بمشاركة جزائرية واسعة المؤتمر الدولي «عبد الحميد أبو سليمان وإسهاماته في الإصلاح الفكري والتربوي» بماليزيا
أ.د. عبد الملك بومنجل/
في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي عرفت مكة المكرمة شابا حادَّ الذكاء متقد العزيمة مستغرق التفكير في شؤون قلَّ أن ينشغل بها الشباب في مثل سنه: حال الأمة الإسلامية، وسبب تخلفها، وأزمة الفكر فيها وحظ العقل من نمط تفكيرها وسلوكها. وفي مطلع الستينيات احتضنت القاهرة هذا الشاب المفكر الطموح باحثا في كلية التجارة بقسم العلوم السياسية يشرع في تنفيذ مشروعه الفكري بأطروحة ماجستير عنوانها «نظرية الإسلام الاقتصادية: الفلسفة والوسائل المعاصرة». وفي مطلع السبعينيات تشهد جامعة بنسلفانيا بمدينة فيلادلفيا الأمريكية تتويج الطموح العلمي والفكري لهذا الشاب بأطروحة دكتوراه في العلاقات الدولية نُشرت بعدُ بعنوان: «النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية». وبدا من عنوان الأطروحتين أن الرجل قد جمع همّه على التفكير انطلاقا من المرجعية الإسلامية في كيفية مواجهة التحديات النظرية والواقعية المعاصرة بمنهج في النظر والعمل يتخذ من الإسلام قاعدته، ومن التجديد الفكري وسيلته، ومن التزام المنهجية العلمية منهجه وفلسفته، ذلك هو المفكر الإسلامي عبد الحميد أبو سليمان، الذي يصف منهجه في النظر بأنه «منهج مؤلف من نصوص الوحي ومقاصده، ومن حكمة تنزيل الوحي على العهد النبوي، وحكمة تطبيقاته في صدر العهد الراشد، ومن دراسات الفطرة الإنسانية الاجتماعية والسنن الكونية في واقع الزمان والمكان؛ بالتزام منهجيّ موضوعيّ استنباطي استقرائي منضبط، قدر الطاقة والإمكان».
وعلى امتداد السبعينيات ثم الثمانينيات وما بعدها، انتقل الرجل المفكر من التنظير إلى العمل، فبحث عن الوسائل العملية لتجسيد مشروعه في معالجة الخلل الفكري والتربوي الذي يمنع العقل والوجدان والإرادة لدى المسلم من تحقيق النهوض الحضاري، فكان مؤسسا لعديد المنظمات الطلابية والشبابية الإسلامية والهيئات العلمية البحثية في أمريكا حيث استقر مقامه، وكان أكبر إنجازاته في هذا المضمار تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في 1981، ثم تأسيس الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا في 1983؛ وقد ترأس كليهما مدة طويلة، وسعى من خلالهما إلى تنفيذ مشروعه القائم على ثلاثة أركان هي: الرؤية الإسلامية للوجود، والتكامل المعرفي بين معارف الوحي والعلوم الكونية، والتزام المنهجية العلمية الموضوعية العقلية السننية.
في رحاب هذه الجامعة، وبتنظيم من ذلك المعهد، واحتفاء بهذه الشخصية الفكرية والتربوية الإصلاحية الفذة، انعقد يومي 21 و22 من شهر فبراير 2023 المؤتمر الدولي «عبد الحميد أبو سليمان وإسهاماته في الإصلاح الفكري والتربوي». وكان لافتا للنظر تلك المشاركة الواسعة من قبل الباحثين الجزائريين؛ فمن أصل ثمانية عشر باحثا مشاركا باللغة العربية كان حظ الباحثين الجزائريين من هذا العدد ثمانية، وهم: عبد الملك بومنجل وعبد الرزاق بلعقروز وعبد الحليم مهور باشا (جامعة سطيف2)، وعمار قاسمي (جامعة الأمير-قسنطينة)، وإسماعيل نقاز (غيليزان)، وبدران بلحسن وعز الدين معميش (جامعة قطر)، وصالح مشّوش (الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا). وكان شرفا للجزائر أن يشارك هذا العدد في مؤتمر عالمي كبير تنظمه جهة هي علامةٌ ومرجعٌ في تحري الجودة والتزام الصرامة العلمية.
في افتتاحية المؤتمر توالت الكلمات المحتفية بخصال الفقيد الذي رحل في 2021 مخلفا ذلك الرصيد الكبير من الإنتاج الفكري والعمل الميداني التربوي؛ فمن كلمة رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي الدكتور هشام الطالب رئيس المؤتمر، إلى كلمة الإعلامية منى عبد الحميد أبو سليمان ابنة المفكر الراحل المحتفى بإسهاماته في الإصلاح الفكري والتربوي، إلى كلمة الدكتور عبد العزيز برغوث عميد المعهد العالمي للفكر الإسلامي والحضارة ممثلا لمدير الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا (وهو قامة علمية وإدارية جزائرية عالية). تخلل ذلك عرض فيلم وثائقي عن المرحوم عبد الحميد أبو سليمان. وربما كان طبيعيا أن تكون الكلمات كلها بالإنجليزية، لأنها اللغة العالمية الجامعة بين الجنسيات المختلفة التي جمعها هذا المؤتمر، ولغة التدريس في الجامعة الحاضنة.
وانتقل الباحثون بعدها إلى الجلسات العلمية فانقسموا فريقين: فريقا للغة العربية وفريقا للغة الانجليزية، فكانت الجلسة الأولى معنية بدراسة مسار الرحلة الفكرية لعبد الحميد أبو سليمان بمحاضرة للدكتور عبد الرزاق بلعقروز عنوانها «أدبيات عبد الحميد أبو سليمان: قراءة تحليلية معرفية»، ومحاضرة للدكتور بلال التليدي عنوانها «تحولات الخطاب الإصلاحي عند عبد الحميد أبو سليمان» ومحاضرة للدكتور بدران بلحسن عنوانها «من أزمة العقل المسلم إلى أزمة التربية والوجدان والرؤية الحضارية: قراءة في التحولات الفكرية لعبد الحميد أبو سليمان»، ومحاضرة الدكتور توفيق بن عامر التي حملت عنوان «منزلة المفكر عبد الحميد أبو سليمان في تاريخ الفكر الإصلاحي الإسلامي الحديث». وقد كانت محاضرات عالية القيمة، كان حديث التحولات الفكرية مدارها، تلاها نقاش واسع مالت الكفة فيه إلى القول بأن أزمة العقل وأزمة الوجدان وأطروحة الرؤية الكونية والتركيز على تربية الطفل في سبيل إصلاح الخلل التربوي والعطب الحضاري من جذوره، لم تكن مراحل منفصلة في مسار المفكر، بل كانت في صميم رؤيته الكلية منذ شبابه، وإنما كان تركيزه في بعض المراحل على بعضها أكثر من بعضها الآخر استجابة لما كانت تفرزه التجربة الإصلاحية الميدانية من تحديات.
وتوالت بعدها الجلسات موزعة على محاور المؤتمر ويوميه؛ فعالج المحور الثاني الجانب التربوي من تجربة عبد الحميد أبو سليمان بمحاضرة للدكتور خالد الصمدي عنوانها «استعادة روح الاستخلاف مشروع الإصلاح التربوي لعبد الحميد أبو سليمان في ضوء حاجة الواقع التعليمي المعاصر»، ومحاضرة للدكتور صالح مشّوش بعنوان «موقع التفكير الإبداعي في مشروع عبد الحميد أبو سليمان التربوي»، ومحاضرة الدكتور إبراهيم القادري بوتشيش بعنوان «التربية على السلم ومناهضة العنف في فكر عبد الحميد أبو سليمان»؛ وهي موضوعات تربوية ذات أهمية بالغة في مشروعه الإصلاحي، وعالج المحور الثالث الجانب المنهجي من فكر أبو سليمان، فتناول الدكتور السيد عمر «مفاتيح الإصلاح المنهجي للفكر الإسلامي» وتناول الدكتور فتحي ملكاوي موضوع «الاجتهاد والتجديد»، والدكتور رشيد كهوس موضوع «الوعي السنني»، والدكتور عبد الحليم مهور باشا «الرؤية الكونية القرآنية والتأسيس الإبستيملوجي لعلوم اجتماعية إسلامية». فقدمت محاضراتهم إضاءات من زوايا مختلفة لتجربة مفكر كان شعاره المنهجية والسننية والرؤية الكونية القرآنية.
واختص المحور الرابع بدراسة موقف عبد الحميد أبو سليمان من الفكر الغربي في إطار تصوره لجدلية الذات والآخر؛ فكان للدكتور عبد الملك بومنجل محاضرة عنوانها «الفكر الغربي في منظور عبد الحميد أبو سليمان: منهج النظر ودواعي أسلمة المعرفة» نبّه فيها على أن موقف أبو سليمان من الفكر الغربي بني على أساس منهجي محكم ينطلق من فكرة أن الموقف من الآخر ينبغي أن يتأسس منهجيا على معرفة الذات أولا، وأن معرفة الذات تتطلب امتلاك رؤية كونية للوجود، ولمّا كانت رؤيتنا للوجود تتأسس على مرجعية قرآنية إسلامية وجب أن يكون موقفنا من الفكر الغربي مؤسسا على مدى توافقه مع الخاصية الروحية الأخلاقية الاستخلافية لرؤيتنا الكونية، ولأن العلوم الغربية مادية المنزع دنيوية الوجهة وجب أن يكون للمسلمين استقلالهم المعرفي الذي يجسده المصطلح الذي عرف به المعهد العالمي للفكر الإسلامي: أسلمة المعرفة.
وفي المحور نفسه قدم الدكتور عز الدين معميش محاضرة عنوانها «التثاقف والعلاقة بين الذات والآخر في فكر عبد الحميد أبو سليمان»، وتناول الدكتور عمار قاسمي «مفهوم العقل وموقعه ومهامه في النموذج المعرفي عند الدكتور أبو سليمان»، وتناول الدكتور وائل الكردي «التأسيس الفلسفي للعمران الخيّر في قصة (كنوز جزيرة البنائين)، وتناول إسماعيل نقاز «سؤال المنهج التوحيدي في تقويم المنجز الحضاري»؛ وهي محاضرات تلامس مواضع التماس توافقا وتخالفا بين الرؤية الإسلامية والمنجز الحضاري الغربي.
وقد تخلل المؤتمر شهادات قيّمة من لدن الذين عرفوا المفكر وعملوا معه وخبروا أخلاقه ومنهجه في النظر والعمل، فأشاد جميعهم بما اتصف به من تواضع في التعامل وصدق في خدمة قضيته ومشاريعه، وتفان في القيام بأعباء المهمة الإصلاحية في إدارة المعهد وإدارة الجامعة الإسلامية، ومن شجاعة في التفكير والنقد والصدع بالحق، ومن هيبة جلبت له الاحترام، واحترام للرأي الآخر وتشجيع على النقد.
وكان ختام المؤتمر مكللا بحضور نفيس من راعي المؤتمر وأحد مؤسسي الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم، فألقى كلمة، وسلّم وتسلّم هدايا كانت كتبا حديثة الصدور، رمزا لنهضة حضارية ماليزية تقوم على أساس من العلم. ثم كانت لنا بعد نهاية المؤتمر جولات لاستكشاف بعض مظاهر الإبداع العمراني والعناية بالتعليم القرآني والسياحة الدينية، لا يتسع لتفصيلها هذا المقام.