مقالات

بمناسبة تكريمه في تلمسان كلمة في حق العلامة الأستاذ الدكتور عمار طالبي

أ.د. مسعود فلوسي *

إنَّها لمبادرة طيبة متميزة هذه التي أقدم عليها الخيِّرون من أهل تلمسان، والمتمثلة في الاحتفاء بتكريم علم من أعلام الجزائر وطوْد من أطوادها ورمز من رموزها العلمية والفكرية والثقافية، العلامة الأستاذ الدكتور عمار طالبي. هذا الرجل الذي ظل يُسهم في خدمة الوطن بالنضال في سبيله منذ شبابه الباكر وهو طالب في العشرينات من عمره، وما يزال كذلك وهو يعيش العام التسعين من حياته. كما ظل يعمل دون كلل أو ملل في خدمة العلم وطلاب العلم وتحقيق الصالح العام طيلة ستين سنة، أي منذ الأيام الأولى من استقلال الجزائر وتحررها من قبضة المستدمر الفرنسي الغاشم، ولا يزال إلى اليوم حاضرا بإنتاجه الفكري وإسهاماته العلمية في مختلف المناسبات على الرغم من ثقل السنين وتقدم العمر، وعلى الرغم من التجاهل والتهميش من القريب قبل البعيد.
تكريم علمائنا من حقهم علينا
إنّ الاحتفال والاحتفاء والإكرام الذي نقيمه لهذا الرجل وأمثاله من أعلام الجزائر ورجالها الكبار، هو -في الحقيقة – حق لهم في أعناقنا يجب علينا أن ننهض به تجاههم ونؤديه إليهم كاملا غير منقوص، عرفانا بجمائلهم الكريمة، واعترافا بجهودهم الحثيثة، وتثمينا لأعمالهم الرائدة، وإبرازا لمكانتهم المتميزة التي يجب أن تعرفها الأجيال الصاعدة حتى تتخذ منهم قدوة وإسوة تستنير بها في دروب الحياة المظلمة وتسترشد بها في اجتياز مسالكها الوعرة.
في حياة شيخنا الكريم عمار طالبي ومسيرته العلمية والعملية ثلاث خصائص بارزة وعلامات مميزة، كلها جديرة بأن يكون فيها موضعا للقدوة ومجالا للإسوة، نبرزها فيما يلي:


جد واجتهاد ومثابرة
أول هذه الخصائص والمميزات: الجد والاجتهاد، والمثابرة المستمرة، والكفاح المتواصل، وهذا ظاهر في كل مراحل حياته، منذ طفولته الباكرة، ومرورا بشبابه وكهولته وشيخوخته. وهذه الميزة ما تزال تحرك شخصية أستاذنا وتدفعه لمواصلة مسيرة العطاء الفكري والعلمي والدعوي رغم كل العوائق والمثبطات.
تظهر هذه الميزة بكل وضوح في رحلته الدراسية التي بدأها بتلقي القرآن الكريم في مسقط رأسه، ثم سفره إلى تونس سيرا على الأقدام والتحاقه بجامع الزيتونة الذي حصل منه على شهادة التحصيل سنة 1958، ومنه إلى جامعة القاهرة في جمهورية مصر العربية التي نال منها شهادة الليسانس سنة 1962، ثم رحلة البحث العلمي التي تكللت بحصوله على الماجستير من جامعة الإسكندرية سنة 1969 والدكتوراه من جامعة الجزائر سنة 1971. وقد واجه خلال هذه الرحلة صعوبات جمة لا يقوى على تجاوزها إلا من أوتي علو الهمة والصبر وقوة التحمل وسمو الطموح.
كما تظهر هذه الميزة أيضا في مسيرة حياته العملية التي بدأت من مركز تدريب وتكوين المعلمين في بوزريعة سنة 1962، وتواصلت منذ سنة 1963 في جامعة الجزائر التي عمل فيها أستاذا ورئيسا لقسم الفلسفة ثم مؤسسا وأول مدير لمعهد العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر، وتكللت بتعيينه أول مدير لجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة التي أدارها لمدة خمس سنوات اعترضته خلالها صعوبات وتحديات كثيرة، وبعدها انتقل إلى جامعة قطر التي عين فيها أستاذا ثم رئيسا لقسم الفلسفة لمدة تسع سنوات، ليعود بعد ذلك إلى الجزائر سنة 1999 مواصلا رحلة الإفادة للطلبة والباحثين في مختلف الجامعات الجزائرية.
وتتجلى هذه الميزة كذلك في الميدان العلمي الذي اهتم به أكثر في مسيرته البحثية ويُعتبر فيه رائدا غير منازَع وهو ميدان تحقيق التراث الذي يهرب منه أكثر الباحثين لصعوبته وتكاليفه، وهذه الميزة هي التي مكنته من أن يجمع تراث الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله وينشره في السنوات الأولى من الاستقلال، ويُعد رسالتي الماجستير والدكتوراه في هذا الإطار كذلك، ويحقق بعد ذلك العديد من المؤلفات لعدد من العلماء من أمثال ابن سينا والمازري وابن رشد وعبد الرحمن الثعالبي والأمير عبد القادر وعبد الحميد ابن باديس وعبد السلام السلطاني، وهو في كل ذلك لم يكتف بمجرد التحقيق وإنما أضاف إليه الدراسة والتحليل لهذه المؤلفات.

حضور فاعل مستمر
وثاني الخصائص المميزة لشخصية شيخنا حفظه الله؛ الحضور المستمر وعدم الانزواء أو الغياب، فهو قد شارك في النضال في سبيل تحرير الوطن منذ أيام دراسته في تونس، حيث انتمى إلى خلية حزب الشعب سنة 1953، وبعد اندلاع الثورة التحق بجبهة التحرير الوطني، وعند تأسيس الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين انخرط في صفوفه وأصبح مسؤولا عن الشؤون الثقافية في فرعه بتونس. وبعد انتقاله إلى القاهرة واصل نضاله في خدمة الثورة حتى الاستقلال.
ومنذ بداية حياته العملية بعد عودته إلى الجزائر، ظل حاضرا في كل المجالات التي تتناسب مع مؤهلاته وإمكاناته، فهو يكتب في المجلات والجرائد، وينجز وينشر المؤلفات والتحقيقات، ويدرس في المساجد، ويحاضر في الملتقيات والمؤتمرات والمناسبات الدينية والوطنية، ويُدرس في الجامعات ويُشرف على الرسائل العلمية ويشارك في مناقشتها، ويشارك في الحصص الإذاعية والتلفزيونية، ويَحْظى بعُضوية المجالس والمجامع والمؤسسات، كل ذلك داخل الوطن وخارجه.
وتظهر هذه الميزة بوضوح في المهام الإضافية التي حرص على القيام بها، بداية من مشاركته في تأسيس جمعية القيم، ثم إسهاماته في ملتقيات الفكر الإسلامي، ثم عضويته للمجلس الإسلامي الأعلى، ثم مشاركته في إعادة بعث جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وعضويته في قيادتها.

تنوع وثراء وخصوبة
وثالث الخصائص البارزة في شخصية أستاذنا أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية؛ التنوع والثراء والخصوبة، فهو لم يَكتف بالاهتمام بالقضايا التي يُمْليها عليه تخصصه العلمي وهو حقل الفلسفة بحيث ينكفئ عليه وينغلق في دائرته، وإنما انفتح على كل المجالات التي أمكنه أن يُسْهم من خلالها في خدمة العلم والمعرفة الإسلامية والثقافة الجزائرية بمختلف مكوناتها.
وهذا ما مَكن أستاذنا من أن يُبْدع ويُسْهم إسهامات كبيرة في مجال العلم والفكر والثقافة بإنتاجه العلمي والفكري الغزير الذي لم يتوقف طيلة ستين سنة وما يزال. هذا الإنتاج الكثير الذي تنوع من حيث الصورة بين المؤلفات والتحقيقات والمقالات والبحوث والدراسات والمحاضرات، وتنوع من حيث الموضوعات بين الفلسفة والفكر الإسلامي والتاريخ وتراجم الأعلام واللغة العربية وغيرها من ميادين الفكر والثقافة الإسلامية والعربية.
إنتاج عجز أن يحققه الكثيرون ممن تهيأت لهم فرص أكثر من تلك التي أتيحت لأستاذنا وتوفرت لهم إمكانات أفضل من تلك التي توفرت له، ولكن أعوزتهم الهمة التي أتاه الله إياها، وفقدوا الأهداف والطموحات التي ملأت كيانه واستولت على قلبه وعقله.

إنتاج علمي غزير
لقد بلغ مجموع ما أحصيتُه من أعمال شيخنا حفظه الله (وهو إحصاء تقريبي فقط): 13 كتابا مُؤَلَّفا، 20 كتابا مُحَققا، 60 بحثا علميا في المجلات العلمية المتخصصة وأعمال المؤتمرات والملتقيات العلمية الدولية، 42 مقالا في المجلات الثقافية الجزائرية: المعرفة، القبس، الأصالة، الثقافة، الرسالة، التبيان. إضافة إلى مئات المقالات في الجرائد الوطنية، لا سيما جريدة البصائر التي ينشر فيها كل أسبوع مقالين منذ عودتها للصدور في سلسلتها الرابعة، وقد صدر منها لحد الآن 1157 عددا. هذا دون احتساب محاضراته ودروسه المرتجلة في المناسبات المختلفة التي يُدعى إليها.
إنّ هذا العطاء العلمي الغزير والمتنوع الذي امتد على مدى أزيد من ستين عاما، جدير بأن يحظى بالاهتمام والدرس والتحليل من قبل باحثينا الناشئين، فيتخذوا منه مجالا لإنجاز مذكراتهم وأطروحاتهم العلمية وبحوثهم الأكاديمية. كما أنه جدير بالإشادة والإبراز من قبل رجال العلم والفكر في بلادنا فيوجهوا إليه الأنظار ويشجعوا طلابهم على دراسته وتحليله والانتفاع من مضامينه. وقد بدأ شيء من هذا الاهتمام والتوجيه، لكنه ما يزال محتشما وضعيفا ولا يرقى إلى المستوى المطلوب.
نهنئ أستاذنا وشيخنا العلامة الأستاذ الدكتور عمار طالبي على هذا التكريم والاحتفاء المستَحَق، ونسأل الله عز وجل أن يطيل في عمره وأن يبارك في أعماله وجهوده وأن يمتعه بالصحة والعافية ويوفقه للمزيد من العطاء العلمي والفكري النافع.
* كلية العلوم الإسلامية – جامعة باتنة1

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com