كلمة مدير مركز الشهاب للبحوث والدراسات بمناسبة الذكرى 10 لتأسيس المركز
د. علي حلتيم/
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. الشيخ الرئيس الدكتور عبد الرزاق قسوم.. السادة الضيوف كل باسمه وصفته ومقامه لا أستثني أحدا..
زارتنا منذ سنوات أستاذة فلسفة من إحدى جامعات الوطن بمناسبة أحد ملتقيات مركز الشهاب. وعلى طاولة الغداء سألتها عن رأيها في المركز وفي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فقالت لي أصدقك القول أني حين أرسلت ملخص محاضرتي لم أكن واثقة تماما من جدوى ما فعلت، وقال لي الأساتذة الزملاء في كلية الفلسفة:
– لا تطمعي أن يقبل مشاركتك معهم هؤلاء المتزمتون المنغلقون على أنفسهم الذين يعتقدون أنهم يملكون الحقيقة وحدهم دون سائر البشر فسألتها بدوري:
– وما رأيك الآن؟
فقالت:
– لقد تغير في نظري كل شيء!
وأضافت:
– والمدهش في الموضوع أنه لا أحد حاسبني لا قبل المحاضرة ولا بعدها عما قلت وما لم أقل سوى ما كان من النقاش العام الذي أحببته!
ثم سألتها
– وهل سيقبل هؤلاء الأساتذة لو أرسل لهم أحدنا ملخص مداخلة لنشاركهم في نشاطاتهم؟
فتبسمت وقالت
– لا أظن!
فقلت في نفسي لحظتها: ما أعظم أن يكون من أهداف مركز الشهاب أن يغيّر كل هذا ويدفع الجزائريين إلى أن يقبلوا بعضهم بعضا ثقافيا ويكونوا جزائريين بحد أدنى مشترك من الثقافة والتاريخ والهوية واللغة والوطن، ويكونوا أحرارا بعد ذلك.
لكن كيف يتغيّر الناس؟
يتغير الناس عندما يصابون بما يكفي فيحرّكهم مصابهم، وعندما يرون ما يكفي ليلهمهم، وعندما يتعلمون ما يكفي ليرشدهم، وعندما يجدون ما يكفي من الأدوات لتمكنهم من التغيير.
لكن بعض الناس لا يريدون أن يتغيروا؟!
إنهم لا يريدون أن يتغيروا لأن التغيير له كلفته الباهظة على المستويين النفسي والاجتماعي، والعزوف عن التغيير له أسبابه وله دوافعه. إن أكبر دوافع العزوف عن التغيير هو الرغبة في البقاء في منطقة الأمان. 80% من الناس لا يريدون التغيير لأنهم يفضّلون البقاء في منطقة الأمان بدل سلوك دروب التغيير لأنهم يفضّلون الطرق التي يتعرضون فيها لأقل العوائق.
والجزائريين لا يسمعون لبعضهم ولا يريدون أن يغير بعضهم بعضا رغم وجود الدوافع والحوافز والعوائد، فكيف نجعلهم يفعلون ذلك؟ كيف نجعلهم يسمعون لبعضهم وكيف نرجع لهم الثقة في بعضهم وكيف نوحّد النظرة حول الوطن والهوية والهدف.
كيف نجعلهم يقولون: من نحن كجزائريين وماذا نريد كجزائريين؟
وأول العوائق في سبيل التغيير هي أن الناس يصرفون أذهانهم حين نتحدّث عنه كما تفعلون أنتم الآن إلى حقول من الصراع السياسي والإيديولوجي لسنا نقصدها بكل تأكيد. إن التغيير الذي يبدأ بالمختلف فيه وينصرف عن المتفق عليه، ويتحمّس للمواضيع التي يستحيل حلها ويفتر عن المجالات التي يتفق كل المواطنين عليها لا يسمى تغييرا بل هو رغبة في الخصام والخصومة ولذلك فأنا أقصد بالتغيير أمورا أخرى أسهل إذا تناولناها من جهة التناول والإمكان لأنها ناعمة لا تثير حساسية ولا جدلا، وأصعب إذا درسناها من جهة التحقيق لأن الناس يزهدون فيها.
واذا كان التغيير صعبا فإن الجمود أصعب وأعلى كلفة!
نحن ننتظر دوما ليتغير حالنا الى الأحسن ولكن متى سيكون ذلك ومن طرف من إذا لم يكن من عندي أنفسنا؟
وحين نذهب نسأل أنفسنا كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه ولماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه وكيف الرجوع إلى ماضينا التليد، وكيف نبدأ التغيير دون أن نقع في محاذير الاستقطاب والتراشق مع بعضنا البعض وكيف يكون التغيير بطريقة تحققه في الميدان ولا تحوله إلى عداوة وشنآن، فإن الثقافة ستجيبنا عن كل شيء، إن الثقافة ستشرح لنا الأسباب وتطرح علينا الحلول وتحل لنا كل المشاكل والمطبات وتعطينا أسرار النجاح وأسرار التزود بالطاقة التي نبلغ بها إلى أهدافنا!..
وأدركنا في مركز الشهاب أن البداية هي أن نبدأ نحن بنشر ثقافة التوائم والتوافق بدل أن نبقى واقفين في صف من يلعنون الظلام.
لقد عملنا في مركز الشهاب وتوافقنا مع أناس لا يجمعنا بهم إلا الوطن، والوطن كثير!
استطعنا ببعض النجاح أن نتعلم أن نسمع لبعضنا كخطوة أولى لنفهم بعضنا قبل أن نختلف في أشياء تستحق الاختلاف، لأنّ الاختلاف دون فهم ودون سماع متبادل هو صراع ديكة على حلبة موت بينما الآخرون يتفرجون ويراهنون على الغالب والخاسر، والكل خاسرون، والخاسر الأكبر الوطن!
وكانت الجامعة الصيفية إحدى أعظم هذه المحطات للانطلاق. إنها ليست جامعة بالمفهوم الكلاسيكي للكلمة حيث يطغى الجانب المهرجاني أو تتناول المواضع الثقافية الكبيرة، لكنها لقاء يجمع بين الترفيه والعمل لتعميق رؤانا الفكرية في المركز عبر دعوة أناس من خارجه من أصحاب الثقافة العميقة والتجربة الواسعة الذين يؤمنون أن الفكر الحقيقي هو الذي يؤدي إلى العمل والتغيير. ولكن الجامعة الصيفية كذلك منبر لأبناء المركز ليناقشوا فيها بكل راحة واطمئنان وصراحة وصدق أوضاع مركزهم تقييما وتقويما.
وتعلمنا في الجامعة الصيفية أن نكون أصدقاء، لأنه لا عمل بدون صداقة.
إني لا أكاد أجد الكلمات للتعبير عن هذا الموقف التاريخي بالنسبة لنا!
ليس لأن الكلام كثير فنحن لم نقم بشيء سوى أننا حاولنا أن نضيف صفحة في التاريخ الثقافي لجمعية العلماء وفي مدينة سطيف بالخصوص، ولا أجد الكلمات ليس بسبب قوة العواطف التي تجتازنا اليوم لأنها فرحة عارمة تخففها سكينة الشعور بالمنّة لله الواحد القهّار الذي وضعنا في درب العمل ولم يزيّن لنا دروب الكسل، إني لا أجد الكلمات لأني في حقيقة الأمر متردد بين أن أتحدث عما أنجزنا أو عما لم ننجز!.
لكن أظن ونحن في جو الاحتفال، وحتى لا نجرح مشاعر الذين يظنون أن حديث الإنسان عما لم ينجز هو أمر سيء في حد ذاته بينما نحن نراه أحسن الأمور؛ من أجل الحفاظ على هذا الجو الاحتفالي دعونا اليوم نتحدث عما أنجزنا وغدا إن شاء الله سوف نتحدث عما ينتظرنا من إنجازات وإن كنت أتمنى أن يكون على رأس انجازات المستقبل أحد غيري!.
إني أتمنى أن أفسح المجال لغيري لا ناكصا ولا مترددا ولا فارا ولا مدبرا عن هذا الطريق الذي آمنا به جميعا وصبرنا عليه سويّة وسطّرنا معالمه يوما بعد كل نجاح ويوما ثانيا بعد كل خيبة. ولكن حتى نهدم بمبادرة تبادل الأدوار تلك الفكرة الصنمية القاتلة التي رسخت في أذهان الجزائريين وفي عقل إنسان ما بعد الموحدين وهي ترقّبه دوما للإنسان الخارق والمسيح المخلّص الذي سينجز له كل شيء بينما دوره هو كما يفهمه هو أن ينتظر ذلك الإنسان قبل قدومه ويهلل له بعد مقدمه!..
والإخوة في مركز الشهاب يعلمون أني كنت مديرا بالطريقة الناعمة وكنت لا أعلم شيئا كثيرا عن الإنجازات والبرامج وكنت لا أعلم عن جل الأعمال تفاصيلها بل لا أكاد أسمع بها مجرد السماع فضلا عن أن أشترط الموافقة عليها أو أن أستشار فيها، بل كان دأبي دوما أن أنهر من يستشيرني في كل التفاصيل لأنه لا إبداع دون حرية بلا قيود، ولا إبداع دون تحرير المبادرة بلا مطبّات. واكتفينا في المركز بوضع تلك اللاءات الأربعة التي التزمنا بها طيلة عشر سنوات:
لا للعمل السياسي
ولا للعمل التجاري
ولا للعمل المخالف للقانون
ولا للعمل المخالف لمبادئ الاسلام
وأنبهكم أننا حينما نشترط أن لا يخالف العمل مبادئ الإسلام فإنّه ليس المقصود بذلك ما يتبادر إلى أذهان بعض الحاضرين أنّنا نمنع بعض التفاصيل التي طغت على المشهد الفقهي وحوّلت الدين إلى مجرد شكليات. إن كثيراً ممّن يستمسكون بالشكليات قد ضيّعوا روح الدين، بينما كثير ممّن يدّعون امتلاك روح الدين لا ترى ثمرة تلك الروح على سلوكهم وفي حياتهم لأنّهم يعيشون بلا روح. ولا نقصد بمنع مخالفة الإسلام أنّنا نمنع الحوار ونمنع النّاس من المشاركة لأنّهم يتحرّكون في مربّعات بعيدة عن مربّعاتنا. إن هذا المركز هو مركز جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وإن جمعية العلماء هي بيت كلّ الجزائريين بلا استثناء أحد، كانوا يقولون في زمن الاحتلال: جمعية العلماء هي ملاذ من يبيت ذاكرا ومن يبيت ساكرا (اللي يبات يذكر واللي يبات يسكر).
كيف يعقل أن أنطلق من دائرتي الخاصة لتغيير أحوال الوطن بينما أتجاهل بالكلية الدوائر الأخرى التي تنتمي للوطن وتفكر في التغيير وتسعى إليه؟.. أليس من منطق الحكمة أن أتحاور مع الدوائر الأخرى وأتبادل معها الرؤى والفكر ونتعاون في المتفق عليه من قضايا التغيير وهي كثيرة جدا ونعذر بعضنا أو نحاول أن نجد ميثاقا لكيفية إدارة المختلف فيه وهو قليل.
لقد علمنا ابن باديس كيف ندير الخلاف والتوافق مع الأخ القريب قبل أن ندير الحوار مع العدو البعيد لأن كثيرا من الناس يحسنون التوافق مع الأبعدين ويعجزون عن التعايش مع الأقربين.
كيف نحول الاستقطاب المدمر إلى تنافس مثمر ينتج عن قاسم مشترك من الهوية والمصلحة الوطنية والثوابت ثمّ يكون التنوع بعد ذلك عامل إثمار وتنوع، وعامل غنى لأمتنا كما هو عامل غنى للدول المتقدمة. والثقافة هي التي تمكننا من أن نمضي في طريق التغيير مع بعضنا لا ضد بعضنا!..
كيف نطور شخصيتنا؟.. كيف نجعل من الشخصية الجزائرية شخصية قوية بمعنى القوة الحقيقية وهي قوة التسامح وقبول الآخر والاعتماد على النفس وتقبل الأخطاء والتطوير الذاتي وغيرها من الخصائص.
إنّ طريق الثقافة هو الطريق الوحيدة لذلك. ربما هي طريق طويلة، ربما هي طريق شاقة، ربما هي طريق مكلفة، ولكنها الطريق الوحيدة. إن النهوض الحضاري يأتي بعد تغيير السلوك وإن السلوك هو ابن الثقافة، فإذا أردت أن تغير مجتمعا فغير سلوكه، واذا أردت أن تغير سلوكه فغير ثقافته. أما إذا أردت أن تغير السلوك من دون تغيير الثقافة فإنك بذلك تريد من الناس أن يكونوا جنودا لا مواطنين!..
لكننا تعلمنا من المنهج الباديسي المستمد من منهج النبوة أن نفكر في القضايا العامة المشتركة ثم نبدأ العمل بخطوات صغيرة في مشاريعنا الخاصة الصغيرة.
إن تجربتنا الصغيرة في مركز الشهاب علمتنا أن أكبر أعداء التغيير هم هؤلاء الكسالى الخياليون الذين تجدهم يحلمون بالليل والنهار أن يغيّروا العالم لكنهم لا يتجاوزون حلمهم قيد أنملة. يمكن لأحدهم في ساعة واحدة أن يتحول إلى بيل غايتس ومارتن لوثر وإيلون ماسك ويحطم الولايات المتحدة بمائة صاروخ عابر للقارات، وكلما كان عجزهم أشدّ كلما كان حلمهم أكبر.
إنما يكتب تاريخ أمّته من يخطو بها خطوة صغيرة إلى الأمام كل يوم.
لو سئلت عن كلمة واحدة تلخص سر نجاح المركز قبل غيرها لقلت: الإيمان وروح المبادرة والجماعة
لو سئلت عن كلمة واحدة تلخص سر الخيبات قبل قبل غيرها لقلت: التردد والتسويف
إنّ مركز الشهاب هو الجسر الكبير بين جمعية العلماء وباقي ومختلف الشرائح الثقافية في المجتمع الجزائري. إنه الرسالة الإنسانية الباديسية التي استودعها قلوبنا من بعده.
إنّها رسالة تقول أنّ الأخوة تبذل في المقام الأول ثمّ تتوسع الدائرة رويدا رويدا حتى تبلغ النّاس جميعا.
ومركز الشهاب يريد أن يصالح الجزائريين حول ثقافة مشتركة وتاريخ مشترك ووطن مشترك.
سنكون جيل هزيمة إذا لم نحافظ على نصر ثورة مجيدة أبهرت الدنيا، وجيل زيغ إذا فرطنا في هداية دين العالم أحوج إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى، وجيل خيبة إذا سلمنا لمن بعدنا وطنا خاويا.
لكن الطريق سيكون درب آلام جمّة تصلب على معالمه كل الرؤى والأحلام.
ولذلك ولأن الطريق كذلك فإني أريد أن أقدم باسم إدارة المركز شكرا كبيرا لكل من حاول تعطيلنا عن المضي قدماً لأنّه لم يزدنا بذلك إلاّ إصراراً، وكل من أساء فينا الظن لأنه لم يزدنا بذلك إلا عزما على شرح فكرتنا وخطتنا، وكل من رمانا بالبعد عن الدين لأنه زادنا يقينا أن الانفتاح هو السبيل الوحيد لإعلاء هذا الإسلام العظيم وتقديمه في أبهى حلّة للناس ولا حلّة أبهى من عرضه كما هو في صفائه الأول متخففا من عبء قرون الانحطاط وشذوذات التزمت والانغلاق وزيغ المنبهرين بالآخر المتغلّب، ونريد أن نشكر كل من ثبطنا عن مد يد المحبة لكل الجزائريين لأنه أقنعنا أن الحب الذي نبذله لغيرنا عاطفة عزيزة غالية لا يملكها كل الناس ولا يستطيع بذلها إلاّ من بذر الله في قلبه الإيمان وحب الأنام.
وأريد أن أقدم باسمكم جميعا شكرا صغيراً لكلّ من عمل في مركز الشهاب. لكل من صبروا مع بعضهم البعض حين كانوا بحاجة إلى الصبر، وتألموا معا حين كانوا يتلقون طعنات الإهمال وسوء الفهم، وتمسكوا بالأمل حين كانت ظلمات اليأس تريد أن تصرفهم عن العمل، واستمسكوا بوحدة المجموعة حين كنا نختلف في الأفكار وفي طرائق العمل وفي الأمزجة وفي كثير من الأشياء، لأن الجزائريين متفقون أن يختلفوا على كل شيء.
وأفضل من كل ما قلت سابقا قول من قال: الحمد لله رب العالمين!
شكرا لكم!