفمبر 54 وصفها لما جرى في ليلة 1 نوفمبر في مقال «حوادث الليلة الليلاء» وفيها تصف الأعمال التي قام بها المجاهدون والتي فاقت الثلاثين عملية في مختلف ربوع الجزائر من غربها لشرقها، وتقول البصائر إننا لحد الساعة لا نملك التفاصيل المقنعة عن هذه الحوادث وأسبابها وليس بين أيدينا إلا ما تناقلته الصحف وشركات الأخبار فلا نستطيع التعليق عليها أدنى تعليق… وهذا يبين لنا السرية الكبيرة التي كانت تتحلى بها قيادة الثورة في العمل المسلح، فلو عدنا إلى البصائر لقلنا إن الخطاب التوعوي الذي مارسته وبقيت تمارسه إلى آخر عدد صدر منها سنة 1956 أتى بثماره سواء بنشر الوعي أو بوجوب محاربة الاستعمار الفرنسي والتأييد للثورة، ويمكن أن الجمعية أدت ما عليها في خدمة الوطن والدين والهوية بما استطاعت من قوة في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الجزائر ولعل ما جاء في ما قبل آخر عدد يبين بوضوح «…وقد وفت ما عاهدت الله عليه من خدمة هذه الأمة الجزائرية الماجدة والدفاعنها».
لقد خلصت مختلف الخطابات التوعوية التي كانت البصائر تروج لها عند طبقة النخبة بضرورة مجابهة الاستعمار بمختلف الأشكال التي تضمن الحرية الحقيقية للشعب وحتى إن اختلفت الأطر والوسائل إلا أنه يبقى العمل في سبيل الحرية هو القاسم المشترك لطبقة النخبة.

خاتمة
لقد ساهمت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منذ تأسيسها إلى إعادة الأمة الجزائرية إلى تراثها وهویتها وانتمائها وعكف مجموعة من الدعاة والمصلحين إلى نشر الوعي الديني والسياسي داخل أفراد الشعب أو النخبة، ولعل البصائر كانت اليد الإعلامية للجمعية لبث تلك المفاهيم الأولية عن وجوب التحرر من الاستعمار الفرنسي، ويمكن من خلال هذه الورقة البحثية أن نخرج ببعض النتائج نلخصها فيما يلي :
– شكلت جريدة البصائر لسان حال الجمعية لأنها كانت تتناول مختلف قضايا الأمة وهمومها وتعایش رهانها المستقبلي من أجل التحرر.
– كانت البصائر بمثابة المنبر الذي ينشر الوعي ويبصر نخبة الأمة بمصيرها تجاه وطنها وبضرورة العمل على استرجاع الحرية المسلوبة من المستعمر الفرنسي .
– عملت جمعية العلماء المسلمين على إنتاج نخب ذات تكوين ديني ووطني يتماشى مع مصلحة الشعب وفي المقابل كانت علاقة الجمعية بالنخب الأخرى تتميز تارة بالندية وتارة أخرى بالعمل جنبا إلى جنب ضد عدو واحد وهو الاستعمار.
– شكل الخطاب التوعوي للبصائر نقطة مفصلية في إنشاء جيل يؤمن بالعمل الثوري من أجل التحرر وهذا ما كان بإعلان الثورة التحريرية ومساندة الجمعية لها ومباركتها.
اعتبرت سنة 1954م نهاية مهمة الجمعية كأداة للتوعية في صفوف النخبة وإعطاء مشعل تغيير الوضع إلى جيل الشباب الثوري وسنة 56م انضمام طلبة الجمعية إلى الثورة.
إن الجمعية ومنذ تأسيسها إلى اليوم ساهمت بشكل قوي في حماية المرجعية الدينية والهوية الثقافية من مختلف التجاذبات الحاصلة آنذاك قصد طمس معالم وجود الشعب الجزائري ويمكن أن نعتبرها بدون منازع أم الجمعيات الوطنية.

جامعة وهران – 1 احمد بن بلة –
MAJRIT711@GMAIL.COM

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com