قصبة القصور … تاريخ عريق يقاوم الزوال والاندثار
د. بن سالم الصالح/
القصور هي إحدى البلديات التي تقع بالجنوب الغربي لولاية برج بوعريريج، تضم عدة قرى لعل من بينها قصبة القصور والتي تعد من أهم المناطق الأثرية والسياحية التي تزخر بها ولاية برج بوعريريج، فهي تتمتع بطراز معماري فريد من نوعه يعود لأكثر من 10 قرون كاملة، وأصبحت قبلة للسواح من داخل وخارج الولاية.
فتاريخ تشييد القرية يعود إلى الفترة ما بين (953-1005م). وتحصي قصبة القصور أكثر من 94 منزلا مصنوعا من الحجارة المصقولة، والتي تتماشى مع الطبيعة الصخرية للمنطقة، هذه المنازل تتميز بالبرودة في فصل الصيف وبالدفء في فصل الشتاء، وبذلك يتم الاستغناء تماما عن أجهزة التبريد والتدفئة الاصطناعية، وتتوزع المنازل على أربع حارات يحيط بها سور منيع تتخلله أربعة أبواب: (باب الضاوية، الباب القبلي، الباب الشرقي، الباب الجديد)، وتحصي قصبة القصور عديد المساجد العتيقة التي تعود إلى أكثر من 05 قرون، أشهرها: جامع أوشليق، الجامع القبلي، جامع البرقوقة، جامع سيدي المبارك الزهار، هذا الأخير شيد سنة 1695م من قبل الشيخ المبارك الزهار بن علي محمد الطيار، وليس ببعيد يتواجد الجامع الأبيض الذي يعود تاريخ تشييده لسنة 1680م.
طوبونيميا المنطقة تطرح عديد الفرضيات حول أصول الساكنة، فالقصور وما جاورها تحوز على أكثر من 25 مكانا تسمياته تبدأ بحرف التاء: تازروت، تيفرنت، تيحمامين، تاسة، تازقة، تاونت، تيزرغين، تاغاغت، توقاش، تاقصرين، تاقروش، تالة، توميات، تالامبالا، تيعنصرين، تيعرقاب، تاورطة، تيزوارط، تيويرقيوين، تاقحمامة، تاغوات، تاقرارةـ، تايرت، تيمنير، تيمزريت، وهي دلالة على أنها كانت موطنا لقبيلة صنهاجة البربرية قبل أن تصل العرب الهلالية مع القرن 11م وتنصهر مع هذه الساكنة، كما أدخل على طرازها المعماري المحلي تغييرات أبرزها الطراز الإسلامي (الحمادي) بحكم قربها من قلعة بني حماد بالمسيلة، ولايزال بها لحد اليوم عديد الآثار الحمادية خصوصا الأواني الفخارية، وقد عرفت القرية عديد الأحداث التاريخية المهمة خلال الفترة العثمانية والفترة الاستعمارية الفرنسية. لكن أشهرها اجتماع 03 سبتمبر 1956م بين قادة الولاية الثالثة برئاسة العقيد عميروش وقادة الولاية الأولى برئاسة عمر بن بوالعيد.
وليس ببعيد عن المنطقة نجد زاويتين عامرتين، الأولى وهي الزاوية الأم وتقع بقرية تازروت، وتسمى زاوية سيدي علي الطيار، شيدت في حدود 1785م، وتخرج منها عديد الأعلام لعل من أبرزهم الشيخ محمد بن أبي القاسم الهاملي (1824-1897م) مؤسس زاوية الهامل ببوسعادة، والثانية تقع بقرية العقاقين وهي زاوية الشيخ أحمد بن مليك الطايري، وتعتبر فرعا من الزاوية الأم، تم الشروع في عملية تشييدها سنة 1902م من قبل العلامة أحمد بن محمد بن عبد المالك بن المبارك بن علي الطيار الأزهري (1870-1914م)، وقد استعان في عملية البناء بمهندس إيطالي وأشهر البنائين في المنطقة، وقد وفر لهم كل ما يحتاجونه من مواد البناء، وتم الانتهاء من عملية التشييد سنة 1905م حيث فتحت أبوابها للطلبة.
وقد زادت شهرة هذه الزاوية بحكم أن مؤسسها درس بكل من: القرويين (فاس) والزيتونة (تونس) والأزهر (مصر)، وحصل من هذا الأخير على شهادة العالمية، وقد كانت الزاوية تحوز على خزانة ثرية جدا بالكتب والمخطوطات النادرة. إذ تذكر الروايات الشفوية المتوارثة في المنطقة بأن الشيخ عاد من مصر بحمولة 20 بغلا من أنفس المؤلفات والمخطوطات في شتى العلوم، لكن للأسف بعد وفاة الشيخ سنة 1914م ضاعت مؤلفاتها ومخطوطاتها الثمينة، ولم يبق بها حاليا إلا النزر القليل من المخطوطات.
وقد حاول الشيخ أحمد بن مليك الطيار أن ينقل لزاويته مختلف المناهج المعتمدة في أشهر المدارس الإسلامية في ذلك الوقت التي زارها ودرس بها. لكن بمرجعية دينية جزائرية، ولذلك استقطبت هذه الزاوية الطلبة من مختلف المناطق، ولعل من أبرز تلامذتها العلامة نويوات موسى الأحمدي أحد مشايخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وقد زادت شهرة الزاوية بعد زيارة الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس لها في حدود 1913-1914م بدعوة من صديقه الشيخ أحمد بن مليك ورفيقه في الدراسة بالزيتونة سنة 1908م، وقد أوصى الإمام عبد الحميد بن باديس بجعل هذه الزاوية منارة للتعليم الديني واللغوي بالمنطقة.
وقد عرفت الزاوية بعد وفاة مؤسسها أحمد بن مليك الطيار تذبذبا في التسيير بعدما خلف ولدا وحيدا اسمه (الزهار بسة) وعمره لا يزيد عن 4 سنوات، وبعدما شب هذا الولد تمكن من إعادة النشاط لهذه الزاوية، كما انخرط في الحركة الوطنية من بوابة حزب الشعب ثم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وبعد اندلاع الثورة التحريرية كان من السباقين للانخراط فيها حتى سقط شهيدا سنة 1957م رحمه الله، وانتقاما من دور هذه الزاوية في الثورة التحريرية قامت فرنسا بوضعها تحت الرقابة قبل أن تغلقها نهائيا، ودام هذا الغلق لعقود طويلة، إذ تحولت بعد الاستقلال إلى سكن عائلي لغاية 2011م. وقد قام أحد أحفاد مؤسسي الزاوية، ويدعى عبد الحق بسة بإعادة افتتاحها، وقد أصبحت في ظرف وجيز منارة للتعليم القرآني يقصدها الطلبة من مختلف المناطق داخل وخارج ولاية برج بوعريريج، كما يسعى لجمع تراثها المخطوط.
إن عراقة قصبة القصور جعلها قبلة للسواح وكذا المخرجين السينمائيين لتمثيل مختلف المسلسلات والأفلام، آخرها المسلسل الكوميدي باب الدشرة سنة 2018م، ويسعى ساكنتها للحفاظ على عراقة وأصالة هذه القصبة من خلال الترميمات التي أدخلت على معالمها المدنية والدينية، كما يسعون لتصنيفها ضمن التراث الوطني والدولي.
*(جامعة برج بوعريريج)