موسم الرحلات إلى الجنوب الجزائري
أ. سعدي بزيان/
ها أنا ذا بعد أن طفت في عشرات البلدان الأوروبية والعربية وبعضا من مدن الجزائر في الوسط المدية وفي الغرب وهران، وبلعباس، وتلمسان، ومعسكر، وغيليزان، ها هي مدن الجنوب تنادي، فكانت في البدء بسكرة التي زرتها مرتين في صحبة الصديق الإعلامي الراحل سليمان بخليلي الذي رافقته في عدة رحلات إلى وهران وتلمسان، ثم إلى بسكرة، حيث تقيم أسرته وكنا قد تواعدنا للقيام برحلة أخرى إلى بسكرة وجاءت كورونا، وأخرت الرحلة إلى أجل غير مسمى أو على الأقل حتى تخف الموجة، ولكن للقدر موعده، إذ ودعنا الصديق بخليلي في رحلته الأبدية، وبعد شهور كانت لي رحلة إلى بوسعادة انطلاقا من مسيلة التي شاركت فيها أي في جامعة بوضياف بمداخلة للحديث عن تجربتي الإعلامية في جريدة الشعب أمام جمع من الطلبة والطالبات في كلية الإعلام، وفي بوسعادة زرت متحف «إتيان ديني» ومنزله، وقمت بجولة في أحيائها الشعبية.
بسكرة وقمار وكانت الأغواط وما أدراك ما الأغواط وكانت لي وقفات ومحاضرات وتكريمات، وزيارات للمعالم التاريخية في المدن المذكورة، ففي بسكرة نظمت لنا رحلة إلى مشونش حيث ولد المجاهد الشهيد سي أحمد بن عبد الرزاق المعروف بـ سي الحواس حيث زرنا منزله ومدرسة جمعية العلماء وتذكرت زملائي من طلبة مشونش الذين درسوا معي في معهد ابن باديس وفي مقدمتهم الشهيد عبد الكريم ولد أحمد بن سي احمد الذي درس في جامعة القاهرة ثم التحق بجيش التحرير، كما تذكرت الطالب الشهيد محمد غروري الذي كان هو الآخر رحمه الله شعلة في الوطنية وقمة في الذكاء فقد درس في مشونش وفي معهد ابن باديس ثم القاهرة واستشهد في أرض الشهداء الجزائر، وفي خضم هذه الرحلات وقبل شد الرحال إلى مدن الجنوب كانت لي رحلة إلى أم الحواضر قسنطينة لحضور توزيع جائزة ابن باديس على عدد من الفائزين، وبهذه المناسبة زرت معهد ابن باديس الذي ناله من الإهمال ما ناله، كما زرت مع الحاضرين في هذا الملتقى مؤسسة ابن باديس في مقرها الجديد بحضور شقيق ابن باديس عبد الحق ومدير مؤسسة ابن باديس، د.عبد العزيز فيلالي ويصحبه اثنان من طلبتي السابقين زرنا حي رحبة الصوف وتجولنا في أحياء قسنطينة القديمة، وفي مقدمتها الصوف ورحبة الجمال وتجولنا في شارع ابن مهيدي.
وإلى مدينة ألف قبة وقبة «سوف» حيث حطت بنا الطائرة في مطار قمار وكان الهدف الأساسي حضور ملتقى وذكرى رحيل شيخ المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله في مسقط رأسه قمار، حيث زرنا قبره وقرأنا فاتحة الكتاب على روحه، كما زرنا منزله الذي ولد فيه، والمكان الذي حفظ فيه القرآن، وقد استعدنا ذكرياته وقدمت حوله محاضرة بعنوان «ذكرياتي مع سعد الله من تونس مرورا بالقاهرة وباريس فالجزائر» وها نحن نودع قمار لنلتقي مع أساتذة آخرين في لقاء آخر وفي مدينة الأغواط ضمن كوكبة من الأساتذة والدكاترة: سعيدوني ناصر الدين، وبن خروف، والعربي الزبيري، وتابليت، وسعدي بزيان كاتب هذه السطور، وكان الملتقى الوطني الذي احتضنته مدينة الأغواط تحت إشراف وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في المدرسة العليا للأساتذة بالأغواط وعنوان الملتقى: «المستشرقون الفرنسيون وكتاباتهم حول تاريخ الجزائر» وكانت رئيسة الملتقى هي (د. رقية شارف) التي كانت فعلا شعلة الملتقى عبرت عن فعالية نالت إعجاب الجميع وتابعت أعمال المؤتمر باهتمام وسهرت على راحة الأساتذة المحاضرين والحاضرين.
المستشرق الفرنسي المسلم المرحوم بيرك وفانسان مونتاي 1913- 2005
مداخلة سعدي بزيان في هذا الملتقى الوطني كانت بعنوان «ذكرياتي مع اثنين من المستشرقين الفرنسيين» وهما جاك بيرك 1910-1995 الذي ولد في مدينة فرندة ولاية تيارت، وظل وفيا لها إلى درجة أنه أهدى لها مكتبة، ففي فرندة كما أكد لي تعلم اللغة العربية وقريبا من فرندة تقع خلوة بن خلدون التي كتب فيها مقدمته المشهورة، فقد كان لي شرف حضور افتتاح مكتبة «جاك بيرك» في فرندة، وألقيت بهذه المناسبة كلمة بطلب من مدير المكتبة الوطنية يومئذ (د.أمين الزاوي) وشارك معنا الأستاذ هاشم صالح وهو سوري الأصل مترجم كامل أعمال محمد أركون كما ترجم ردود بعض المستشرقين على منتقديهم من الكتاب العرب والمسلمين وخاصة ما كتبه (د. أنور عبد الملك) في مقاله في مجلة ديوجين بعنوان:( L’orientalisme en crise الاستشراق في أزمة) وإدوار سعيد في كتابه الاستشراق بالانجليزية مترجم إلى الفرنسية والعربية.
لقاءاتي العديدة مع بيرك وفانسان مونتاي 1913-2005 خلال وجودي في باريس حاورت العشرات من الأدباء والكتاب العرب من المشرق العربي ومغربه، أنور عبد الملك، محمود أمين العالم، غالي شكري، حجازي، جورج بهجوري وهم مصريون، ومن العراق سعيد يوسف وعبد الوهاب البياتي، ومن سوريا د. خليل النعيمي، ومن تونس الطاهر بكري وعز الدين المدني، ومن الجزائر مراد بوريون ورابح بلعمري، ومن لبنان عصام محفوظ، ومن فلسطين محمود درويش، ومن الفرنسيين كان جاك بيرك أول مستشرق فرنسي تعرفت كثيرا على آرائه وأقواله وأبحاثه، فكانت لي مناسبة حضور معرض للرسام المصري جورج بهجوري، فاغتنمت فرصة وجوده معنا في هذا المعرض أن أفاتحه في موضوع إجراء حديث معه فكان لي ذلك ورحب بالفكرة وتوجهت في الموعد المحدد إلى الكوليج دوفرانس، حيث يتولى التدريس والإشراف على رسائل الطلبة العرب والمسلمين، فأجريت معه مقابلة استمرت 45 دقيقة ونشرتها في جريدة الشعب التي كنت أراسلها من باريس لمدة تزيد عن ربع قرن، ونشرت المقابلة وأرسلت له نسخة من الجريدة، وبعث لي رسالة شفوية تقديرية عن طريق صديقه الباحث المهدي بوعبدلي، وقد أعدت نشر هذا الحوار في كتيب صغير بعنوان: «أحاديث ممتعة سلسلة كتاب الشعب» وكانت من بين الأسئلة التي وجهتها له كيف ترى مستقبل العرب وأنت عاشرتهم وعشت في أوطانهم؟ فكان جوابه:»أنا متشائم بواقع العرب حاليا، ولكنني متفائل بمستقبلهم، أنا صديق للعرب لا على أساس معاداة أو كره للفرنسيين والواقع أن العرب لم يطلبوا مني في يوم من الأيام بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أن أتنازل عن مقوماتي الشخصية، أو عقائدي لإرضائهم.
وما موقف بيرك من الثقافة العربية في فرنسا؟ «إن بيرك كان واحدا من مترجمي معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية بعد بلاشير ودونيز ماشون، غير أن ترجمته أثارت زوبعة وخاصة في المشرق العربي وبالضبط في مصر، حيث هاجمت د. زينب عبد العزيز ترجمة بيرك واتهمته بالنيل من الإسلام بالتحريف والتزييف، وقد تأثر بهذا الهجوم كثيرا وخاصة وقد شارك في ذلك الأزهر الذي فضل ترجمة ماشون، وسكت الأزهر عن ترجمة اليهودي الصهيوني أندري ستورا من يهود الجزائر ومن مواليد عين تيموشنت، ونتيجة لهذا الهجوم ألغى بيرك زيارته لمصر والدعوة التي وجهت له لزيارتها، ومن خلال متابعتي لآراء ومواقف بيرك من العرب فكانت حقا مواقف مشرفة، وقد دافع عن التعريب في أقطار المغرب العربي وطالب بحث المهاجرين على أن يكون لهم برنامج إسلامي «التعريف بالإسلام» وقد صارحني بأنه فشل هو وأصدقاؤه من أنصار الثقافة العربية في فرنسا في خلق منبر نطل من خلاله على الثقافة العربية في فرنسا.
وأشاد بالناشر الجديد بيير بيرناد مؤسس دار نشر Sind bade التي قامت بترجمة الأدب والثقافة العربية من العربية إلى الفرنسية لتعريف القارئ الفرنسي بالوجه الآخر للعرب، فقد تولت هذه الدار بترجمة العديد من روايات نجيب محفوظ وأدونيس والطيب صالح وتوزع هذه الأعمال على نطاق واسع في الجزائر، كانت الشخصية الاستشراقية الثانية التي كانت محور مداخلتي هي شخصية المستشرق الفرنسي المسلم فانسان مونتاي 1913-2005، الذي صادفته ذات يوم وأنا في ساحة السوربون، فتجرأت وجلست بجانبه في إحدى مقاهي الساحة فتحدثت معه فسألني من أي جهة في الجزائر فقلت له أنا من الأوراس، فتحدث معي بالشاوية وأبديت استغرابي من حديثه بالشاوية، وتأكد لي فيما بعد أنه يعرف عدة لغات وحدثني عن استضافة للشهيد بن بولعيد في تونس بأمر من جاك سوستيل وأكد لي أن حديثه مع بن بولعيد كان بالشاوية وكان مونتاي يومئذ هو وجيرمان تيون في مكتب سوستيل على أساس الاستفادة من معلوماتهما فيما يتعلق بالثورة والثوار في الأوراس ذلك أن جيرمان تيون عاشت عدة سنوات في جبل حمر خدو بالأوراس، ولقبت بـ جيرمان الأوروبية فأكد لي فـ مونتاي بأنه قدم استقالته بعد أن تحدث مع بن بولعيد..إلخ
والخلاصة قلت أن الاستشراق كله شر من عمل الاستعمار كما هو متداول ولا يمكن وضع المستشرقين كلهم في سلة واحدة، فالمستشرق مكسيم رودينسون وهو يهودي الأصل ومع ذلك وصف إسرائيل في كتاب كامل بـ واقع استعماري وفانساي مونتاي عاش يهدد صهاينة فرنسا بسبب كتابه «إرهاب الدولة الإسرائيلية» وقد رفضت مجلة لونوفيل اوبسيرفاتور جميع مقالاته فيما يتعلق ببعض تصحيح الأخطاء والتجني عن العرب والإسلام.
والخلاصة أنه خلال سنة فقط كانت لي جولات وصولات في المدن الجزائرية غربا وجنوبا وفي الوسط تخللتها محاضرات ومداخلات وتكريمان والتعرف على الجزائر العميقة صحبة كوكبة من الأساتذة والباحثين الجزائريين وما يؤسفني أن أعمال هذه الملتقيات لم تجمع وتنشر وتوزع ليستفيد منها الباحثون والقراء وهي تشكل مجلدات تثري المكتبات الجزائرية وجامعاتها.