أنوار القرآن بين الجزائر وسلطنة عمان(2)
أ.د. عبد الرزاق قسوم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
ذكرنا في العدد السابق أن الدورة القرآنية، ذات الأنوار المشعة، والتي أُسري بها من غرداية إلى مسقط،أن هذه الدورة من مزاياها أنها تفتتح يومها بالقرآن ترتيلا وتدبرا، وتختم يومها بالقرآن، تذكيرا، وتأثرا.
وكان من مقاصد هذه الدورة، إضافة إلى ما سبق ذكره من استنباط لمعاني العلم والإيمان ومن تبليغ للخطاب الإسلامي بمنهجية وموضوعية، ما يلي:
3- إعادة بناء الإنسان:
ركزت الدورة – طيلة سيرها- على إعادة بناء الإنسان المتعامل مع القرآن، بوعي، وذلك بهدف مساهمة هذا الإنسان المسلم، في مشروع بناء المستقبل الأمثل، للمجتمع الإسلامي الأفضل، بعد تحصين المسلم ضد داء فقد المناعة العقدية، والسلوكية، والوطنية، والحضارية.
4- تعميق معنى الانتماء:
إن تعميق معنى الانتماء إلى الأمة الإسلامية، يجعل المسلم يسمو عن كل أنواع العصبية، والإقليمية والطائفية والمذهبية، ذلك أن الأمة الإسلامية هي الحصن والحضن، الحاميين لكلّ وطن مسلم لتحصين مواطنيه ضد كلّ أنواع الذوبان، والانسلاب، وبعث الاعتزاز لديه بهويته، وعقيدته وحضارته.
ولا يمكن أن يكون هذا إلاّ بتحسين التعامل مع القرآن، أي بإدراك مقاصده، وتجسيد مبادئه، وحسن استعمال مفرداته ومصطلحاته.
5-العناية بملكة التبليغ السليم:
ركزت الدورة القرآنية على العناية بالقرآن لفظا وأسلوبا، وإعجازا، ودلالة، وأحكاما، من أجل تقوية ملكة التبليغ السليم للخطاب الإسلامي خصوصا من الجانب الأخلاقي والمنهجي. وكيف يتم ذلك؟ .. إن ذلك لا يمكن تحقيقه إلا بتنزيل المعاني على كل شكل من أشكال الحياة الفردية والمجتمعية، والإنسانية، للفرد المسلم.
ويكون ذلك بالتشخيص المحكم لواقع الإنسان المسلم، في ضوء الأحكام القرآنية، واستلهام مقاصدها البعيدة المدى لاستخلاص العلاج الناجع الكفيل بالنهوض بالأمة من كبوتها، والعمل على استعادة قوتها من خلال تحقيق وحدتها.
6- العناية بالمنهج:
حظي المنهج في هذه الدورة القرآنية بعناية خاصة بوصفه، أي المنهج، عاملا هاما في عملية الاستنباط، والبرهنة، والإقناع.
ويبقى مفتاح المنهج هو المصطلح الذي سبق وأن أشرنا إليه.
ومن المصطلحات التي وقع التركيز عليها في الدورة مصطلحا الوجود والعدم. فمصطلحا الوجود والعدم يمثلان المعضلة التي انقسم الناس حولها إلى مؤمنين وملاحدة.
فالمؤمنون هم الذين يسلمون بأن للكون خالقا، وهو الله عند المسلمين، وهو العلة الأولى، أو المبدع الأول عند الفلاسفة غير المسلمين، ونتيجة لذلك فإن هذا الخالق المبدع، هو الذي أنشأ الكون من العدم والآيات الدالة على ذلك كثيرة ومنها:
﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ﴾ سورة الصافات –الآية 11-
﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ سورة طه- الآية 55-
أما من الناحية العقلية فهناك أدلة كثيرة على إثبات وجود الله، مثل دليل الكمال ودليل العناية، ودليل الغائية وغيرها.
وهناك الوجوديون المؤمنون، والوجوديون الملاحدة. وكلا الفريقين بنيا نظريتهما على مفهوم الوجود، الإلهي، أو الإنساني.
ويهمنا هنا، أن نذكر الوجودية الملحدة التي قامت برعاية الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، الذي استلهم مذهبه من مأساة الحرب العالمية ، وما خلّفته من دمار فهَبَّ للدفاع عن الوجود الإنساني، في عتو ونفور، مع أنه ادعى أن الإنسان الوجودي يملك من الحرية، مقدار ما يعطيه المسلم لله، فالله عند المؤمن يفعل ما يشاء، والإنسان عند الوجوديين يفعل ما يشاء.
ولكن نُقل عن زعيم الوجوديين سارتر، أنه عند ما حضرته الوفاة اعترف وقال: « لقد هزمتني فلسفتي».
وأيضا فإن من المصطلحات التي استوقفتنا الدورة بخصوصها، مصطلحا الخوف والطمع، فقد استلهم مهندس الدورة المصطلحين من قوله تعالى:
﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ سورة السجدة –الآية 16-
وبنوع من التدقيق تبين أن الخوف من الله يختلف الخوف من الإنسان.
فالخوف من الله يعني اللجوء والعودة إليه ثقة في عدله، ورحمته، بينما الخوف من الإنسان يعني البعد عنه واتقاء اللقاء به خوفا من بطشه وظلمه.
وكذلك مصطلح الطمع، فالطمع في الله عنوان عزة وكرامة، بينما الطمع في الإنسان هو مذلة ومهانة.
وإذن فهناك الخوف المادي والخوف الغيبي كما أن هناك الطمع المادي والطمع الغيبي وكلّ ذلك يدركه أولو الألباب، فهم أخص الناس بالتدبر في آيات الله : ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ﴾ سورة آل عمران- الآية 191-
﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ سورة الغاشية- الآية 17-
ومن خصائص الإبل الاعجازي ، أن الله خلقها خصيصا لمناخ الصحراء، فهي توصف بأنها سفينة الصحراء.
ومن خصائص الإبل أيضا أنها مزودة بخزان ماء، يكفيها لأيام عديدة، علما بأن الصحراء قاحلة وقد لا يكون الماء متوفرا فيها بكثرة، فالإبل تملأ خزانها لأيام عديدة.
والأهم من ذلك أيضا، أن الإبل تحب الموسيقى ولو ظللتَ تُغني لها، لتمادت في السير إلى أن تهلك، وسبحان الله.
وقد عرف رعاة الإبل ذلك، فقال قائلهم:
فغنّها، فهي لك الفداء إنّ غناء الإبل الحُداء
﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ [سورة لقمان –الآية 11-]
هذه يا قارئي العزيز نماذج أخرى من أشعة الدورة القرآنية التي عشنا في ظلالها- بسلطة عمان – والتي هي امتداد لما تعودنا عليه في مدينة غرداية.
وسنواصل في حلقة قادمة -إن شاء الله – تسليط الضوء على خصائص ومميزات أخرى لهذه الدورة، آملين استخلاص المعاني والعبر، من تجربتها.
(يتبع)