مفهوم العالم الإسلامي في الأدبيات التاريخية/ د. إبراهيم نويري
يُطلق مصطلح العالم الإسلامي في بعض الأدبيات السياسية المعاصرة على المناطق والمساحات الجغرافية التي يقطنها مسلمون تزيد نسبتهم على 50 % من مجموع السكان الكلي، غير أن هذا المفهوم تتحكم فيه الكثير من الاعتبارات السياسية والإيديولوجية غير البريئة؛ فهذا المفهوم يُهمل أو يُقصي بقصد أو بغير قصد تكتلات إسلامية ضخمة، ومثال ذلك: تكتل المسلمين في الهند، الذين يقترب تعدادهم من عدد العرب مجتمعين من محيطهم إلى خليجهم.
لذلك فإن المفهوم الأكثر دقة للعالم الإسلامي ينبغي أن يتسع ليشمل الأقليات الإسلامية في الدول التي تقلّ نسبة المسلمين فيها عن 50%، كما يجب أن يشمل البلدان الإسلامية التي فُرضت عليها عقائد مخالفة بقوة الحديد والنار، مثل الجمهوريات الإسلامية التي كانت ملحقة عنوة بالإتحاد السوفييتي السابق، وجمهورية الشيشان وجمهورية داغستان في روسيا حاليا، وتركستان الشرقية الملحقة بالصين إلى الآن قهرا وقوة.
وإذا كان المفهوم الشائع والرائج أن العالم الإسلامي يُطلق على مجموعة الأقطار التي يغلب المسلمون على تركيبتها السكانية أو الأقطار الخالصة للمسلمين، فإن المسلم يُعتبر عضوا في الأمة الإسلامية أو المجتمع الإسلامي الكبير لأن جنسيته عقيدته، ودار الإسلام داره ولو كان يعيش خارجها لاعتبار أو آخر.
وعلى الرغم من خطورة وحساسية هذا المفهوم، فإننا لا نكاد نعثر في عطاءات الخطاب الإسلامي المعاصر الفكرية والتنظيرية على تعريف محدد أو مُجمع عليه لمصطلح ” العالم الإسلامي “، يمكن للباحث أن يعتمده كمرجعية للفهم، بل توجد عدة محاولات تعريفية صاغها أصحابها في سياق دراسات وأبحاث لها صلة بأوضاع الأمة الإسلامية من جوانب مختلفة، فالدكتور زيد الرماني على سبيل المثال يرى بأن “العالم الإسلامي ” يعني “دار الإسلام ” ـ كما هي التسمية الشائعة في المصادر الفقهية القديمة ـ ويُطلق هذا المصطلح على المناطق التي تسري فيها أحكام الشريعة الإسلامية.. وعليه فإن العالم الإسلامي يُعتبر دولة واحدة مهما اتسعت رقعتها أو امتدت أرضها أو فَصَل البحر بين أجزائها، أو حَجَزت بينها مناطق أو دول أو أقاليم لا تسودها أحكام الإسلام، وشعوب العالم الإسلامي تدين بالعقيدة الإسلامية مهما تعددت قومياتها واختلفت لغاتها وتباينت ألوانها وأجناسها وأعراقها وأوضاعها، ولذلك درج عدد من الكتاب والباحثين المعاصرين على إطلاق اسم “العالم الإسلامي ” على مجموعة الأقطار التي يكوّن فيها المسلمون أكثرية السكان. (الواقع الاستهلاكي للعالم الإسلامي، رابطة العالم الإسلامي، سلسلة دعوة الحق، العدد 148، ط1، مكة المكرمة، 1425 هـ، ص 8).
بينما يذهب المؤرخ الشيخ محمود شاكر إلى أن مصطلح العالم الإسلامي مصطلح حديث لا يعود إلى أكثر من قرن من الزمن، وذلك عندما أخذت السيطرة العسكرية الأوروبية تنجلي عن ديار المسلمين، واتجهت القوى الغربية الصليبية إلى دراسة المجتمعات الإسلامية بغية تحديد نقاط وجوانب الضعف في المسلمين وسبل التأثير عليهم فكريا بدل الإخضاع العسكري الذي كلّف تلك القوى الكثير من المال والجهد والمغالبة. نظرا لأن الإلحاق الفكري يضمن التبعية بأوروبا والعالم الغربي. ولقد توصلوا في دراساتهم تلك إلى أن المسلمين يلتقي بعضهم مع بعض برابط قوي يشدّ أزرهم، ويجمع بعضهم إلى بعض بوشائج متينة وأواصر قوية وصلات وطيدة محكمة، وإن بدا بعض التباين في بيئاتهم والفروق في مستوياتهم، وهذه الأسباب جعلتهم يُطلقون على هذه الأقطار اسم العالم الإسلامي.(العالم الإسلامي اليوم، دار الصحوة للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1985م ، ص 4).
كذلك لما ظهرت إلى الوجود الصحوة الإسلامية الحديثة، وبدأ اهتمام الكتاب والمؤرخين والباحثين المسلمين بدراسة أوضاع إخوانهم، ورصد مميزات أقطارهم، تمّ استعمال مصطلح ” العالم الإسلامي ” وبالرغم أن هؤلاء الكتاّب قد وجدوه في كتب المستشرقين، إلا أنهم قدروا بأنه أنسب من المصطلحات القديمة، وأنه أكثر انسجاما مع الاستعمالات الاصطلاحية الشائعة في الدراسات الجيوسياسية المعاصرة.
غير أن معظمهم أطلقوه على الأمصار التي تضمّ أكثرية مسلمة أو على الدول التي تنص مواثيقها ودساتيرها ولوائحها الرسمية على أن الإسلام هو دين الدولة ومرجعية الهُويّة والتشريع والتفكير .
وعندما تأسست منظمة المؤتمر الإسلامي سنة 1969م، وبدأت اجتماعات ولقاءات الدول الإسلامية بشكل دوري، كانت تحضر هذه المؤتمرات واللقاءات بعض الدول التي لا تضمّ على أرضها أكثرية مسلمة لكن يحكمها حكام مسلمون وذلك مثل أوغندا والغابون، بالرغم أن نسبة المسلمين بهما تقارب نسبة الخمسين %..الأمر الذي أدى إلى ظهور اختلاف معلن في تعريف مصطلح ” العالم الإسلامي “. وقد نجم عن ذلك فعلا ظهور العديد من محاولات إعادة صياغة وضبط هذا المصطلح المهم.
العالم الإسلامي تكتل جيوسياسي:
أما الباحث عبد الجليل بن زيد المرهون فيعتقد بأن العالم الإسلامي هو عَلم على إطار جيوسياسي لمجموعة من الدول، تتجاوز روابطها المعايير الجغرافية والقومية، وتنتمي إلى دين واحد هو الإسلام. الأمر الذي يجعل العالم الإسلامي، بهذا المعنى، يصعب تعريفه على أنه نظام إقليمي، وذلك لغياب المشترك الجغرافي بين دوله. ويستند العالم الإسلامي إلى الإسلام، بما هو مشترك عقيدي – ثقافي، لكنه لا يمثل في الوقت ذاته، كافة الدول ذات الغالبية المسلمة، فضلاً عن عدم شموله الأقليات الإسلامية في العالم؛ فيكون المقصود بالعالم الإسلامي ـ حلا للإشكال ـ مجموع الدول السبع والخمسين التي تنتمي رسمياً إلى منظمة المؤتمر الإسلامي..وعلى الرغم من صعوبة التوصيف وبالتالي التعريف يبقى العالم الإسلامي تكتلاً جيوسياسياً، بالمدلول العام للمصطلح.( العالم الإسلامي رؤية جيوسياسية معاصرة، جريدة الرياض السعودية، العدد رقم 15033، يوم الجمعة 30 شعبان 1430هـ/ 21 أغسطس 2009 م، ص 28) .
من هنا يمكن ترجيح وجهة النظر التي تصر على أن مصطلح ” العالم الإسلامي ” هو من نحت طائفة من المستشرقين، قصدتْ به ” عالم الإسلام وأمته الكبيرة “، أي المناطق الجغرافية التي تستوطنها الشعوب الإسلامية، وخير دليل على ذلك المجلة التي أصدرها جمعٌ من المستشرقين في أوروبا بعنوان ( العالم الإسلامي ) خلال القرن التاسع عشر . لذلك راج مصطلح العالم الإسلامي في العقد الأول من القرن العشرين، ثم ما لبث أن تبلور في الدلالة وتطوّر في المعنى، حتى صار يُعبر به عن البعد الحقيقي للمجال الجغرافي الحيوي للأمة الإسلامية.. ووفق هذا المدلول يتم استعمال هذا المصطلح في أدبيات الفكر الإسلامي المعاصر.
ومع هذا التحديد المهم لمضمون هذا المصطلح، فإنه ينبغي الإقرار بأن “التشكيل الحالي للعالم الإسلامي لم يكتمل ولم يأخذ شكله الراهن، إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ضمن التشكيلة الجديدة للأقطار التي كانت منضوية تحت لواء الامبراطورية العثمانية التي كان تمزيقها إحدى النتائج التي أسفرت عنها تلك الحرب في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين “(عبد العزيز التويجري، في البناء الحضاري للعالم الإسلامي، ج 6، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، ط1، الرباط ، 2004م، ص 11).
إن هذه الآراء ـ على الرغم من أهميتها الكبيرة ـ لا تغني بنظرنا، عن ضرورة بذل المزيد من الجهود الفكرية من أجل تقديم صياغة اصطلاحية للعالم الإسلامي، تستوعب كلّ مكوّنات الأمة الإسلامية، بحيث لا تنخرم من هذه الصياغة العناصر الفكرية والعقدية والجغرافية والعرقية واللغوية ونحوها، مع تحديد المجالات التي يحسن فيها استخدام مصطلح العالم الإسلامي، لذلك أقترح بهذه المناسبة أن تنشأ خلية بحث تكون تابعة لرابطة العالم الإسلامي، وخلية أخرى تشرف عليها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، تعمل كلٌّ منهما على إعادة النظر في المصطلحات والمفاهيم، التي تهم الأمة المسلمة، خدمة لفكرها وثقافتها، وصونا لأجيال الأمة الناشئة أو الصاعدة من عقابيل الغزو المفاهيمي، في ظل مرحلة زمنية وحضارية جديدة أسهم الانفتاح الإعلامي في فرض الكثير من استعمالاتها الاصطلاحية والأسلوبية والفكرية.
والله الموفق إلى كلّ خير .