من تراثنا

أن تكون وطنيا في نظر الأديب الشهيد أحمد رضا حوحو

أ.د. مولود عويمر/

يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب بالمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.

ولد أحمد رضا حوحو في سنة 1907 ببلدة سيدي عقبة وهي تبعد عن مدينة بسكرة بعشرين كيلومترا. درس اللغة العربية والقرآن الكريم. ولما بلغ سن 6 سنوات دخل المدرسة الابتدائية الفرنسية في سيدي عقبة (مدرسة الطيب العقبي اليوم) ثم بعد حصوله على الشهادة الابتدائية التحق بثانوية لوسياني بسكيكدة فيي سنة 1923. وتشير كشوفه إلى أنه كان تلميذا نجيبا. وتحصل على شهادة التعليم المتوسط في عام 1927. ثم عاد إلى سيدي عقبة واشتغل موظفا في مصلحة البريد.
وفي عام 1934 هاجر مع أسرته إلى الحجاز واستقرت بالمدينة المنوّرة. والتحق فيها بكلية الشريعة وتخرّج منها في سنة 1938. عين سكرتير تحرير مجلة المنهل الثقافية التي أسسها الأديب السعودي عبد القدوس الأنصاري. ولقد استطاع حوحو أن يجعلها من أشهر المجلات العربية التي تفتحت على الأدب العالمي في زمن مبكر وفي بيئة محافظة بما كان ينشره فيها من مقالات وقصص وترجمات من الأدب الفرنسي كقصائد رامبو ولامارتين وهيغو، وقصص موليير وفولتير وهيغو…الخ. وقد نشر الدكتور صالح الخرفي هذه الأعمال في كتابه القيم: «شهيد الثورة الجزائرية أحمد رضا حوحو في الحجاز (1934-1945)».

الأديب الشهيد أحمد رضا حوحو (جالسا) مع نجله

 

وبعد وفاة والده في سنة 1946 عاد أحمد رضا حوحو إلى الجزائر، وانخرط في نشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فاشتغل أولا مديرا لمدرسة بشلغوم العيد ثم انتقل إلى مدينة قسنطينة حيث عيّن أمينا عاما لمعهد عبد الحميد بن باديس الذي افتتح أبوابه في سنة 1947، وبقي في هذا المنصب إلى غاية استشهاده في عام 1957.
وفي مجال التأليف، ألف أحمد رضا حوحو مجموعة كتب وقصص، وهي: غادة أم القرى، نماذج بشرية، مع حمار الحكيم…الخ. ونشر مقالات كثيرة في الصحافة الجزائرية مثل جريدة «البصائر» لسان حال جمعية العلماء الجزائريين وجريدة «المنار» لصاحبها محمود بوزوزو.
ونشر أيضا في الصحافة التونسية، فكتب مقالة في عام 1946 في مجلة «الثريا» لصاحبها نور الدين بن محمود، وعنوانها «الأدب الحيّ بين أدب القصة وأدب المقالة». وكتب مقالا آخر في جريدة «الأسبوع» في نهاية شهر أوت 1948 عنوانه: «جمعية العلماء في مرحلتها الثانية أو بين الهدم والبناء». وواصل أحمد رضا حوحو تعاونه مع جريدة «الأسبوع»، فنشر في أكتوبر ونوفمبر 1953 مقالا طويلا في خمس حلقات قدم من خلالها قراءة نقدية لكتاب «الشابي حياته شعره» لصاحبه أبي القاسم كرو. وكتب في عام 1937 مقالا في مجلة «الرابطة العربية» الصادرة بالقاهرة.
ساهم في تأسيس جمعية أدبية اسمها «إخوان الصفا» التي سرعان ما تحوّلت إلى نادي أو صالون أسبوعي يجمع نخبة من المثقفين القسنطنيين في دار حوحو يتناقشون فيه قضايا الأدب والثقافة. كما اهتم حوحو أيضا بالمسرح فأسس جمعية مسرحية موسيقية في 27 أكتوبر 1949 باسم «المزهر القسنطيني»، والتي قدمت عروضا مسرحية ناجحة في الجزائر وخارجها. وقد درس هذا الجانب بشيء من التفصيل الدكتور أحمد منور في كتابه النفيس: «مسرح الفرجة والنضال في الجزائر»، والباحثة نجية طهاري في رسالتها الجامعية: «بناء الشخصية في مسرح أحمد رضا حوحو».
قام بعدة رحلات إلى أوروبا وروسيا. فقد شارك في المؤتمر الدولي الأول للسلام الذي انعقد في باريس في أفريل 1949 برئاسة العالم الفيزيائي الفرنسي الشهير فريدريك جوليوت، وبحضور كوكبة من مشاهير الأدب والفنون والعلوم أمثال لويس آراغون، بيكاسو، ألكسندر فادييف… وسافر إلى الإتحاد السوفياتي في أوت 1950 وتشيكوسلوفاكيا (1950)، وإيطاليا في أوت 1951 للتحضير لمؤتمر الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفرنسا في أكتوبر 1954 لإحياء سهرات فنية لفرقة المزهر القسنطيني في ليون ومرسيليا ودامت الرحلة 10 أيام.
في عام 1956 أعلن الأستاذ أحمد رضا حوحو في جريدة «البصائر» عن مشروع ثقافي ضخم وطموح تحت عنوان: «حاضر الثقافة والأدب في الجزائر». وراسل في هذا السياق العديد من المثقفين والعلماء من أجل أن يقدموا له سيرتهم الذاتية ويرسلوا له نسخا من كتبهم أو مخطوطاتهم. وهو يعد الأديب الجزائري الثاني الذي أقدم على إنجاز عمل أدبي موسوعي من هذا النوع. أما الأول فهو محمد الهادي السنوسي صاحب كتاب «شعراء الجزائر في العصر الحاضر»، فأنقذ به كنزا ثمينا من الشعر الجزائري الحديث. أما الأستاذ حوحو فلم يتمكن من تأليف كتابه المنشود إذ استشهد تحت التعذيب الاستعماري بعد شهر ونصف من الإعلان عن هذا المشروع الثقافي النبيل.
صدر المقال الآتي في جريدة «الشعلة» العدد 8 الصادر في 2 فبراير 1950 بدون إمضاء كعادة افتتاحيات رئيس تحرير الجريدة. والشعلة صحيفة هزلية نقدية صدر عددها الأول في 15 ديسمبر 1949، وهي أسبوعية تصدر كل يوم خميس. وكانت تطبع في المطبعة الجزائرية الإسلامية التي أسسها الشيخ عبد الحميد بن باديس. تولى رئاسة تحريرها الأستاذ أحمد رضا حوحو بينما تولى شؤونها الإدارية والمالية أحمد بوشمال والصادق حماني. وصدر منها 54 عددا إذ توقفت في 8 فبراير 1951. وقد اطلعت على أعداد كثيرة من هذه الجريدة فلم أجد فيها أسماء صريحة للكُتاب الذين كانوا يعالجون مواضعهم ويناقشون قضاياهم بنبرة شديدة وسخرية لاذعة ونقد مكشوف. ولكن على حسب شهادات بعض العلماء المعاصرين للجريدة فإن حمزة بوكوشة وأحمد حماني وعبد الرحمان شيبان كانوا من الأقلام المشاركة في أبوابها الثابتة ك «مسامير النقد»، «مسامير الشعلة»، «في الميزان»، «قاموس الشعلة»…الخ.
واكبت الجريدة التطور الثقافي والسياسي القائم في البلاد، وخاصة ظهور الحركات السياسية وتنافس الأحزاب في فترات الانتخاب وخارجها، ما ترتب عنها من الجدل في القضايا الجزائرية المختلفة. وصارت كل حركة تحتكر الوطنية في خطابها. لذلك وجدنا أحمد رضا حوحو يساهم في هذا الجدل السياسي والفكري ويقدم تصوره للوطنية ويشرح معنى الانتماء إلى الوطن ويحدد مواصفات الوطني التي لا تنطبق على كل من يتشدق بلفظها ويدعي وصلا بها.
فالوطني هو قبل كل شيء صاحب سلوك حضاري والتزام أخلاقي وعمل صالح في الميدان. فهو كل من أتقن عمله وأدى واجبه وخدم مجتمعه وضحى في سبيله. فالوطنية مسؤولية وتضحية وعطاء قبل أن تكون رابطة روحية ومعنوية تصل الفرد بالوطن، ونضال صادق من أجل الارتقاء به وتحريره على فترات متباعدة أو على دفعة واحدة، سواء اختار المناضل منهج التغيير الهادئ كالإصلاح أو المنهج الشامل والجذري كالثورة. وقد اختار أحمد رضا حوحو المنهج الأول واعتبر التغيير يبدأ بإصلاح النفس قبل كل شيء، فالفرد عندما يغيّر ما بنفسه سيتغير المجتمع بلا شك لأن المجتمع هو في النهاية يتشكل من الأفراد. فالأستاذ حوحو يرى أن النضال مسؤولية فردية في المقام الأول ولا يشترط على الفرد الانضمام إلى حزب ما حتى يكون مناضلا ويكسب صفة الوطني دون أن ينكر دور الأحزاب التي تساهم في التنوير والتوعية وتعبئة الناس لفعل الخير وبناء الوطن.
*** *** ***
«إذا قلت أنا وطني، وبرهنت على ذلك بالأعمال الجليلة، والتضحيات الغالية والخدمات النافعة أقدمها لفائدة وطني ولخير أمتي أفلا يأخذك العجب أنني أجد كلتا الطائفتين تنظر إليّ شزرا، وتنكر عليّ أشد الإنكار وأعنفه!
طائفة فهمت الوطنية فهما ضيقا وأخضعتها لقيود وطقوس وحددت لها حدودا ذهبت بأسمى معانيها وأصدق آياتها فأصبحت شيئا جامدا يلاك ولا يستساغ، ويبلع ولا يهضم، وأصبح الوطني الصادق من تحزّب إلى حزب معيّن سواء أكان ماضيه مشرق الصفحات، وحاضره باهر الأعمال، ومستقبله يبشر بالآيات، أم كان ماضيه مظلما وحاضره مسترابا، ومستقبله مخوفا.
وطائفة فهمت الوطنية أضيق من ذلك الفهم، فهمتها سيرة فلان، وأعمال فلتان، وتقلبات علان وشطحات خرنان فلم ترض عن سيرة فلان وفلتان ولا استساغت ماضي علان، ولا طربت لشطحات خرنان، فاشرب في قلوبها بغض القوم، وكراهية الوطنية فيهم، ومجردة عنهم، فأصبحت تستعيذ منها وتتبرأ من المنتسب إليها، وتشمئز من مجرد ذكر اسمها، ويستفزها كل ما يشم منه رائحتها.
أفلا تعجب معي من أن هذه الكلمة الشريفة علينا، وغربتها بيننا، وجنايتنا عليها.
لقد استساغت أشداقنا أن تلوك: الحماسي ليس بوطني ولو عاش طريدا من أجل الوطن، ومات شريدا في خدمة الأمة، ورجع شهيدا ليدفن في تراب الوطن، والسبب بسيط، أنه لم يكن ينتسب للحزب الفلاني !
واستساغت أشداقنا أن تلوك أيضا، أنا ضد الوطنية، وخصم الاستقلال وعدو الحرية المطلقة والسبب هين يسير، وذلك لأن فلانا وطني ويريد الاستقلال والحرية المطلقة! منطق سخيف أليس كذلك؟
كن عالما مخلصا تحارب الجهل والأمية، وتنشر الهداية وتطارد الغواية تبشر بالخير وتنفر من الشر تكن وطنيا.
كن اقتصاديا حاذقا تقيم المنشآت الضخمة وتساير بها العصر، وتحميها بالعلم وتعيذها بالإخلاص والحزم تكن وطنيا.
كن فلاحا بارعا تحافظ على أرضك وتفلحها على أحدث الطرق العصرية -مجاراة لجيرانك – ترنو عينك دائما إلى استرجاع ما سلب من أجدادك بأي ثمن تكن وطنيا.
كن عاملا شريفا تكافح لإعالة بنيك وتتعاون مع شريكة حياتك لتهذيبهم بنشأة ترضى الوطن وتقر عين الأمة.
وكن في معملك منظما لصفوف إخوانك أو منضما إليها لمكافحة الطغاة المستغلين تكن وطنيا.
کن اجتماعيا تهذب أخلاق قومك وتنشئ المستشفيات والمدارس والملاجي لإنقاذ البؤساء والمشردين منهم تكن وطنيا.
كن سياسيا محنكا تحب قومك وتتغلغل في وسطهم، تكشف أدواءهم وتشخص عللهم ثم كن لسانهم الناطق وعواطفهم المختلجة ومحاميهم البارع وقائدهم المغوار تكن وطنيا.
كن طبيبا، كن صيدليا، كن محاميا. كن كما تكون فى خدمة الأمة وخير الوطن تكن وطنيا ولو لم تعرف حزبا ولا تمذهبت بمذهب.
لا تصدق طائفة من الطائفتين ولا تفهم فهمهم، ولا تستسغ مشاربهم وارفع صوتك معي دون خشية ولا خجل أنا وطني!»

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com