هل ينجح الرئيس ماكرون في ترميم العلاقة مع إفريقيا؟
أ. عبد الحميد عبدوس/
بدأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مطلع الشهر الجاري (مارس 2023) جولة إفريقية شملت الغابون وأنغولا والكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية كان هدفها الأساسي هو تبيض وجه الاستعمار الفرنسي.أقر الرئيس الفرنسي في جولته الإفريقية الأخيرة بوجود استياء متنام من فرنسا في إفريقيا مؤكدا أن: «إفريقيا لم تعد حديقة خلفية لفرنسا». لقد انقضى حقا ذلك الزمان الذي كانت فرنسا تتفاخر فيه بأنها إذا كانت لا تمتلك وسائل نقل قوات التدخل السريع إلى قارة إفريقيا، فإنها تتحكم في أنظمة إفريقية تصنعها على عينها وتسخرها لخدمة مصالحها على حساب مصالح وكرامة شعوبها. ويبدو أن الرئيس ماكرون يضع قضية استعادة النفوذ الفرنسي في إفريقيا على رأس أولويات السياسة الخارجية لعهدتيه الرئاسيتين حيث بلغت عدد زياراته للقارة السمراء 18 منذ وصوله إلى قصر الإليزيه عام 2017، ولم يسبق لرئيس فرنسي أن قام بكل هذه الزيارات إلى مستعمراته السابقة في إفريقيا.
لم يقتصر التراجع الفرنسي في قارة إفريقيا على وجودها العسكري ولكنه طال وجودها الثقافي واللغوي الذي كانت دولة الاحتلال السابقة تعتبرها من أهم وأدوم وسائل النفوذ و السيطرة في زمن الاستعمار الجديد، وتشكل الدول الفرنكفونية (الناطقة جزئيا أو كليا باللغة الفرنسية) حوالي نصف دول قارة أفريقيا ويقطنها زهاء ثلث سكان القارة، وتعتمد فرنسا على مستعمراتها السابقة كأساس لمنظمة الفرنكفونية (50 % من أعضاء المنظمة الأساسيين)، التي تعد من أهم أدوات السياسة الثقافية الفرنسية وقوتها الناعمة في العالم. ويوجد أعلى معدل استخدام للغة الفرنسية في أفريقيا، مثلا (61 في المائة من السكان) في الغابون البلد الغرب أفريقي الذي استهل به ماكرون جولته الأفريقية الحالية. وفي قمة الفرانكوفونية التي عقدت في شهر نوفمبر الماضي بمدينة جربة التونسية تحسر الرئيس الفرنسي على تراجع مكانة اللغة الفرنسية في بلدان المغرب العربي، خصوصا في الجزائر التي ظل مرضى الحنين الاستعماري يعتبرونها حتى بعد استقلالها ذرة تاج الإمبراطورية الفرنسية الثقافية واللغوية في القارة السمراء.
وبعد أن اتخذت السلطات الجزائرية قرارها السيادي بإدخال اللغة الانجليزية في برامج التعليم الابتدائي في الموسم الدراسي الحالي ، عبر السفير الفرنسي السابق في الجزائر، كزافييه دريانكور، عن صدمته قائلا: «هذا أمر مقصود، وهي رسالة لفرنسا، وطريقة لإخبار الشعب الجزائري أنه لا شيء خاص يتعلق بالفرنسية، فهي لغة مثل بقية اللغات”.
ورغم ما يبدو من ظاهر محاولات الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون لبناء علاقة جديدة بين فرنسا وإفريقيا إلا أنه لم يتخلص تماما من عقلية الاستعلاء الفرنسي تجاه القارة الإفريقية ونخبها وشعوبها،وما زال يتهمها بعدم إدراك مصالحها ونوايا حلفائها باتهامه للروس والصينيين بأنهم يخدعون إفريقيا لكونهم في واقع الأمر أكثر خطرا على مصالح الأفارقة من المستعمرين السابقين،ولذلك يدعي الرئيس ماكرون أنه: «في يوم من الأيام سوف يفهم الأفارقة أن خصومهم هم في الواقع مرتزقة روس ومستثمرون صينيون، أكثر بكثير من المستعمرين الأوروبيين السابقين». وتساءل: «ما هو الوقت الذي يستغرقونه ليدركوا ذلك؟».
ولكن رئيس الوزراء المالي الحالي، شوغل كوكالا مايغا ،كشف في مقابلة خاصة مع قناة «الجزيرة» في الأسبوع الماضي تفاصيل الانسحاب الفرنسي من بلاده، وقال إن لدى بلاده معلومات دقيقة وأدلة على أن بعض الإرهابيين في مالي كانوا على تواصل مع فرنسا. وأوضح مايغا «لم نتخلَّ عن التعاون مع فرنسا، ولكنهم أرادوا أن يفرضوا علينا ما نقوم به وما نعتقده، ونحن نقول لهم إن هذا العصر قد ولّى، فنحن نختار شركاءنا ونختار ما نقوم به»، مشيرا إلى أن الفرنسيين قرروا المغادرة بعد مجيء حكومة لا تروق لهم، على حد وصفه.
يمكن القول إن النفوذ الفرنسي في إفريقيا تعرض إلى ضربة موجعة بإعلان حكومة مالي يوم 2 ماي 2022 إلغاء الاتفاقيات الدفاعية الموقعة في 2014مع فرنسا بسبب ما وصفته بـ«الانتهاكات الصارخة للقوات الفرنسية المتواجدة في البلاد للسيادة الوطنية وخروقاتها الكثيرة للمجال الجوي المالي».
تدهور العلاقة بين دولة مالي وفرنسا تصاعد في بداية صيف العام الماضي (جوان 2021) عندما اتخذ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قرار خفض القوات الفرنسية في مالي، هذا القرار أثار حفيظة السلطات المالية التي وصفته بالقرار الانفرادي والسلوك الأحادي وأنه بمثابة تخل عن مالي. وإذا كان التدخل العسكري الفرنسي قد نجح من خلال عملية « سرفال» في وقف تقدم «حركة التوحيد والجهاد» نحو العاصمة باماكو، وتمكن من تفكيك «جماعة أنصار الدين»، إلا أنه لم ينجح في معالجة أزمة مالي من جذورها، و عجزت القوة العسكرية لفرنسا عن حل مشكلة الإرهاب، وبعد ثماني سنوات من العمل العسكري وخسارة العديد من جنودها وملايير اليوروهات، قررت الهروب من المستنقع المالي، مما فاقم شعور السخط والنقمة ضدها في أوساط المواطنين الماليين الذين أصبحوا يرون وجودها في ظل هذه الظروف «احتلالا».
ولم تجد فرنسا ما تبرر به فشلها العسكري والسياسي في مالي سوى إلقاء اللوم على مجموعة «فاغنر» الروسية التي حققت في ظرف وجيز ما لم تحققه فرنسا خلال سنوات عديدة من وجودها. وأضيف هذا الفشل في مالي إلى الفشل الذي لحق بالتدخل الفرنسي في جمهورية إفريقيا الوسطى،الذي تم بعد الإطاحة بحكم عميلها الرئيس فرانسوا بوزيزي ووصول ميشال دجوتوديا لسدة الرئاسة بدعم من قوات المعارضة المسلحة «سيليكا» التي رفعت السلاح للدفاع عن حقوق الأقلية المسلمة المضطهدة، وكان دجوتوديا هو أول رئيس من أصول مسلمة يصل إلى الحكم في دولة إفريقيا الوسطى بعد 64 سنة من الاستقلال الشكلي عن الاستعمار الفرنسي، قامت فرنسا بارسال قوة عسكرية قوامها 1600 عسكري تحت غطاء إيقاف الحرب الأهلية بين الجماعات المسلحة المسيحية والجماعات المسلحة المسلمة، ولكن ما لبث أن اتخذ تدخلها طابعا صليبيا منحازا للطرف المسيحي، حسب العديد من سكان جمهورية إفريقيا الوسطى المنتمين إلى الأقلية المسلمة.
الطابع الاستعماري والنهب الاقتصادي اللذان نتجا عن التدخل العسكري الفرنسي المباشر في مالي وإفريقيا الوسطى، والكوارث الاجتماعية والمآسي الإنسانية التي تسبب فيها، فجرت مظاهرات شعبية عارمة قام بها سكان الدولتين ضد الوجود الفرنسي وجعل السلطات في الدولتين الإفريقيتين تلجأ إلى الاستعانة بقوات أمنية من مجموعة «فاغنر» الروسية لتعويض القوات الفرنسية، واستطاعت قوات «فاغنر» الروسية التي رغم قلة عددها مقارنة بعديد القوات الفرنسية في وقت وجيز ان تسلب القوات الفرنسية معظم مرتكزات نفوذها في هذين البلدين الإفريقيين اللذين كانت فرنسا تعتبرهما من مناطق سيطرتها السياسية والاقتصادية واللغوية، ولكنهما أصبحا في الوقت الراهن مجرد نموذج عن انحسار النفوذ الفرنسي في إفريقيا، وتراجع مكانة فرنسا ووزنها العسكري في العالم.